غرام على مقهى باريسي: تجربة بصرية مثيرة
رؤية يقدمها أشرف أبو اليزيد لمجموعة اللوحات الخمسة عشر التي تجسد التجريدية التعبيرية للفنان عبد الرازق عكاشة


مدخل إلى التجربة البصرية
تُجسِّد مجموعة اللوحات الخمسة عشر مشاهد من مقهى باريسي، كتب الرسام المبدع عبد الرازق عكاشة أنه في الشارع الذي يقطنه، وجعل اسم المجموعة(غرام علي قهوة في شارعنا الباريسي)، ولم ينس كتابة العنوان
Rue des Abbesses, 75018

تعكس ضربات الفرشاة وانسيابية الألوان حركة الحياة اليومية وشخصياتها المختلفة. تبدو الأعمال التي تشكلت من 15 لقطة وكأنهامقتطعة من لحظات عابرة، تسجّل لقاءات وحوارات بشرية ضمن سياق حضري يعجّ بالحركة والانفعالات. وتنتمي هذه الأعمال إلى المدرسةالتجريدية التعبيرية، التي يتألق بها عبد الرازق عكاشة، وكأنه مرآة لواقع لاهث، فيّركّز على اللون والإيقاع أكثر من الشكل الواقعيللأشخاص والمكان. تُستخدم الفرشاة هنا بعفوية، مع ضربات سريعة ومتراكبة، مما يخلق إحساسًا بالحركة واللحظة العابرة. يبدو أن الفنانالمسافر لا يسعى إلى تقديم تصوير واقعي دقيق، بل إلى استحضار الجو العام والانفعالات المرتبطة بهذه المشاهد.
من الناحية اللونية، تعتمد اللوحات على ألوان دافئة وصارخة أحيانًا، مثل الأصفر والأحمر، إلى جانب ألوان باردة كالأزرق والأخضر، ممايخلق تباينات ديناميكية تعزز الشعور بالحيوية. الألوان غير ممتزجة بالكامل، بل توضع على القماش أو الورق بطريقة تعكس خامتها الخام،مما يذكّر بأسلوب فان جوخ في بعض لوحاته، حيث يُترك أثر الفرشاة واضحًا كعنصر تعبيري بحد ذاته.
التكوينات والتفاعل بين الشخصيات
تُظهر تراكيب عكاشة في معظم اللوحات شخصين أو أكثر في لحظات حوار أو تأمل، بينما تتناول بعضها الآخر أفرادًا وحدهم غارقين فيأفكارهم أو منشغلين بالكتابة والقراءة. المثير للاهتمام هو أن الوجوه تُرسم غالبًا بطريقة غير واضحة أو مُبهمة، مما يتيح للمشاهد والمتلقيفرصة لإسقاط مشاعره وتأويله الخاص على الشخصيات.
فكرت، وأنا أتأمل اللوحات، أن أقوم بإعادة ترتيبها لأصنع منها قصة تشبه الأفلام الفرنسية، التي تعتمد على حكايات منفصلة يعيد المخرجالسّارد ترتيبها ليقنع المشاهدين بأنه يصنع فيلما، لا مسلسلا!
في بعض المشاهد، نلحظ ازدحامًا بصريًا يوحي بضجيج المقهى، بينما في مشاهد أخرى هناك فراغات تمنح شعورًا بالعزلة، مما يعكسالتباين بين التفاعل الاجتماعي والوحدة الفردية في الفضاء العام.

البعد التعبيري والرمزي
من خلال التراكيب والألوان، تسلط اللوحات الضوء على الأجواء الحميمية للمقهى كمساحة للتفاعل الإنساني، لكنها في الوقت ذاته تكشفعن نوع من الاغتراب الشخصي، حيث يبدو أن بعض الشخصيات غارقة في عالمها الداخلي رغم وجودها وسط الآخرين. فاللوحات لا تعكسفقط مشاهد سطحية من الحياة اليومية، بل تقدّم قراءة نفسية للحالة الإنسانية، إذ تتجلى مشاعر الانعزال، الترقب، والتواصل الإنساني فيكل مشهد.
تمثل هذه المجموعة الفنية تجربة بصرية مثيرة، تدمج بين الأسلوب العفوي والانفعالي وبين التعبير العميق عن الحياة الاجتماعية. إنها ليستمجرد تسجيل لحظات في مقهى، بل محاولة لاستكشاف الأحاسيس البشرية من خلال لغة اللون والتجريد. الأسلوب غير المكتمل والخطوطغير المحددة تعكس طبيعة الحياة ذاتها، حيث لا شيء ثابت أو واضح بالكامل، بل كل من عليها دائم التغير والتفاعل.