
صباحُ الخيرِ يا غزَّةُ الصُّمودِ، صباحُ الخيرِ يا أرضَ العِزَّةِ، صباحُ الخيرِ يا فلسطين.
أُعيدُ عليكم – كلَّ يومِ جُمعةٍ وثلاثاء – إن شاء الله، نشرَ نُصوصِ كتابي “عن التَّجريد: مسافاتٌ إنسانيَّةٌ بين الشَّرقِ والغرب”.
وأبدأُ بنشرِ فصلٍ عن مُبدعٍ ظُلِم، ماتَ قهرًا وظُلمًا، وعاشَ حيًّا يُدافعُ عن فلسطينَ والأمَّةِ العربيَّة:النَّحَّاتُ الكبيرُ: محمَّدٌ هجرس.
وأُسجِّلُ هنا محبَّتي الكبيرةَ لثقافةِ فرنسا، إلى حدِّ العِشق،
لكنِّي ضدُّ المنحى المُنخفِضِ لسياساتِها المرفوضةِ منِّي ومن أبنائي وأُسرتي،
تلكَ السِّياسةُ العنصريَّةُ البَغيضةُ التي تنصُرُ الظَّالمَ وتُحاربُ المَظلوم،
وهي سياسةٌ تسيرُ في نفسِ مسارِ السِّياسةِ الأمريكيَّة، لكن بوجهٍ ناعمٍ مُمثَّلٍ بعناية.
محبَّتي يا فلسطين، يا صمودًا من أجلِ الوعيِ، يا ظلْمًا في وجهِ التَّخلُّف.
كلُّ ساذجٍ أو ساذجةٍ يختصرُ نضالَ شعبٍ في “حماس”، يتجاهلُ تاريخَ أُمَّةٍ وشعبٍ جبَّارٍ يُقاوِمُ النَّارَ والاغتيال.
فلسطينُ وغزَّةُ ليستا “حماس”، وإنْ كانت “حماس” فصيلًا سياسيًّا.
ومصرُ العظيمةُ ليسَتْ لديها فاتورةٌ ضدَّ حزبٍ أو جماعة.
مصرُ بحاجةٍ إلى التَّأييدِ أيضًا الآن، للحفاظِ على الوطنِ ضدَّ المخطَّطِ العالميِّ الكبير.
وأخيرًا نصِّي الأوَّل:
مَن ظَلَمَ النَّحَّاتَ الرَّائعَ محمَّدَ هجرس؟
مقالُ الجُمعةِ، من كتابِ “التَّجريد”
“ومَن يقدرْ يحبسْ مصرَ ساعة؟”
هكذا قالَ زينُ العابدين فؤاد في قصيدةٍ خالدةٍ،
قصيدةٍ تنتمي إليه بصدقٍ، كما ينتمي إليها:
اتجمَّعوا العُشَّاق في سجنِ القَلعة… اتجمَّعوا العُشَّاق في بابِ الخَلْق،
والشَّمسُ غنوةٌ من الزَّنازين طالعة… ومصرُ غنوةٌ مُفرَّعةٌ في الحلق.
ما أجملَ تلكَ الصورةَ الإبداعيَّةَ، يا خال زين!
تمثالٌ نَحتيٌّ جَبَّار، أو تصويرٌ خياليٌّ يُهزُّ الوجدان، يُوازي صرخةَ تمثالِ “سيزيف 70”…
تمثالُ السَّجينِ ظُلمًا وقهرًا، عاشقِ الحريَّةِ والوطن: محمَّد هجرس.
ذلكَ التِّمثالُ صرخةٌ في وجهِ كلِّ ظالمٍ، فاسدٍ، جاهل.
تمثالٌ خرجَ من السِّجنِ قبلَ السَّجين، بعد أن أَوْجعَ السَّجَّان،
عُرِضَ في المعرضِ القوميِّ، وصاحبُه في معتقله.
خرجَ التِّمثالُ بطريقةٍ دراميَّةٍ، تُشبهُ أغنيةَ زين العابدين فؤاد التي غَنَّوها وهو سجين.
هؤلاءِ العُشَّاقُ نَحَتُوا من الظَّلامِ نورًا، ومن العَتَمةِ أملًا،
بدَّلوا السُّجونَ إلى قصورِ ثقافة، وغَيَّروا القُبحَ في المَحبسِ إلى جَمال.
هؤلاءِ هُم العُشَّاقُ، هُم العظماءُ.
فمَن ظَلَمَ محمَّد هجرس؟
لقد ماتَ كمَدًا، ولم تَذكُرْه مؤسَّسةٌ ثقافيَّةٌ، ولم يُكْرَمْ من جهةٍ واحدة.
ماتَ وعيونُه تبحثُ عن العدالةِ بيننا،
عن معرضٍ يحتضنُ تماثيلَه، عن مُتحَفٍ يُخلِّدُ فنَّه،
عن طُلَّابٍ يتعلَّمونَ من إبداعِه، من صلابته، من قوَّته في التعبير.
ماتَ هجرس كمَدًا،
لأنَّه كانَ يُمثِّلُ جيلًا من العباقرةِ الذينَ صارعوا الموتَ بالفنِّ،
وحاربوا الظُّلمَ بالجَمال،
أحبُّوا الحياةَ فصاغوها في الطينِ والحجرِ والبرونز،
فجاءَت تماثيلُهم تُنطِقُ بالألمِ والعِزَّةِ والكرامة.
يا سادتي،
محمَّد هجرس لم يكنْ مجرَّد نَحَّاتٍ،
كانَ ثائرًا بالطين، مُتمرِّدًا بالبرونز،
فنَّانًا لا يُهادن، ولا يُزيِّف،
لم يدخلْ سوقَ الفنِّ المزَيَّفِ، ولم يَمدَحْ أحدًا،
كانَ لا يُجاملُ، ولا يعرفُ الطرقَ المُمَهَّدةَ نحوَ الجوائزِ أو المناصب.
ماتَ دونَ أن نعتذرَ له،
دونَ أن نقولَ له: شكرًا،
دونَ أن نقفَ دقيقةَ صمتٍ أمامَ تمثالِه،
ماتَ… فهل نستطيعُ الآن أن نُنقِذَ ما تبقَّى من ذاكرتِه؟
هل نَحتفي به، في صالاتِنا، في جامعاتِنا، في مناهجِنا؟
هل نعيدُ الاعتبارَ لفنِّ النَّحتِ الحرِّ، المقاوم، الشريف؟
أيُّها الأصدقاء،
اكتبوا عن محمَّد هجرس،
احكُوا للجيلِ الجديدِ قصَّتَه،
علِّموهم كيف يكونُ الفنانُ إنسانًا،
علِّموهم أنَّ الإبداعَ موقفٌ، وأنَّ النَّحتَ ليسَ زينةً في الحديقة،
بل سلاحٌ في وجهِ القبحِ والكذبِ والظُّلم.
رحمَكَ اللهُ يا محمَّد،
أيُّها الحُرُّ الجميل،
يا من نَحَتَّ وجهَ الوطنِ في سجونِ القهر،
وما زالَ وجهُكَ ناصعًا كالنُّور.