جاليريشخصيات

فلسطين عربية، عاصمتها القدس، بشهادة الفنان أنطوان جريس

مقال الجمعة، الحلقة 6، جزء أول، متحف اللوفر – باريس، بقلم: عبد الرازق عكاشة

في متحف اللوفر، لوحة تؤكد بطولات أحمد باشا الجزار، وخيانة نابليون للتاريخ الإنساني

اللون الأحمر الدرامي
 

دراما اللون الأحمر؛ يظل هناك جزء من مساحة العدل الساكنة في كل وجدان، وكل ضمير حي يخاف الله، أيًّا كان يعبد، أو أيًّا كانت ديانته. خاصة المبدعين، فهم الأقرب لحالة التصوف، العشق، الخوف، العدل، مهما بلغت بهم الجرأة.

في متحف المتاحف وسيدها: اللوفر، قلب العشاق، قبلة الغرام الإبداعي. نهر الألوان إبداع عشاق الرحمن.
هنا المتأملون جدًّا في الجمال، المندهشون جدًّا جدًّا بسحر الأحلام، الموهوبون أكثر في استنطاق الضمير.
هنا المتفرج هو “المشاهد الحقيقي”، هو الصادق، هو الفنان.
لأنه مستقبل جيّد للرسائل، كالإشارات اللونية الروحية في أعمال أساطين الفن في الحضارات وعصور النهضة.
هنا المشاهد الجيد (المتلقي): درويش سفر، عاشق لون، مبدع، مبصر.

اللون الأحمر الدرامي.. حكايات من اللوفر.
حيث يظل الكلام فعلًا يخرج من الداخل إلى الهواء الخارجي، حتى يتبخر إذا كان خفيفًا بسرعة شديدة، كحالة استهلاك لا قيمة لها.
أما الإبداع: لغة العين، وليس الفم.
الإبداع هو اللغة الأكثر ديمومة (استمرارية) وصمودًا، لأن العين تلتقط ما هو خارجي، تفرزه بصدق، فتخزن ما هو جيد منه، ليعيش حيًّا في منطقة أرشيف الذكريات، بالعقل والوجدان، وتستخرج منه ما هو ضروري وقت الإبداع.

في حين أننا جميعًا نتذكر تمثال رمسيس أو الهرم، حتى أفلام السينما الجميلة في الستينات: بركات، صلاح أبو سيف، أم كلثوم، وأصوات بلابل قراء القرآن: الشيخ صديق المنشاوي، عبد الباسط عبد الصمد، ولوحات الجزار، ندا، حامد عويس، يوسف كامل، محمود سعيد، محمد صبري، حامد عبد الله، تحية حليم، وغيرهم الكثير.

المقصود أن “الهري” في الكلام هو فعل داخلي فارغ، يخرج للفراغ، لينتهي حيث بدأ، حتى يتبخر.
أما الإبداع، فهو فعل خارجي من تدبير الرحمن.

مثلًا: مشاهدة الجمال، تصوير الحق، العدل، النوم في أمان، في حضن اللون، وكل شيء: الدهشة، التأمل، لخلق الله.
أشياء تنقلها العين إلى البصيرة، ثم للداخل، لتحافظ عليها الوجدان وأرشيف الضمائر.

لوحة جنود نابليون ومرض الطاعون.. نموذجًا
للفنان أنطوان جان جروس

اللون وضمير الفنان Antoine-Jean Gros

أنطوان هو ابن فنان منمنمات، كان معروفًا في البلاط الملكي، شرب حليب الإبداع منذ لحظات الحبو الأولى في فناء منزله الإبداعي.
ثم التحق بأستوديو الفنان دافيد، هذا الفنان الأشهر في ذلك الوقت، التحق بالقسم الحر لصغر سنه (من السادسة من عمره إلى الخامسة عشرة).
ظل أنطوان في مرسم دافيد، إلى أن توفي والده، فيُجبر على الاعتماد على نفسه، وهاجر إلى إيطاليا.

في بعض الروايات: قيل إنه هرب من ظروف خاصة.
ثم بعد حصار مدينة جينوه في معارك نابليون، يعود إلى باريس، ليفتح مرسمًا لتعليم الرسم عام 1779.
متأثرًا بالفنان البلجيكي المهم “ريبنز”، والذي يُقام له معرض استعادي مهم في متحف لوكسمبورغ، باريس، بالقرب من المركز الثقافي المصري، لو أحد يتذكره.
أقصد: المعرض مقام حاليًا لريبنز، الذي يصفه بودلير في ديوان “ازدهار الشر” بـ:

“يا نهرًا للنسيان، وبستانًا للكسل،
ووسادة من لحمٍ غض،
لا للغزل،
ولكن لتزدحم عليها الحياة وتضطرب بغير انقطاع،
كما يضطرب الهواء في الفضاء، والموج في البحر.”

نابليون.. طاووس منزوع الضمير
أما لوحة “نابليون يعالج مرضى الطاعون في عكا”، فهي إحدى أهم لوحات أنطوان جروس، صاحب الضمير (الملون بالصدق، والمخصب بالنقائية).
اللوحة تنتصر للضمير الإبداعي، وحق فلسطين.
فهي شهادة على نبل العرب، وعلمهم في السابق، طبعًا.

انتقل المحتل الغاشم نابليون بجنوده الثلاثة عشر ألف (13000) للهجوم على الشام، ذلك عبر رغبته في احتلال المدن الساحلية (كالعريش، غزة، يافا، حيفا، عكا)، كمدن عربية تحت الاحتلال الإسلامي العثماني؛
تلك المدن، يافا وعكا، المؤسسة قبل الميلاد على يد الكنعانيين.

فكان هجومه على يافا وعكا وحشيًّا إجراميًّا، كله حقد وهمجية.
فقتل 1400 أسير دفعة واحدة، وربما في يوم واحد.

هذه كانت وحشية الاستعمار في إفريقيا وآسيا وكل مكان.
قتل نابليون 1400 أسير فلسطيني ضد كل المعاهدات والقوانين الإنسانية، وجرب بهم طرق موت بشعة، بالطعن بالحراب، أو بالغرق الجماعي، حتى يوفر الرصاص خسارة فيهم.

This is a Digital Image not an actual print
Steel engraving
Digital image size 2953 x 2953 px
25.0 x 25.0 cm (300 dpi)

ضمير الفنان أنطوان جروس، الرافض لتصرفات القائد الظالم في صمت، كما ترشدنا أعماله الخالدة.
فالخلود هنا لا يقع تحت رغبة الدول فقط، إنما هو توافق مع عدالة المشاهدين عبر التاريخ.

فبرغم أنه كان مسجّلًا لمعارك نابليون في عديد الأعمال، إلا أننا لم نسجل مبالغات على الفنان أنطوان جروس في رسم القائد أو الانتصارات الحربية له، كما يفعل فنانون في المراحل الرخيصة بتاريخ الملوك والرؤساء، ثم تحرق الجماهير أعمالهم.

أيها السادة الذين يرسمون الحكام، الوزراء، المحافظين، الفنانات، المصالح: تأكدوا أنكم عبيد اللحظات البائسة، فالفن هو ضمير، وليس بضاعة رخيصة.

في لوحة “جنود نابليون ومرضى الطاعون في حصار عكا”،
تتّضح نُبل وجماليات العرب في اللوحة، وردّهم على حمق الغازي، باستخدام اللون الأحمر الدرامي، مُقلِّلًا جدًا من استخدام الألوان الأخرى؛
وبرغم أن الفنان لم يُرافق نابليون إلى الشرق، فإنه اعتمد على دراسات ورسوم صغيرة، كان يُرسلها له تلاميذه وأصدقاؤه مع الرسائل النصيّة.

وأعتقد أن نصوص الفرنسيين في الكتابة والوصف، كلها مشاعر ودقة في تفاصيل وجدانية تهزّ عدالة الجبال، انظر إلى نصوص بودلير الشاعر مع أعمال الفنانين في ديوان “أزهار الشر” الشهير.
فاللغة الفرنسية من أرقّ اللغات في الرسائل النصية.

أبو قير المصرية وغزو نابليون البربري

رسم أنطوان جروس لوحة “أبو قير المصرية وغزو نابليون البربري”، كنموذج موجود في قصر فرساي، لوحة طولها حوالي عشرة أمتار، في 6.5 أمتار عرض.
كذلك لوحة “معركة الهرم”، رسمت عام 1810، زيت على قماش، 3.89 م × 3.11 م، من مقتنيات قصر فرساي – باريس.
وفيها يُحارب نابليون أشخاصًا عُزّلًا بلا سلاح.

هذا النابليون الذي أقدم في عكا على نهب، وذبح النساء، الأطفال، والرجال، في منازلهم ومحلاتهم، لمدة ثلاثة أيام متتالية، رغم قلّة موارده وإصابة معظم جنوده بالطاعون، وهو يُحاصر عكا الصمود، بعد أن فشل في فك طلاسم يافا الحرة من قبل.


عكا الصمود وضمير الفنان

تكمن أهمية عكا الاستراتيجية في أنها ذات طريق بحري مهم يصل ما بين مصر والشام، أشبه بأهمية باب المندب حاليًا لمصر.
عكا كانت محطة مهمّة بالنسبة لحملة بونابرت، ونقطة تحوّل كبيرة في معاركه البحرية؛
كان نابليون يأمل أن يسيطر على ميناء عكا الحيوي، متيقنًا أن عكا لن تقاوم لأكثر من يومين، أو أسبوعين، فرحلة في فلسطين ثم تقع في قبضته.

لكن شيئًا من هذا لم يتحقق، بل العكس تمامًا هو ما حصل، من خلال صمود المدافعين، وتعرّض الفرنسيين للطاعون، والأمراض المختلفة، وقلّة الغذاء.

وهنا يتحرك ضمير المبدع في الاتجاه الصحيح، بدون ضجيج؛
يرسم أنطوان جروس الكارثة، مسجّلًا مشهدًا نادرًا لنُبل العرب، ومشهدًا دراميًّا كارثيًّا لجنود فرنسيين مرضى، لا حول لهم ولا قوة، يعالجهم الأطباء النبلاء العرب.

انظر إلى هذا العالِم العربي أو الطبيب، بالوشاح، والملابس الجميلة البيضاء، المحمّلة بحمرة اللون العام للجو الدرامي في العمل، وتاج رأسه، وكأنه تاج الحكمة والطب.

الغنى الفني في تشكيل الملابس والديكور الجمالي، وكأنهم أثرياء من العفة؛ ملابسهم أجمل من ملابس القائد نابليون نفسه.
في حين الجنود الفرنسيين يغلب عليهم المرض والهزيمة، بلا مقاومة ولا روح،
بعد موت ما يقرب من ألفي جندي فرنسي خلال شهرين من الحصار.

كان انسحاب نابليون مذلًّا، منكّسًا؛
ظلّ يُكابر أسبوعًا تلو الآخر، حتى قُتل جنوده من الأمراض والفشل.

أما نابليون، كما في اللوحة، فمجرد شخص يعطي الأمر بأبشع قرار:
أمرَ بعض الجنود الأصحاء بتسميم زملائهم المرضى أو الجرحى، حتى لا يتعرضوا للأسر، ويتم إذلالهم من العثمانيين، أو قطع الرأس كما تم إبلاغهم من بعض الجنود التائهين في الصحراء.


في قمة اللوحة، رسم الفنان أنطوان جان جروس عكا كأنها حلم بعيد في الأفق، هضبة عالية، صعب الصعود إليها،
ومسجد أحمد باشا الجزار، والمئذنة، كأنها مدفع صامد رافع رأسه إلى أعلى.

طريقة رسمه لأسوار عكا، وكأنها حصون تلتف وتلتحف بعضها البعض، بحميمية، وألوان حمراء بين الداكن والفاتح، كلها دفء.
في يمين اللوحة، رسم عربي في كامل الجمال والهيبة، يعالج مريضًا فرنسيًّا، وكأنه المسيح المكسور على صليبه، والعربي يعمل على صحوته.

وعربي آخر، في شمال اللوحة، جالس بكل تواضع وفخر، يعالج جنديًّا فرنسيًّا في حالة انهيار كاملة، بلا أعصاب ولا جسد لكي يقاوم المرض.
في حين أن العرب أجسامهم صحيحة، قوية البناء،
العرب هم أطباء العلاج بكل تسامح، رغم أنهم أمام معتدٍ عدوٍّ غاشم.


هذا هو جروس، الفنان الفرنسي الإنسان، صاحب الضمير،
يسجل للتاريخ، معتمدًا على دراما اللون الأحمر، المنسجم مع مأساة شعبه بصدق، أمام صمود شعب، وجدران، وأسوار فلسطين.

إنه يرسم دون غش، ولا تزيف، ولا انحياز.
حتى البناء الدرامي للعمل، مع التكوين اللوني، في حدود التقشف والاختصار…
مسافة مهمة جدًّا بين الانتقال بالحلم من عقل المحارب إلى ضمير الفنان.

تحويل المأساة الإنسانية الكبرى إلى ملحمة تشكيلية مهمة.
وملحوظة في اللوحة: هذا الذل، لهذه الهزيمة، هؤلاء الجنود المساكين، كم كُسرت أنفسهم، وسُلبت الإرادة… كل هذا دفع نابليون، بكل خبث،
وبروح انتقامية، إلى مناداة أن يكون لليهود وطنٌ في فلسطين،
وأن وعده الرسمي لهم جاهزٌ بشكلٍ خطّي، بشرط أن يكونوا معه في عكا، وليسوا ضده.

إيقاظ الفتنة، والخيانة الأولى في التاريخ الحديث.

🔶 تكملة يوم الجمعة بإذن الله، لتوضيح باقي الحقائق من خلال ضمير الفنان المبدع، والمختلف عن فناني ورقصات مهرجانات “أبو شلن” و”ادفع مرة تاخد شهادة، ادفع مرتين تاخد شهادة وسجارة” 😂. الفن رسالة يا سادة.
📍 متحف اللوفر – باريس
✍️ عبد الرازق عكاشة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى