بين أسمرا والبحر : خريطة المنفى في مراكب الكريستال
قراءة في رواية الكاتب الارتري ابوبكر حامد كهال

بين أسمرا والبحر : خريطة المنفى في مراكب الكريستال
قراءة في رواية الكاتب الارتري ابوبكر حامد كهال
بقلم صلاح الدين راشد كاتب من ليبيا
مراكب الكريستال ، للكاتب ابوبكر حامد كهال ، ليست رواية بالمعنى المألوف ، وإنما اعتراف طويل يتلوه المنفى على مسامع الذاكرة ، أنين صادر من لحم إنساني مثخن بالخذلان والانتظار ، ومن روح تتأرجح على حافة الموج ، تبحث عن معنى للنجاة في اتساع البحر وضيق الأوطان . إنها حكاية لا تروى بقدر ما تنزف ، تخرج من بين تضاعيف الألم كما يخرج الضوء من شقوق الغياب ، لتعيد تشكيل الوجود في هيئة صدى متعب يتهجى أسماء المدن التي فقدت صورتها في المرايا . أسمرا ، التي تضيق بأهلها كما تضيق الروح بما لم يكتب لها ، تصير في الرواية مرآة للذاكرة حين تتحول إلى سجن جميل يضج بالشوق والعجز معا . كهال لا يكتب عن الحرب بقدر ما يكتب من داخل رمادها ، من صمت المرافئ التي تودع أبناءها واحدا تلو الآخر ، من وجوه أنهكها الانتظار حتى غدت ملامحها تشبه خطوط الرمل بعد انحسار الموج .
في نصه الروائي ، اللغة ليست أداة تستخدم ، وإنما كائن حي يتنفس ، يئن ، ويختلط نبضه بنبض الشخوص ، حتى تغدو الكلمات نفسها جسورا بين الذاكرة والمنفى . كل جملة فيه تحمل طعم الملح ، ووجع العابرين الذين لم يجدوا في البحر سوى مرآة لفراغهم . المنفى في مراكب الكريستال ليس مكانا ، إنما هو مصير إنساني متكرر ، امتحان للروح وهي تتلمس حدودها في الفراغ . لا أحد يسافر هنا ، لكن الجميع يساقون إلى عبور قاس ، كأنهم يطوفون في طقس فداء أبدي ، يحملون بلدانهم على أكتاف واهنة ، ويتركون خلفهم أسماءهم كأصداء مبللة بالدمع . عبورهم ليس نحو النجاة ، وإنما نحو نوع آخر من الحياة ، حياة تشبه الموت في بطئها وتأملها الطويل .
كهال لا يصف المنفى كجغرافيا بعيدة ، غير أنه يتلمسه كجرح يسكن الجسد ، كظل يطارد المعنى . يقف أمام البحر كما وقف كامو أمام العبث ، ينظر في عمق الموج فلا يرى سوى فراغ يشبه الانسان في هشاشته . تتجاور في النص ظلال ماركيز وغسان كنفاني والطيب صالح ، لكن كهال لا يقلدهم ، وإنما يعيد صنعهم في ذاكرته الخاصة ، حيث يتحول الصمت إلى قبور مفتوحة ، والانتظار إلى نشيد للذين لم يصلوا بعد . الغربة لديه ليست صراعا بين الذات والآخر ، بل بين الذات وظلها ، بين منفى الخارج ومنفى الداخل ، حين يصبح الوطن هو الجرح ذاته . تجري اللغة في الرواية كأنها نفس واحد ممتد ، لا يعرف التوقف ، مشبع بالحزن والدهشة ، يتماوج بين الشعر والرؤيا . البحر لا يظهر كخلفية ، إنما هو قدر يسكن النص ، صوت أبدي يذكر الإنسان بخوفه الأول من الغرق ، وبحنينه الغامض إلى الماء الذي شكله . كل مشهد فيه يفضي إلى سؤال واحد يتردد كصدى بعيد : هل النجاة حقا في الوصول ، أم في القدرة على الحلم وسط الغرق
مراكب الكريستال ليست رواية عن الهجرة أو الحرب ، لكنها عن الإنسان حين يفقد مرفأه الأخير ، عن الأرواح التي تحاول أن تظل حية في المدى الأزرق رغم كل شيء . نص يكتب وجعه بالحس لا بالحبر ، بالدموع لا بالكلمات ، ويترك في القارئ أثر الموج حين ينحسر عن الرمل : أثر من حزن ناعم ، ودهشة تذكر بأن النجاة الحقيقية ربما لا تكون في الوصول إلى اليابسة ، وإنما في التمسك بالحلم ، حتى حين يغدو الحلم نفسه آخر أشكال الغرق



