أدب

الصورة في ديوان “سماء غزة .. تلال جنين” للشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى

بقلم مصطفى القرنه

‎يعد ديوان “سماء غزة .. تلال جنين” للشاعر عبدالله عيسى من أبرز الأعمال التي تجسد واقع غزة وجنين بكل ما فيه من آلام وصمود. هذا الديوان الذي يتناول معاناة أهل غزة تحت وطأة الاحتلال، يعبّر عن الظلم، والجوع، والقتل، ويكشف عن الأحلام الفلسطينية التي لا تتوقف رغم التحديات. الصور الشعرية التي يستخدمها عيسى لا تقتصر على التوثيق بل تتجاوز ذلك لتكون تأريخاً للألم الفلسطيني، وتعبيراً عن شجاعة تتحدى القهر.

عبدالله عيسى

الصورة بين الحقيقة والمجاز

‎عند التطرق إلى الصورة في ديوان عبدالله عيسى، نجد أن الشاعر لا يكتفي بتمثيل الواقع كما هو، بل يسعى لإظهار جوانب أعمق لهذا الواقع من خلال مجازاته وصوره الرمزية. في قصيدته “وستنتهي الحرب”، يظهر الشاعر الشخصية الفلسطينية في لحظة مواجهة مع الموت، حيث يقول: “ذلك الذي لم يمهله رسول الظلمات أن يتوسله”. في هذه الصورة، يعبر الشاعر عن الموت ليس كحدث مجرد، بل كحالة مفروضة على الفلسطيني، حيث يظل قابضاً على حلم الحياة رغم كل المآسي التي تلاحقه. هذه الصورة تتحدث عن الموت الذي يأتي مفاجئاً ودون إرادة، لكنها تؤكد في نفس الوقت على أن الفلسطيني لا يملك سوى الأمل في مواجهة الموت والظلم.

‎”لم أعش بعد كفايتي / فلا تعد بي إلى البيت” . كلمات أخرى تؤكد على الهروب المستمر من مصير معلوم، إذ يبدو أن الإنسان في القصيدة لا يرغب في العودة إلى منزله الذي يشهد على المقتلة والمآسي . في هذه الصورة، يبرز الشاعر التوتر الداخلي بين الحياة والموت، وبين الحلم والواقع، ويصوّر حالة الروح الذي لم يكتمل وجوده بعد.

‎الصور النفسية والوجودية :

‎أما في قصيدته “مثل رتل إبالسة”، يتخذ الشاعر صورة أكثر تشدداً حيث يصوّر المعتدين على الفلسطينيين وكأنهم “يتزاحمون على تشييد مجزرة جديدة”. هذه الصورة تعكس عدم توقف العدوان، وكأن المجازر جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية في فلسطين. يتزايد عنف الاحتلال لتصبح المجزرة تقليداً، يتكرر دون اكتراث.

‎الصورة هنا تتجاوز الحدث الفيزيائي للمجزرة لتعرض الصورة النفسية والجوانب الوجودية للألم الذي يعيش فيه الفلسطيني. يتصاعد القلق والتوتر في هذه الصورة التي تعكس العجز أمام قوة الظلم، ولا يجد الفلسطينيون إلا الاستجابة العاطفية، التي تصبح بديلاً لمقاومة هذا الاحتلال الذي لا يتوقف عن بناء ملامحه في كل يوم جديد.

الديوان

‎الصورة العاطفية في الديوان: العزاء في المأساة

‎الصور العاطفية تظهر بوضوح في قصيدته “سوف اعتذر اليوم أيضا لموتاي”، حيث يعبر الشاعر عن اعتذاره للشهداء الذين فقدوا حياتهم في الصراع. “أني أضعتُ عظام الضحايا التي أورثوني” هي صورة مريرة تعكس الشعور بالعجز والندم. الشاعر هنا لا يقدم الاعتذار فقط كفعل داخلي، بل كحالة شعورية ترتبط بالذاكرة الوطنية. الاعتذار عن الضياع هو تأكيد على فقدان التواصل مع الماضي وعبء هذا الفقد على الجيل الحاضر، حيث تصبح العظام الضائعة رمزاً لفقدان الهوية والتاريخ. هذا الاعتذار لا ينفصل عن معاناة الشاعر، الذي يبدو أنه يعيش حالة من الاغتراب بسبب الجراح التي خلفتها الحروب.

‎الصورة في “في غزة”: دلالة غياب الأمل

‎وفي قصيدته “في غزة”، يصل الشاعر إلى نقطة انكسار جديدة حيث يقول: “لم تعد صور الشهداء تسند جدران البيوت”. هذه الصورة تحيلنا إلى حالة من العجز الروحي، فصور الشهداء التي كانت تمثل رمزاً للأمل والصمود، أصبحت شاهدة على تحايل الموت على حياة يصنعها أهل غزة. إن غياب الصور عن الجدران لا يعني فقط غياب الذاكرة، بل غياب الأمل الذي كانت تلك الصور تمثله. عندما تصبح الصور عاجزة عن حمل عبء الذاكرة الجماعية، يصبح الفلسطيني في مواجهة الواقع دون أي دعم معنوي.

‎هذه الصورة تبرز هشاشة الوضع الفلسطيني، حيث تصبح أشياء كان يراها الفلسطينيون مصدر قوة، مثل صور الشهداء، مجرد ذكرى محطمة لا تسندهم في مواجهة صعوبات الحياة اليومية. إنها صورة تعكس إحساساً عميقاً بالفراغ، حيث لا تكفي الذكريات للحفاظ على العزيمة.

‎الأسلوب الفني واستخدام الصور

‎يمتاز ديوان عبدالله عيسى باستخدامه للأسلوب الذي يخلق حالة من التلقي الخاصة مع القارئ في التعبير عن الألم الفلسطيني، لكنه في ذات الوقت يختار صوراً مركبّة ومعقدّة تمزج بين التوثيق والمجاز. يستخدم الشاعر تقنيات تصويرية قادرة على نقل الحالة النفسية العميقة لكل فلسطيني، حيث يمتزج الأسى مع الأمل في لحظة واحدة. من خلال هذه الصور، يبني الشاعر عالماً معقداً يشمل المعاناة الذاتية والجماعية، ويخلق توازناً بين الواقع والمجاز، مما يجعل الديوان يتناول القضية الفلسطينية كمأساة إنسانية ، ما يجعله يحفر في الأعماق الإنسانية.

‎فشل الكلمات أمام الحقيقة

‎في النهاية، لا تقتصر صور ديوان “سماء غزة .. تلال جنين” على تقديم صورة للألم الفلسطيني، بل تسعى لتقديم واقع مادي ونفسي مستمر، يتعذر على الكلمات أن توفيه حقه. فالشاعر وإن نجح في تصوير الكثير من أوجه هذه المعاناة، إلا أن الكلمات تبقى عاجزة على رسم الصورة الكاملة. تبقى غزة وجنين، وكأنهما وجهان لحقيقة واحدة: حقيقة لا تستطيع الكلمات أن تعبر عنها بالكامل، رغم أنها محاولة حثيثة للحفاظ على الذاكرة والوجود الفلسطيني في مواجهة ظلامات الاحتلال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى