

الطفولة والأولاد
جسّد (الأخوان رحباني) علاقة الآباء بالأولاد إذ لحّنا شعر (جبران خليل جبران): (المحبة) المختارة من كتاب (النّبي) في (ناس من ورق 1972) على لسان (المُصطفى):
ثمَّ قالتْ لهُ امرأةٌ : حدِّثْنا عنِ الأولادْ؛ فقال:
أولادكمْ ليسوا لكمْ\أولادكمْ أبناءُ الحياةْ
والحياةْ لا تُقيمْ في منازلِ الأمسْ
على أن هذا لا يعني التّخلي عن مهمة التّربية، بل العكس؛ ففي (موسم العز 1960)، تبدأ زفة العُرْس بأجواء فولكلورية، وعلى أنغام وكلمات أغنية (طلّعني درجِهْ درجِهْ) وتهاليل أهل العَروس وفشل خطط (سَبْع) و(مَخُّول)، يُسمَعُ صوت (عاصي الرّحباني) متقمصًا شخصية والد (نجلا) الذي قد توفي، وكأنها وصية للعَروس ولكل عَروس، ووصية للأم ولكل أم إذ يقول:
وربِّي ولادِكْ عَ الرّضى، بالمحبة والرّضى
وقوليلهن لبنانْ
بعد الله
يعبدوا لبنانْ!
وفي الاحتفاء بالأولادِ، ثمة، كما يقول [مارون عبود في كتابه: الشِّعر العامي]، سهرات تُقام في المناسبات الكُبرى التي تُعتبَر “الولادة” من أهمها، وقد لا تقلُّ شأنًا عن مناسبات “الأعراس”، إذ تُعدُّ من ليالي العمر؛ فإذا “وُلد لرجل مولود، حملوا إليه الهدايا من سُكَّر، ورز، وبُنٍّ وصابون، ودجاج”. وتعَدُّ للضّيوفِ مآدب “فيأكلون، ويشربون، ويسْمرون، ويغنُّون داعين للمحروس بطول العمر”.
[مارون عبود: الشّعر العامّي].
ويُحتفى بهم في القُرى اللُّبنانيَّة في مناسبات ومواسم، كموسم (البرغل)، إذ يُنقَل القمح بعد تَصْويله إلى “خلقين” لسلقِهِ حتى بداية التّشقق، أي نصف ناضج، فيُرفع عن النَّار فيؤخذ إلى السّطح ويجفف في الشّمس.
ويُعتَبَر “يوم سَلْق القَمْح عند الأولاد، يومَ عيد، فإنّ سالِق القمح يأخذ منه مقدارًا، فيُحلى بالسُّكّر، ويُرش عليه الجوز والصّنوبر واللّوز وحَبّ الرُّمّان، وينكَّهُ بماء الزَّهر، ويقدّم للأولاد، وللّذين ساهموا في عملية السَّلق. وقد يُبعَثُ بِصَحْنٍ منه إلى الجيران”.
[أنيس فريحة: القرية اللّبنانيّة:حضارة في طريق الزوال، لبنان: دار المكتبة الأهليّة، الطّبعة الأولى: 1957م]
هذا عدا الاحتفاء بهم في الأعياد، فلا أعيادَ من دون أطفال، كأعياد الميلاد، كما مر بنا في (فولكلور العائلة: عيد الميلاد)؛ ففي أغنية (روحْ زوُرهُنْ ببيتهُنْ)، كلمات (جوزف حرب)، ألحان (الأخوين رحباني)، غناء (فَيْروزْ):
عتقِتْ سنينْ عيادْهُنْ
ما يَوْم لبسُوا جديدْ
وبعدُنْ صغارْ ولادهُنْ
يا عيدْ زورُنْ يا عيدْ
وفي الأجواء نفسها، كتب (الأخوان رحباني) ولحّنا، وغنت فَيْروزْ للزّغار: (بَدِّي خَبِّركُن)، داعية الله أن يكبروا، عن قصة أطفال فقراء لا يملكون حتى ثمن زينة شجرة ميلاد (الطّفل السّعيد)، فتوجهت بقصّتها من بداية الأغنية إليهم:
بَدِّي خَبِّركُن قِصَّة زغيرِهْ
زغيرِهْ القِصَّة وإنتو زغارْ
منحكي وبتصيرْ اللَّيلِهْ قصيرِهْ
بكرا إن شاء الله تصيروا كبارْ
وانتهت القصة نهاية سعيدة، وظلّتْ (فَيْروزْ) تخاطب (الزّغار)، وظلت تصلّي أن “يصيروا كبار”:
خِبَّرنَاكن قِصَّة زغيرِهْ
زغيرة القِصَّة وإنتو زغارْ
حكينا وصارت اللّيلةْ قصيرِهْ
وبُكرا إنْ شاء الله تصيروا كبارْ
ويُحتفى بهم بتذكيرهم أنهم شمس حياة الكبار وفرحهم وهناؤهم، كما في أغنية (زوري زوري بيوتنا) التي غنتها (فَيْروزْ) من كَلِمات وألْحَان (الأخوين رحباني):
زوري زوري بيوتنا يا شمسَ الأطفالْ
وأضيئيها بيوتَنا يا شمسَ الأطفالْ
لَهُمُ حُبُّ الدُّنيا
لَهُمُ لُعبُ الدُّنيا
وهُمُ فرحُ البالْ
يا شمسَ الأطفالْ
يا يَدَهَا يا حَريرْ، هُزّي هُزّي السَّريرْ
فينامَ ويحْلَوْلي ويغلو، وإلى غَدِهِ يطيرْ
ركضوا ركض النَّهرُ
ضحكوا ضحكَ العمرُ
وانتشرَتْ أظلالْ
يا شمسَ الأطفالْ
من قمرٍ وسماءْ ملأوا البيتَ هناءْ
عَتَبَاتُ الدَّارةِ أعيادٌ والأيامُ صفاءْ
في الدَّربِ الموصودِ
في الأيام السُّودِ
رفقاً بالأطفالْ
يا شمسَ الأطفالْ
على أن (الأخوين رحباني) لا يكتفيان في أعمالهما بدعوة الكبار إلى الاحتفاء بالصّغار وحضنهم وتلوين أعيادهم بحيث يكونون مجرد متلقِّي دلالٍ وحبّ وفرح، حتى في أشد العائلات فقرًا، بل يخاطبانهم طالبين مساعدتهم لخلق التّغيير الإيجابي؛ فصعوباتُ الحياة يمكن تجاوزها بالصّلاة، ولكن، ليس كل صلاة مستجابة استجابة صلاة “طفل”، ومن هنا دعوة الأطفال إلى “الصّلاة” كي تُرَحَّل الصّعوبات، فإن “الصِّغار صلاتُهُم لا تُرَدُّ”، كما مر بنا في: (فولكلور العائلة: تكريس الإيمان).
كما يُحتَفى بالأطفال إذ تُخَصَّص لهم عِدّياتٌ، و“العِدِّيَّة: شعرٌ عامِّي شفهي فَكِهٌ يروق للأولادِ، استنبطه الخيال الشَّعبي الجماعي كأداة للغناء واللّعب، فيجعل من اللّعب متعة وثقافة وإبداعًا، ويوجه عادة لأطفال مَرْحَلَة [الطُّفُولَة المبكرة Early Childhood 3- 5 سَنَوَات]، ومَرْحَلَة [الطُّفُولَة الوُسْطَى Middle Childhood 6-9 سَنَوَات]، ويُنْشَد لهم إنشادًا مرفقًا بنغم. و(أهمية العدِّية): (أ) تدخل ضمن أهمية الغناء الموجه لِلأَطْفَالِ (ب) تضحك الأطفال وتجعلهم يمرحون (ت) يحفظون ألفاظًا جديدة وأبياتًا من الشِّعر (ث) تربطهم بتراثهم وبيئتهم (ج) تطلِق خيالَهم (ح) تقدم لهم صفات شخصيات إنسانية وحَيَوَانية؛
[إيمان بقاعي: العِدّيات].
وقد استخدم (الأخوان رحباني): (عدِّيِّة يلَّا تْنامْ) المشهورة، وعدّلاها بما يتناسب والمطلوب منها، وأضافا إليها عِدِّيّة (عدِّيِّة الحِندَقَّةْ)، فصارت (عِدِّيّة ريما) ابنة (فَيْروزْ) و(عاصي):
العدّيّة:
(يلَّا تْنامْ ريما\يلّا يجيها النَّوْم\ يلَّا تحب الصَّلاهْ\يلَّا تحبْ الصّوْمْ\ يلَّا تجيها العوافي\كلّْ يومْ بيومْ\ يلَّا تنام يلَّا تنامْ\لادْبَحْ لا طيرْ الحمامْ\روح يا حمامْ لا تصدِّقْ\باضحَكْ ع ريما تَ ينامْ\ريما ريما الحندَقّةْ\شعرِكْ أشقر ومنَقّى\واللي حبِّكْ بيبوسِكْ\اللّي بَغَضِكْ شو بيترقَّى\يا بيَّاعْ العنبْ والعنبيِّهْ\قولوا لإمِّي وقولوا لبيِّي\خطفوني الغجرْ\من تحت خيمة مجدليِّهْ\التِّشتشِهْ والتِّشتشِهْ\والخوخْ تحت المشمشِهْ\وكلّْ ما هبِّ الهوا\لأقطف لريما مشمشِهْ\هِيه وهِيه وهِيه لينا\دِسْتِكْ لَكَنِكْ عَيّْرِينَا\تَ نغسِّل تياب ريما\وننشرهن عالياسمينَهْ).
وبالعودة إلى نصيحة (جبران خليل جبران)، ورغم التّركيز على أن الأولاد هم “أبناء الحياة”، ينتظر الآباء عودة أبناء الحياة كما ينتظر جدّ (لولو) في (مسرحية لولو)، أبناءه:
وولادُهْ سبعة كلْ واحد ببلادْ
ناطرهُنْ، ناطرهُنْ، تَ يرجعوا من غيابْ
وهو انتظار لذيذ، لا يكتفي بالأبناء، بل يشمل أولادهم؛ فالجد هنا “ينقذ” حفيدته (لولو) “ماديًّا”؛ إذ يرسل لها بعض المال، وينقذها “انتماءً”؛ إذ تجد الرجعة معه إلى قريتهما وبيتهما هي رجعة إلى الطّمأنينة.
وإذ تغني للقدس (زهرة المدائن)، من كَلِمات وألْحَان (الأخوين رحباني)، تصلي لطفل المغارة، بطل الحكاية المقدسة وتصلي لأمه، إذ لا طفلَ بلا أُمٍّ، ولا أمَّ بلا طفلٍ:
عم يلعبوا الولادْ عم يلعبوا
تحتْ السَّما الزَّرقا عم يلعبوا
الولاد ملهيين باللِّعَبْ الحلوينْ
وبيركضوا ما بيتعبوا
وعم يلعبوا
بيطيّروا بهالسَّما طياييرْ
وبالساقية بيسفّروا شخاتيرْ
وبإيديهن غمرْ، وراق بيضْ وحمرْ، ويلوّنوا هالعمرْ
الولاد من نهر الورد عمْ يشربوا
وعم يلعبوا
ويا ولادنا اللِّي بتركضوا بالعيدْ
وكلّ عيدْ بتبعدوا لبعيدْ
ياما بلياليكُن، نسهرْ نغطّيكنْ، نفزعْ نوعّيكُنْ
ولما بتوعوا من إيدينا بتهربوا
تَ تلعبوا
ويركز (الأخوان رحباني) على حق الأطفال في اللّعب دائمًا، في كل أغانيهم ومسرحياتهم، فاللّعب جزء من الطّفولة لا يُستغنى عنه، بل حقٌّ من حقوقهم، إذ يختصران قضيته بأغنية: (زوري زوري بيوتنا) التي غنتها (فَيْروزْ) من كَلِمات وألْحَان (الأخوين رحباني):
لَهُمُ لُعبُ الدُّنيا
فيرتبط اللّعب بمرحلة الطّفولة، ويُحفَر في الذّاكرة، ففي أغنية: (كان الزَّمان وكان): كلمات وألحان (الأخوين رحباني)، غناء (فَيْروزْ):
كان الزَّمانْ وكان في دكانِهْ بالفَيّْ
وبنياتْ وصبيانْ نيجي نلعب عالمَيّْ…
وحتى عندما يصفون هجومًا عسكريًّا عنيفًا، كما في (مغناة زَنُوبْيَا)، يستحضر (الأخوان رحباني) شغف الأطفال باللَّعِب واللُّعَب:
(المجموعة): انهدمْ البرجْ، انكسرْ السُّورْ، العسكرْ هاجم صوب الملكِهْ، متل الأطفال اللي بدن يتخطافوا اللِّعبِهْ.
اهربي يا زَنُوبْيَا اهربي يا زَنُوبْيَا.
يرد ذكر الأطفالِ الحقيقيين في أجواء الحرب في مسرحية (بترا)؛ ففي أغنية (زغيري وما بتعرف) من كَلِمات وألْحَان (الأخوين رحباني)، تبدأ الأغنية بـ: “راحِت بِترا”، وتنتهي بإعلان: نحنا…“ضحكاتْ الأَطفالْ”:
زغيري وما بتعرفْ بلعب الكبارْ
كانت عم تلعبْ، أخدها النِّسْر وطارْ
بحربْ الكبارْ، شو ذنبْ الطّفولِهْ؟
بحرب الكبارْ، شو ذنْب الضّحكاتْ الخجولِهْ
قولي لي!
يازغيرةْ، وينْ رحتي؟ يا لفتِةْ نحيلِةْ
يا دمعة بخيلِةْ
قولي لي
قولي لي
روما، يا وحش الحضارة اللِّي ما بيشبَعْ
روما يا جبانْ وعَ الصَّحرا بيتطلَّعْ
بترا مش رح تركعْ
انتو الحربْ، العددْ، القوة
نهر العسـكرْ، نبع الخيلْ
نحنا الحق ودمع النَّاْس
وأمل النَّاسْ
والحريةْ، وغناني الأجيالْ
وضحكاتْ الأَطفالْ!
وفي الأجواء نفسها، تعيدنا هذه الأغنية إلى مسرحية (يعيش يعيش)، وإلى حوار مهمٍّ يجري بعد أغنية (هيفا: فَيْروزْ) التي كانت تخبر (برهوم: الأمبراطور المتخفي) عن “شادي”، صديق الطُّفولة، وحبيب الطّفولة الشّهير، وكيف اختفى في الحرب:
وْيوم مْن الإيـَّــــــامْ، وِلـْعِــــتْ الـــدِّني
ناسْ ضـِـدّ نـــاسْ، عـِلـْقـوا بْهالـدِّنــي
وْصـار الـِقــْـتــالْ، يْقـَرِّبْ عَ التـّــلالْ، والــدِّنـِي دِنـــــي
وْعلـْقـِتْ عَ طـْراف الوادي، شادي رَكـَضْ يتـْفـَرَّجْ
خفـْتْ وْصـِرِتْ إنـْدَهـْلـُو، وَيـْنـَك رايـِح ياشـادي؟
إنـْدَهـْلـُو وْما يسـْمـَعـْني، وْيبـْعـُد يبـْعـُد بالوادي
وْمـِنْ يـَومتـْها، ما عِدِتْ شفـْتـُو، ضــاعْ شــــــادي
والتـَّلـْج إجــا، وْراح التـَّلـجْ، عشـْرين مـَرَّة إجـا وْراح التـَّلجْ
وْأنا صـِرِتْ إكـْبَرْ، وْشـَادي بـَعـْدو زْغـَيـَّرْ عـَمْ يـِلـْعـَبْ عَ التـَّــلـْج
عَ الـتـَّـــــلـْـــجْ، عَ الـتـَّـــــلـْـــجْ!
وقد أراد (الأخوان رحباني) في هذه الأغنية المبنية على قصة مؤلمة وضعَ الإمبراطور (برهوم)، على لسان فتاة الدّكان (فَيْروزْ: هيفا)، في صورة ما تسبـّبه الصِّراعات بين الكبار والقوة والملك وربما على السّلطة، من مآسٍ ونكبات وضحايا أناس قد يكونون أطفالًا، لا علاقة لهم بالحرب من قريب أو بعيد، إذ لا ذنـْبَ لهم، ولا هم عارفون بما يدور من حولهم:
(بَرْهوم): وْما عاد حَدا عرفْ عنـُّو شي؟
(هَيْفَا): فـَتـَّشـُو كـْتيـر وْما لـِقـْيـوه!
(بَرْهوم): يمكن يـِرْجـِع!
(هَيْفَا): قـَوْلـَكْ كـِبـِرْ؟
(بَرْهوم): أكيد كـِبـِـرْ.
(هَيْفَا): أنا مقـْهورَة مـِنـُّو. لـَمـَّا بتـْذكـَّر بـْشوفو وَلـَد زْغـَيـَّرْ عـَمْ يرْكـُض عَ التـَّلـِّة وْأنا عـَم إكـْبـَرْ.
شيْ غـَريب!!
هـُوِّي اللـِّي ضاع، بـَعـْدو طـِفـِل عـَمْ يلـْعب هـَون.
وْأنا اللـِّي بـْـقيـْتْ، ضـِعْت، ضـِعْت مـْن الطـُّفـولـِة.
(بَرْهوم): وْمـِنْ هـَيـْكْ صـارْ عنـْدِكْ خـَوفْ، وْصـِرْتـي تـِهِرْبي مـْن المـَشاكـِلْ؟
(هَيْفَا): لـَمـَّا بـْيـِمـْشي نـَهْر الحـِقـْد بـْياخـُد بـْدَربو ناس كـْتير مالـْهـُنْ دَخـْـل بالموضوع.
شادي شو كان يعرف عن سبب الـِقـْتال؟ تـْقاتـَلـُو بـْبـَعضـُن. اللـِّي رِبـِحْ رِبـِحْ واللـِّي خِسِرْ خِسِرْ. بـَسّ اللـِّي ضاعْ ضاعْ!
(بَرْهوم): الرّجـالْ عـَنـْدُنْ مـَصايـِبْ بـْيـِنـْدَفـَعْ حـَقـَّا غالي!
(هَيْفَا): يا(بَرْهوم). بـِسـْألْ حالـي: اللـِّي بـْيـِنـْدَفـَعْ حـَقـُّـو ناس، ترى هـُوِّي أغلى مـْن النـَّاس؟!
على أنَّ “العبارة البسيطة التي أنهت حديثَها بها الفتاة الذكيـَّة والتي آلمها تاريخ مليء باقتتال ذهب ضحيـَّتـَه أناسٌ ليس لهم علاقة بالموضوع، تعكس فلسفة (الأخوين رحباني) المسالمة التي ترى في الإنسان أثمن ما في الوجود، وفي سلامته قيمة الحياة والتي تكره الاقتتال والحروب والصِّراعات من أجل المصالح الضَّيقة أو الشَّخصية أو العنف من أجل فرض السَّيطرة والاستئثار بحكم النَّاس والتَّحكم بهم وبطاقاتهم وهي لذلك لا تتردد بالتَّأكيد المستمر على السَّلام والعدالة والمساواة وضرورة الاهتمام بحياة الناس وحاجياتهم ومشاعرهم وتطلعاتهم. وقد كرّر منصور مرارًا المقولة الرَّحبانية بأن (الوطن هو مجموع الأرض والإنسان السّعيد. لا قيمة لأحدهما دون الآخر)”.
[يعيش يعيش (مسرحية): موقع جبلة: 2020].
ومن الحرب التي تسرق الأطفال والطفولة، إلى هموم الآباء، عدا تأمين أجواء العيد أيام العيد، وهي مواسم تمرُّ، ثمة هموم معيشية طويلة أيامها وقاسية، ولا تنقضي بسرعةِ انقضاء أيام العيد؛ ففي مسرحية (يعيش يعيش)، يشغل الأولاد حيّزًا مهمًّا في تفكير الأب، كما سبق وأشرنا في فقرة الأب:
بـْيـِقـْبـَضو الجايزة وْلادي
بـْيـِتـْعـَلـَّمـُو وْ بـِيـْعـيشـُو.
وفي (مسرحية لولو)، حيث ينتظر الأب أبناءه (السَّبعة)، ويمد يد العون لحفيدته مادّيًا ومعنويًّا.
وفي (يعيش يعيش) نفسها، تشمل (هيفا) الأولاد بحديثها وهي تتحدث إلى مَن تعتقد أنه (برهوم) بينما هو الإمبراطور الهارب، فترفع الأولاد إلى مرتبة المشاركة الفعَّالة في السّير الحثيث نحو المستقبل في حركةٍ متطورة تتناسب وحركةَ عجلة الزّمان ودورانها اللَّولبي؛ فتقول:
(هَيْفَا): افـْهـَمْ عـْلـَيـِّي: الدِّنـْيي بـْتـِمْشي، الشـَّعب بـْيـِمـْشي، وْما حـَدا وِجـُّو لـَخـَلـْف.كلـُّنْ وِجـُّـنْ لـَقـِدَّام: الـِوْلاد، النـَّاس، الإيـَّام!
والأولاد سبب كافٍ للنّضال في الحياة لتأمين حياة لائقة بهم، يذهبون فيها إلى المدارس، كي يتخلصوا من حياة البؤس التي يعيشها آباؤهم.
فالأولاد الـ “عـَمْ يلـْعـَبـُوا بالـِحـْجار وتـْيابـُن مـْخـَزّقـَة”، يستحقون العمل من أجلهم، والمخاطرة، وهم أنفسهم الذين، كما يقول (ملهب) المهرّب في مسرحية (يعيش يعيش): ينقذون آباءهم المغامرين من المخاطر؛ لأنهم “يصلّون” لهم كي “يعودوا” بخير، و“صلاة الصّغار”، كما تقول (فَيْروزْ) في أغنية (أقول لجارتي): “لا تُرَدُّ”!
هؤلاء الأولاد، على لسان (أم عبدو) في مسرحية (يعيش يعيش) يستحقون حياة أفضل في ظروف أفضل من أن يُلهيهم أهلُهم في خضمّها بحكايات شائقة يحاولون بها أن يدفئوا صقيعهم:
أم عبدو:
هـَيـْئتــــو التـَّـلـْج رَح يـِجــــــي بكـِّيـْر،
والأهالي هــــَون بـْيبــِرْدو كــْتــــــيـرْ
ما عنـْدُنْ حـَطـَبْ وْلا تـْياب بـْهالـْجـِرْدْ
بـْيـِلـْهو الـِوْلادْ بالقـِصص تَ يـِغـْفـــُو بـْهالـْبـَرْدْ
وفي مسرحية (الشَّخص) التي قدمت على (مسرح البيكاديللي)، وفي دمشق عام 1968. بطلة المسرحية (فَيْروزْ): تسمى بـ: (البنت البيَّاعة)، لا تُخلي السّاحة كزملائها البياعين وعربةَ البندورة التي تعتاش وإخوتَها الصّغار “إرث والدها” فتبتعد درب (أنطوان كرباج: الشّخص) الذي يحظى بأعلى سلطة رسمية في البلاد، والذي قرر أن ينزل ليقابل النَّاس، بل تتقدم نحوه، وتغني له أغنية شعبية مع دبكة، وبعد أن اعتذر (الشَّخص) من دون المشاركة في الغداء الاحتفالي، اتهم المسؤولون (بيّاعة البندورة) فصودرت “عربيّتها”، وكانت إفادتها:
أنا بيّاعَهْ وبدي عيشْ
أهلي فقرا ودراويشْ
وهالعربِيِّهْ هي رزقتنا، وغير العربِيِّهْ ما فيشْ
اكتبْ يا شاويش، سجّلْ يا شاويشْ
أنا بياعَهْ وبدي عيشْ!
وعَدَّلَت إفادَتها في المرة الثّانية، ولكن بما يتناسب والأولى، فأضافَتْ:
طيورْ زغار وما إلُنْ ريشْ
وتفصّل معنى “الطّيور الزّغار”، ومدى المسؤولية التي تُلقى على عاتق المسؤول عنهم، طُلِبَ إليها أن تجلب كفيلًا “مهمًّا”، لكنها لا تجد إلى هذا الكفيل سبيلًا، وكيف تجده وهي فقيرة، وأبعد ما يكون الفقراء عن معرفة “المهمّين”، فتحاول من جديد شرح قضيتها:
حدا مهم يكفلني ما بيكفلني،
لكن أنا عندي مين يكفلني
إخوة صغار، ولاد صغار، أنا بدي ضلّْ إِطْعَمهنْ
غطّيهن أنا بالليالي
وعّيهُنْ من عَبُكرا
نيّمهُن من عشيِّة
هني بيربطوني بها الأرض، بيربطوني، وهني بيكفلوني
إخوتي الحبسْ الحقيقي
وما بين المحبة والجوع
حبسي أنا بداري
وحيطاني دموعْ.
إنها صفعة للحكام الذين يزجون بالمسؤولين عن معيشة “أطفال” في سجون بتهم سخيفة. وتصل (بياعة البندورة) بعد شرح مستفيض لمهامها تجاه إخوتها الصّغار الذين لن يلقي أحدهم إليهم بالًا، لن يكون عنها لهم بديلًا إلى أن أنها أصلًا محبوسة، فهي محبوسة بالواجب الذي تتحمله رافعة الرأس:
إخوتي الحبسْ الحقيقي
وما بين المحبة والجوع
حبسي أنا بداري
وحيطاني دموعْ.
وفي أجواء الـ“زغار”، لا بد من الإشارة إلى أن (الأخوين رحباني) يؤكدون في كل مرة أن أيام الطّفولة هي التي يُعَوَّلُ عليها لبناء شخصية الإنسان إلى وصوله إلى أرذل العمر، بما فيها قصص الحب البريئة التي تختبئ ولا تُنسى، كما في أغنية (فَيْروزْ): (يدور الدّوري ويحاكي)، من كَلِمات وألْحَان (الأخوين رحباني):
خِدني وطيرْ بس غفلِهْ، والدّنيي برودْ
وخليني بقلبَكْ طفلِهْ، وخلينا زغارْ
وكما في أغنية (بعدَكْ بتذكُر)، كتبها ولحنها (الأخوان رحباني)، وغنتها (فَيْروزْ):
وبعد وصف تفاصيل الحكاية التي تدور في أجواء الضَّيْعَة: (القناية، المَيْ، السّياج، شوك الحقالة، حجار بإيديه، يزيّح ع كعب شجرة):
يبقوا يجوا قبل الضِّهرْ وسكوتْ\ع هالطريقْ وفَيّْ\يعمّروا حدِّ القَنَايِةْ بيوتْ\يلعبوا بالمَيْ\وخلفْ السّياجْ اللي الو دايرْ\من شوك الحقالِةْ\يضلوا يغنوا وشعرهنْ طايرْ\وحالتُنْ حالِةْ\وشو يقعدوا ساكتينْ\ع بُكرا وحجارْ بايديهْ\نازلْ يزيّحْ ع كعبْ شجرةْ\وهيِّ عيونها عَلَيْهْ.
وكما في أغنية (فايقْ يا هوى) التي كتب كلماتها (فيلمون وهبي) ولحنها (الأخوان رحباني) وغنتها (فَيْروزْ)، يطول الحديث عن السَّهرات:
فايق لمّا راحوا أهالينا مشوارْ
تركونا وراحوا قالوا ولاد زغارْ
ودارتْ فينا الدَّارْ
ونحنا ولادْ زغارْ
ولم لا، وحكايات الحب، حسب الختيارة (علياء نمري) تختصرها (عليا: فَيْروزْ) في [حكاية الإسوارة]:
النَّاس بعْدُنْ ناسْ: بيحبّوا، وبيحسدوا، وبِغاروا، وهالبيت ما عاش فيه إلا الحُبّْ.
وهيك، يا بنتي، كلّْنا مِنفتِّشْ عن المشوارْ، والحُبّْ بيسلّْموه الكبارْ للصِّغارْ، تَ يضلّْ زهرةْ الزّهورْ المشعشعَهْ طول السّنينْ، والإسوارَة تتْنَقَّلْ من إيدْ لإيدْ.
وثمة نتيجة يؤكدانها: أن حب الطّفولة لا يُنسى، ولو “فلَّ” الزّغار؛ فالأماكن لا تَنسى، ومجرد المرور بها، يعيد الذكريات الجميلة المخبّأة لا المندثرة:
هالزّغارْ فلُّوا وصاروا كبارْ
نسيوا جيرتنا
وحدَكْ بتذكُرْ يا وطى الدُّوَّارْ
وحدَكْ حكايِتْنَا
وكذلك الطّفولة لا تُنسى، كما يؤكدان في أغنية (كنا نتلاقى من عشية) من كلماتهما وألحانهما وغناء (فَيْروزْ):
يا سنين اللِّي رحتي، ارجعيلي
ارجعيلي شي مرّةْ، ارجعيلي
وانسيني عَ بابْ الطُّفولِةْ
تَ أركضْ بشمسْ الطّرقاتْ
يا سنين اللِّي رحتي، ارجعيلي
ارجعيلي شي مرّةْ، ارجعيلي
وردّيلي الضِّحكاتْ اللِّي راحوا
اللّي بعدا بزوايا السَّاحاتْ
ولا تُنسى الطّفولة بكل تفاصيلها، ففي أغنية: (احكيلي احكيلي): كلمات وألحان (الأخوين رحباني)، غناء (فَيْروزْ):
احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي
يا نسيم اللِّي مارقْ عَ الشَّجَرْ مقابيلي
عن أهلي حكايِة، عن بيتي حْكايِة
عن جارْ الطّفولِهْ حْكايِهْ طويلِهْ
يا نسيمْ اللّي مارقْ عَ أرضْ الغارْ
حلّفتَكْ تجي تلعَبْ عندي بهالدَّارْ
خبّرني انْ كان بعدو بيذكِرني
بِبَلدي وعَ السَّهرهْ ناطرني
ساعات الفرحْ القليلِهْ
حبيبي احكيلي
حلّفْتَكْ خبّرني كيف حال الزّيتونْ
والصّبي والصّبيّة بِفَيّ الطّاحونْ
واللّوزهْ والأرضْ وسمانا
هَو هنّي بلدْنا وهوانا
زهر الإيّامْ البخيلِهْ
حبيبي، احكيلي!
أخيرًا،
لا شبابَ، لا شيخوخةَ، لا هناءَ، لا ضحكةَ من غير طفولة ومن غير عائلة إن جمعتَهما معًا كوّنا الوطن، كما يخبرنا في كل أعمالهما السّامية (الأخوان رحباني)، رافضَيْن أن يمرا مرور الكرام من قرب قضية تلامس الإنسان في العالم عامة ولبنان خاصة، فيصمت أحدهما أو كلاهما وكأنها لا تعنيه.
بل ينغمسان بحب متدفق في قضايا النّاس، من دون فلسفة أو فذلكة أو تكلُّف أو وعظ، أو ادّعاء معرفةٍ، أو الاستعانة بقول فلان وفلان، فتُحَلُّ القضايا ببساطة وسلاسة وسهولة من خلال موهبة إلهية أعطيت لهما، فلم يهملاها، بل هذباها وشذّباها وتعاونا معًا على تكريسها وتقديمها للأجيال القادمة التي يحاول كثيرون أن يقطعوا بينها وبين تاريخها الذي، بالفولكلور والواقع، بالفنّ المبدع، بالضّحكة والحزن، بالهدفية، شاء القاطعون أو لم، ظل لبنان ويظل الوطن الذي رسمه (الأخوان رحباني)، جميلًا، متألقًا، لم يخلُ من شوائب حُلّت عندما سلّطا عليها الضّوء ناقدَيْنْ.
ظل لبنان وطن الفولكلور الذي يشبهنا، والذي يعيدنا إليه كلما نأت بنا الأسفار!
أبدع (الأخوان رحباني) إذ رسما الوطن.
مصطفى مصطفى جحا
10\6\22