أحداثأدب

الرجل الذي أكل الساعة

غادة كمال تسائل الزمن، بكلِّ ما يحويه من فقدٍ وذكرياتٍ وأملٍ وفشلٍ ونجاح

صدرت عن دار صفصافة للنشر المجموعة القصصية (الرجل الذي أكل الساعة) للفنانة التشكيلية والكاتبة د. غادة كمال.

د. غادة كمال

المجموعة – كما تقول المؤلفة – “تدور بشكلٍ أساسيٍّ حول مفهوم الزمن، ولكنْ بشكلٍ مختلفٍ مع كلِّ شخصية، ولِكِتابةِ الشخصيات ورسمها اقتضى مِنِّي الأمرُ وقتًا طويلًا لبناءِ كلِّ شخصية، من خلالِ البحثِ في كتبِ الميثولوجيا والأساطير والمصريات، وحتى العلوم البيولوجية، لأستطيع خلقَ شخصياتٍ تخيُّليةٍ نابعةٍ من عالمِ الأحلامِ واللّاوعي، تسير بين البشر في الأزقةِ والشوارع، في أقفاصِ الحياةِ اليومية، دون أن يشعر القارئُ أنها ناشزةٌ عن الصورة. حتى في التشريحِ الجسديِّ، حاولتُ إعطاءَ كلِّ شخصيةٍ سمةً جسديةً تناسب خطَّ السرد، دون أن يشعر القارئ بغرائبيتها. وفي البداية، أقومُ بإنهاءِ الشكلِ البصريِّ بعد البحثِ وتحديدِ ملامحِ الشخصيةِ لتكونَ حاضرةً أمامي بملامحها كاملة، وبعد ذلك يأتي الوجهُ السمعيُّ أو الموسيقيُّ للشخصية، لتكون لكلِّ شخصيةٍ مقطوعةٌ موسيقيةٌ خاصةٌ تلازمها حتى نهاية القصة. بعدها، يبدأ الشقُّ المكانيُّ في تحديدِ المكانِ الأوليِّ لولادةِ الشخصية، والذي تعود رمزيته إلى الرحمِ أو الوجودِ الأول، الذي تنطلقُ منه الشخصيةُ من مخيلتي إلى الوجودِ على الورق. ومن هذه النقطة، أكونُ قد حددتُ مساري، وأعلمُ جيدًا ما أريد قوله.”

وتضيف الكاتبة: “نعود إلى الخطِّ الرئيسيِّ للمجموعة، وهو الزمنُ، بكلِّ ما يحويه من فقدٍ وذكرياتٍ وأملٍ وفشلٍ ونجاح. وبالطبع، أنا متأثرةٌ في العمومِ بكتابِ (حدسُ اللحظة) لـ(باشلار)، لكنَّ ما أرهقني هو أنْ لا أقعَ في فخِّ الكتابةِ الذاتية، التي أعتبرها – بشكلٍ شخصيٍّ – مسمارًا حقيقيًّا في نعشِ الأدبِ المعاصر. لذلك، اجتهدتُ في أنْ أنسجَ من ذكرياتي وحياتي المعاصرةِ مادةً جديدةً، تنطلق منها عوالمُ لا تمتُّ إليَّ بصلة. لم يكن هذا سهلًا، خاصَّةً في قصة (ذاكرةُ اليوسفي)، لأنها تتماسُّ بشكلٍ كبيرٍ مع طفولتي. وأثناء البحثِ والكتابة، أغرمتُ بالمصرياتِ بشكلٍ خاص، بالإضافةِ إلى الأساطيرِ الأفريقية، التي تظهرُ بشكلٍ كبيرٍ في قصة (صيفُ الجربوعِ الأخير).”

وتتابع: “في (أوراقِ أتيسِ الأولى)، كانت الكتابةُ مُجهدةً جدًّا، لأن (أتيس) هي القصةُ الوحيدةُ التي بكيتُ بعد انتهائها. كذلك، أستعملُ المشاهدَ اليوميةَ غيرَ الاعتياديةِ في الشارع، لإنتاجِ غرائبيةٍ واقعيةٍ – أو يمكنُ تسميتُها (واقعيةً شبحيةً) – تخلقُ حالةَ إحلالٍ بين ما هو لا واعٍ، وبين الواقعِ المُلغَّمِ بلحظاتِ السحرِ المُخبَّأة، وهذا يظهرُ جليًّا في (أوراقِ أتيسِ الأولى). أما (شبحُ مدينةِ الميلاتونين)، فقد استخدمتُ فيها الميلاتونين كمادةٍ أوليةٍ للحياةِ، ووضعتُ سؤالًا جدليًّا يبدو بسيطًا: (ماذا لو كُنَّا بلا خيال؟)
وأختمُ المجموعةَ بترميزِ جدليةِ الزمنِ بشكلٍ واضحٍ في قصة (الرجلُ الذي أكلَ الساعة)، تاركةً الأمرَ للمتلقي ليُجيبَ عن كثيرٍ من الأسئلةِ التي لا أملكُ سوى طرحَها، وفتحَ الأبوابِ للبحثِ والتفكير، ليجدَ كلٌّ مِنَّا إجابةً تجمعُ بين معرفته، وبحثه، وبيئته، وماضيه، ومستقبله، لتتبلورَ في لحظته الحاضرة.”


مقتطفٌ من المجموعة

ابتسمتْ، وكانتْ قد اشتاقتْ أنْ تغمرَ جسدَها بالماءِ لخمسين عامًا. بحثتْ عن مكانِ الحمامِ وأغلقتِ الباب. خلعتْ ثوبَها واستلقتْ في حوضِ الاستحمامِ وفتحتْ صنبورَ الماءِ، ثم أغمضتْ عينيها مبتسمةً، وغَفَتْ مسترخيةً. عاد الجربوعُ فلم يجدْها. وحينَ وصلَ إلى بابِ الحمامِ، فتحَه فصُعِقَ كأيِّ جربوعٍ يصعقه غضبُ الشمس. لقد غمرَها الماءُ. سحبَ شعرَها الطويلَ، الذي أغلقَ فتحاتِ الصرفِ العاطلةَ عن العمل.

“أراكني، أجيبيني!”
“أراكني، لا تتنفس!”
“أراكني، أجيبيني!”
“أراكني، لا تتنفس!”

أخرجَها من الماء، وبدأ جسدُها في التقلُّص، حتى بدَتْ في صورتِها الأولى، نائمةً، مُتوَّجةً في أبديتِها. سقطتْ من يديه، ثم وَرْوَرَ وحَمَلَ جسدَها الصغيرَ المُتناهيَ الصِّغَر، وعادَ مُرتجِفًا إلى جُحرِه الصغير. ها هو عجوزُه الذي اختلسَ موتَه، وافترسَ الماءُ حياتَه. أصبحَ جربوعًا بلا موتٍ، وبلا حياة، وحيدًا في غرفتِه التي لم يَعُدْ يفتحُ نافذتَها أبدًا، حتى أصبحتْ عيناه تخشيان الضوء، وذبلَتْ أذناه مرةً أخرى، وترنَّحَ جسدُه النحيل.”

“وحيدًا، ساكنًا في بَرزَخِ الفقد، كانتْ تمرُّ ليالي صيفِه في سُباتِه. يخرجُ ليتفقَّدَ أمَّه التي بدأتْ ذاكرتُها في الذَّوَبانِ أكثرَ فأكثرَ. حينَ تراه، تفزعُ، حتى يقتربَ منها، ويطمئنَها برائحتِه التي لم تتغيرْ منذ أنْ حَمَلَتْهُ أوَّلَ مرةٍ بين ذراعَيها. أضحى رَثَّ المظهرِ، يداهُ نحيلتانِ بمخالبَ دقيقة. خَفَتَتْ حواسُّه تدريجيًّا، واتَّسعَتْ تلكَ البُقعةُ الجرداءُ في مقدِّمةِ رأسِه، يسيرُ في دُروبِ الحارةِ بلا مغزًى أو وجهة.”

“شاهَدَهُ أحدُ الجيرانِ ذاتَ يومٍ جالسًا على قهوته المفضَّلة، يُحدِّثُ الفَراغ. وكانوا يردِّدونَ أنَّ ما أصابَ الخالةَ أصابَه. دَقَّ بابَ المنزلِ في صباحِ أحدِ الأيام. فَتَحَ بثِقَلٍ شديدٍ، مُجَرْجِرًا قدمَيه المتقوِّستَين. كان عامِلًا في مصنعِ (ذي البَطْنِ المُستديرةِ)، الذي لم يتعرَّفْ على الجربوعِ في البداية، فناولَه زجاجةَ عِطْرٍ ومبلغًا من المال…”


الرجلُ الذي أكلَ الساعةغادة كمال

📖 إصدار دار صفصافة للنشر
📖 Published by Sulfur Edition

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى