أدبجاليريشخصيات

اللوفر… رحلة مع الألوان

بقلم الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد

 

إبراهيم عبد المجيد، الروائي الكبير، هو كبير جرّاحي المجتمع المصري، الجراح المُبهر، وأستاذ الجراحة والتشريح في الوعي الجمعي المصري.
العبقري إبراهيم عبد المجيد يكتب عن “كتاب اللوفر”، الروائي القدير يكتب عن هذا العمل الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2022.
صباح جمعة مباركة على الجميع.
هذا نص لم يأخذ حقه في الانتشار، وأعتذر للمبدع الكبير، الروائي القدير، لأن المقال نُشر في زحمة أخباري بينما كنت في بلاد القوقاز.
هذا المقال لا بد أن يظل معلقًا على جدار صفحتي وحده، فهو تاج على رأسي، من مبدع كبير وقدير، يُعد من أهم كُتّاب الرواية العربية المعاصرة.

أعيد النشر الآن، دون أي تشويش بأخبار أخرى.
سأتوقف اليوم عن نشر أي شيء، إجلالًا واحترامًا لحروف هذا الرجل المبدع — وهي حروف من ذهب.

ألف ألف شكر، والله.

عبدالرازق عكاشة

 

هذا كتاب ممتع جذاب للفنان التشكيلي والروائي والكاتب عبد الرازق عكاشة، الذي يعيش في باريس وحاصل على الجنسية الفرنسية وعضو مجلس إدارة صالون الخريف الفرنسي. له كتب فنية ونقدية مهمة وخمس روايات، وكثير من المقالات، وحصل على جوائز عديدة من بلاد مختلفة في العالم.

الكتاب صادر العام الماضي عن هيئة الكتاب المصرية وعنوانه «اللوفر.. فجر العشق والغرام الإبداعي» وعنوان فرعي آخر هو «خريطة لونية جديدة لزيارة المتحف التاريخي» العنوان الفرعي هو الذي جذب انتباهي. ماذا يقصد بخريطة لونية، لا بد أنى سأقطع رحلة ممتعة مع الألوان في تاريخ الفن التشكيلي، بالفعل الكتاب لا يلتزم برحلة الزيارة المشار إليها في البرنامج عند الدخول من مرور على القاعات، أو الطوابق، لكنه يبحر بنا مع الألوان. مع هذا الإبحار تكتشف أن كثيرا، إن لم يكن كل حركات التجديد الحديثة في الفن التشكيلي، سبقتها لوحات من العصور الوسطى أو القديمة، ومن ثم فلأصحابها حق الريادة، حتى لو لم تكن مدرسة فنية دعوا إليها.

من اللون الأحمر يبدأ، هو سيد الألوان الصارخة المتحقق أكثر من ألف مرة، يختلف فيها بين فنان وآخر، فالأحمر بكل درجاته في عصر النهضة يختلف عنه بعدها. رحلة مع الفنانين بين العصور والأزمنة في تعاملهم مع الأحمر ودرجاته المختلفة. أصول كل لون، ومن أبدع فيه حتى نصل إلى يوجين ديلاكروا ولوحاته عن المغرب العربي، مثل لوحة «الجزائريات» أو لوحته الشهيرة «الحرية تقود الشعب». ينتقل إلى الأحمر الشهواني عند رفائيلو سانزيو وجاك لويس دافيد والأحمر الكاردينالي، من طيور الكاردينال، أو الكناري المهاجرة، ومن أدمن هذا اللون، مايكل أنجلو الذي غيّر اسمه إلى كارافاجيو بعد حكم البابا عليه بالموت وهروبه من البلاد، ولوحته «موت العذراء» كأهم لوحاته، ثم الأحمر المتحقق في لوحات كثيرة عن المعارك الحربية من دروع وأسلحة وجياد وغيرها، ولوحات مثل «نابليون يتفقد مرضى الطاعون في يافا «لأنطوان جروس الذي عاصر المعركة وكان أشبه بالضمير فرسم أيضا «أبوقير المصرية وغزو نابليون البربري» كذلك لوحة «معركة الهرم» عام 1810.

ننتقل إلى الفصل الثاني «أهمية الخيانة في كسر سيطرة السلطة الإبداعية» هنا خط ثانٍ للزيارة يقوم على متابعة سحر الطلائعيين. طبعا الخيانة هنا لا تعني المعنى الدارج، لكن خيانة الخطوط المحددة لسقف الإبداع وسلطة المدارس الفنية، وهي خيانة واجبة لكل مبدع حقيقي. الرحلة استمرار لرحلة اللون في تجلياته الجديدة يبدأها مع مارسيل دي شامب الذي توفي عام 1968. حين أرسل إلى صالون الفنانين المستقلين في باريس « قاعدة الحمام» أو «المبولة» لوضعها في الصالون عام 1917 كرؤية طلائعية جديدة بعد الحرب العالمية الأولى، تتحدى ركود الفن، فاصبح العمل الانقلابي الأول في الفن وخطوة جديدة في طرق البناء والهدم الإبداعي، ومهد مع الدادئية الطريق لثورة فنية كبيرة حدثت بعد عام 1928. لقد اعتمد دو شامب على جزء من تفاصيل مقتنيات غرفة لويس السادس عشر في المتحف الشهير، ومنها قاعدة الحمام التي تعتبر أول قاعدة حمام توضع في متحف، فما بالك بمتحف اللوفر. أوحت غرفة لويس السادس عشر بالحداثة لكثير من الفنانين للتمرد على الكلاسيكية وتعاليم الكنيسة والسلطة الأكاديمية.

نصل إلى الفصل الثالث واللون الأسود لون الأمان والوقار. في اللوفر هو سيد الألوان وتاج رأس اللوحة والخوف والرعب عند اليونان والرومان. في الحضارة الصينية فخم وقور ملك على الألوان حتى الآن. في مصر القديمة لون الحياة.

عبد الرازق عكاشة

ينتقل إلى الحالة الثانية من الخيانة وهي التجريد الذي اعتبر أغلب النقاد بدايته عام 1910 مع التكعيبيين. لقد رسم بيكاسو لوحته «مستحمات أفنيون» عام 1907، لكنه يعود إلى الأقدم مثل جوزيف مالورد وليم تيرنر في لوحة «منظر طبيعي لم يكتمل» الموجودة في اللوفر منذ عام 1835، كذلك السريالية التي يردّها النقاد إلى أندريه بريتون وسلفادور دالي وأبولينير في نهاية عشرينيات القرن الماضي، فيجد لها أصولا في اللوفر في لوحات الفنان الإيطالي جوزيبي أرشيمبولدو، الذي توفي عام 1593 وترك بورتريهاته التي تعانق فيها الوجوه البشرية عناصر من النباتات والحيوانات، كذلك لوحة «يوحنا المعمدان» التي تمثل رأسه على طبق بطريقة سريالية رائعة، وهي للفنان أندريا دي بارتولو الذي توفي عام 1428. يستمر مع الأعمال التي مهدت لـ»الطلائعيين» مثل لورينزكوستا، أو دي كوستا المتوفى في 1535 في لوحته «سانت فيرونيكا» ثم الفنان بيتر بروغل في القرن السادس عشر ولوحته «المتسولون».

هنا يخصص جزءا من الفصل الثاني للفنان المصري عبد الهادي الجزار. يرى في لوحته «حفر قناة السويس» الشهيرة تأثره بلوحات تنتوريتو، الذي توفي عام 1594 وهي موجودة في اللوفر، حيث استخدم مبكرا التناقضات بين النور والظلام. حالة الزهد في لوحة تنتوريتو هي التي بدأ منها عبد الهادي الجزار لوحته «حفر قناة السويس» لكنه يحتفظ بالفارق، فالزهد عند تونتوريتو حالة دينية بحتة جدا، بينما عند الجزار حالة اجتماعية. يحدد ذلك البناء اللوني، فعند تونتوريتو النور جرعته زائدة عن الظل على الوجوه لرسم حالة من التأمل، وعند الجزار الظل قبل النور تحت الشمس الحارقة لإبراز حالة الزهد الاجتماعي، ثم صفحات من الثناء على كارافاجيو، أو مايكل أنجلو ميريزي الذي سماه عفريت عصر النهضة، ونستمر مع الفنانين والتجديد السابق لديهم، ومنهم تلامذة كارافاجيو مثل فرانس هال الهولندي المتوفى عام 1656 الذي كان الأب الشرعي للانطباعية في ما بعد عند كلود مونيه وإدوارد مانيه وغيرهما. حديث جميل عن إنسانية الفن بين الفن الساذج والفطري، فمع لوحات ستيفانو دي جيوفاني في القرن الخامس عشر تجده من أسياد الفن الساذج الذي ظهر حديثا. لقد أقيم للفنانين أول معرض للفن الساذج عام 1928 في باريس. الأمر نفسه مع الفن الفطري، فهو لفنان لا يملك الوعي وربما لا يعرف القراءة والكتابة، فهو فعل طفولي ظهر مع بير فرانشيسكو ساشي في القرن السادس عشر، فضلا طبعا عن وجوده في الحضارات القديمة في الكهوف وغيرها. ويذكر هنا فنانين عربا معاصرين مثل الشعيبية طلال من المغرب والجزائرية باية محيي الدين ومحمد علي عازف الطبلة الأمي رفيق أحمد فؤاد نجم والشيخ أمام.

نصل إلى الفصل الثالث واللون الأسود لون الأمان والوقار. في اللوفر هو سيد الألوان وتاج رأس اللوحة والخوف والرعب عند اليونان والرومان. في الحضارة الصينية فخم وقور ملك على الألوان حتى الآن. في مصر القديمة لون الحياة. لون التربة وهذا سر وجوده في وجوه الفيوم الخالدة. الأسود تأكيد للنور يُظهر سحر الألوان الأخرى. رحلة مع اللون الأسود عند فناني أوروبا في العصور القديمة والحديثة، ثم وقفة مع بورتريهات الفيوم المصرية في المتحف.. وجوه الفيوم علامة إنسانية في التاريخ، أهملناها ظهرت في القرن الأول الميلادي. هي لوحات معبرة عن البسطاء لا عن الوزراء والحكام، ونحن ظلمناها كثيرا بانحيازنا إلى النموذج الغربي في فن البورتريه. هي معجزة فيها من الإنسانية ما يفوق ألف «موناليزا». فيها الأسود سيد البهاء، وفيها كبر تعبير عن الحزن والوفاة والرحيل المبكر. يرى أن لها تأثيرها في موديلياني، الذي يقولون إنه تأثر بالفن الروماني، ويخشون أن يقولوا إنه تأثر بوجوه الفيوم، طول الرقبة والعين التي تجذبك إلى الحوار وألوانها. كذلك بعد موديلياني الذي توفي عام 1920 تأثر بها جورج رووه، الذي توفي عام 1958 وماتيس الذي توفي عام 1954 إلا أنهم يعترفون ببعضهم ولا يعترفون بنا. يأتي الفصل الأخير أقلها صفحات، عن اللون الأزرق ودهشته. سحر السماء والفضاء. يبدا بلوحة ليوناردو دافنشي الذي توفي عام 1519 «العذراء والطفل يسوع» التي تلتحف فيها القديسة وشاحها الأزرق السماوي، وبعده الفنان باولو فيرونيز المتوفى عام 1588. تنتهي الرحلة مع الفنانين حسب الألوان في المتحف، لا حسب الدليل السياحي بالأدوار والقاعات، والكتاب لا يخلو من تاريخ صغير لكل فنان ورد اسمه، ولا من الحديث عن الصراعات مع السلطات أو الأحقاد من بعض معاصريه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى