جاليري

“ديزل” رواية بعيون وخيال وأيديولوجية الفنان عبدالرازق عكاشة

بقلم د. مرفت محمد، جامعة مصر، رئيس قسم علم النفس

حين تكتب الأستاذة الدكتورة مرفت محمد، أستاذ ورئيس قسم علم النفس بجامعة مصر، عن روايتيديزلوبطلها محمد فودة، فهذا يبهجقلبي ويملؤه بالسرور. كل صباح، أقف على باب قفص صدر الفرح، مستنشقًا هواءً عميقًا وسخيًا، وقد نبثق من قلم إنساني رشيق، تحليلنفسي دقيق بعين علمية، يتقنه بكل براعة الدكتورة مرفت محمد، التي تعمل الآن على تجهيز كتابها الأول.

ومع ذلك، فقد خصصت مشكورة وقتًا طويلاً من أجل قراءة روايتي، ثم كتبت عنها بعد أن ترجمت إلى الفرنسية مع فريق كامل تحت إشرافالصديق التونسي الدكتور علاء الدين السعيدي.

كتبت هذا النص في وقت حساس، كنت فيه قد بدأت أفقد الثقة في القارئ المصري الذي حصل على رواياتي، سواءالشرابيةأوثلاثيةليالي باريس، ولم ألاحظ أي صدى من أحدهم طوال فترة مضت.

لكن هنا، تعيد دكتورة مرفت محمد بلمساتها المتقنة إلى الأذهان بوصلة التوازن، وتكتب نصًا يمتلئ بكل معاني التفاؤل، وكأنها كتبت ذلكبأيدٍ ألف قارئ ينتظر منهم رد فعل. كما أنها تعيد التوازن للكاتب، فتدفعه للعودة إلى الكتابة بكل حماسة وتجديد.

فشكرًا جزيلاً لكِ، دكتورة مرفت، على هذا المجهود الكبير الذي منحني إياه قلمك المبدع، وتركناكم الآن مع نص معالي الدكتورة، الذي يمثلرسالة حقيقية من قلب إلى قلب.

عبد الرازق عكاشة

كالعادة، يصحبك عبد الرازق عكاشة بعفويته وسخائه الإنساني، ممسكًا بيدك متجولًا في متاحف وأحياء وشوارع باريس مع أبطال روايتهديزل“. وسوف يذهلك بهذا الكم من الخبرة والثقافة والقراءة الواعية والخبيرة بالفن والأدب والتاريخ والإنسانية، منطلقًا من قضيته الذاتية: الحلم والهوية والثقافة والإنسانية بشكل عام، والتي سوف يحدثك عنها كثيرًا طوال الرحلة. سوف يحدثك عن جمالية المكان والزمان والروحوالموسيقى والفن، ولأننا نفتقد الرواية التي تجسد كل هذا، فسوف تجده معك دون ملل، بعيدًا عن اللغة واللهجة المتعالية لبعض المثقفينالعرب.

حينما يدخلك إلى عالمه، سوف يمزج لك الواقع والخيال، وتتصاعد الأحداث في منطقية شديدة الوضوح. هناك في باريس، سوف يعرفكببطل روايته، محمد فودة المصري، حمادة الطنطاوي، وسوف يسرد لك معاناته في فرنسا، حلمه وحلم الكثيرين، وكذلك معاناته معالشخصيات المشوهة والمريضة والمتمردة والضائعة والفاسدة والطيبة، وصاحبة المبادئ والناجحة، والنفس الإنسانية التي لا تختلف مهمااختلفت الثقافات وتنوعت.

ديزلكُتبت بعيون وخيال وأيديولوجية الكاتب قبل بطل الرواية، وأظنه قد تعرض لنفس الاختبارات والعديد من المواقف المتشابهة للحظاتالتي عايشها حمادة الطنطاوي.

الرواية أتقنت وأخلصت للطريقة السردية دون أن تسقط في فخ التقليد الأعمى لا للرواية العربية ولا الفرنسية، وانتصرت لجماليات أكثرحداثة، وتناولت الحلم والمعاناة والواقع والخروج من أنانية البطل إلى النظرة إلى الجميع والتعامل مع ثقافة وإنسانية كل شخص داخلالرواية وكأنه بطل في عالمه وفي دوره داخل الرواية، دون الوقوع أسيرًا لقيود الحبكة الروائية التي تقتضي السير وفق مناهج تقليدية محددة.

ومن وجهة نظري، فالحداثة ألقت بظلالها في الرواية، وانعكست معالمها فعليًا من حيث التخلي عن طريقة عباقرة الرواية القدامى المصريينوالعالميين، فجاءت فريدة ومتميزة، وأضافت لمسته الفريدة التي أنضجتها خبرة الانفتاح على الآخر وقبوله غير المشروط.

الحداثة تجسدت في السؤال عن فهم الذات وتحقيق الذات، وفهم الآخر، والحلم والصراع، واللغة والعدل ومفهومه، واختلاف معاييره شخصيًاواجتماعيًا وعالميًا.

معاناة اللاجئين حينما فتحت فرنسا الباب أمام الجميع باسم حقوق الإنسان، دون مراجعة للكفاءات أو الخبرات، دون رقيب أو حسيب، ولمتمنحهم أوراقًا ثبوتية، ولم تمنحهم سوى الطعام والأرصفة، وتولى اللاجئون هناك مسؤولية الإنجاب، وجاء الجيل الجديد وكأنه خليفة لأرانببشرية تأكل وتشرب وتتزوج داخل الجحور والبلاعات الفرنسية.

داخل الرواية، سوف يناقشك في فكرة الهجرة الشرعية، وقوارب الموت، والعيش داخل بلاد الغربة، والتي قد تقترح عليك نسيان الثأر والقضيةوالحق، وقبول التطبيع مع الآخر كعابي وأوروبي فقط.

سوف يضعك أمام أسوار الغربة وآلامها، وسوف يتسلل بك داخل عقول وقلوب أبطال الرواية ومشاعرهم وصراعاتهم لتري الوجع الإنسانيلدى أنطوان وأندريه، ومفهوم العدل لدى أنطوان الفرنسي الذي أراد أن يحققه لزوجته، متناسيًا محمدًا وعاداته وتقاليده ودينه.

ومع أن أنطوان استنكر ما فعلته فرنسا مع اللاجئين، حتى إنه هو نفسه ضحية لسياسات فرنسا التي راعت حقوق اللاجئين وهضمت حقوقمواطنيها، في حصولهم على معاش وتأمين اجتماعي جيد، وظلمتهم وكأنها تكفر عن ذنوبها أثناء احتلالها لبلادهم.

سوف ترى شخصية قادر صلاح الدين الشيخ، المتعصب المزيف الذي يعمل لدى قناة تلفزيونية يمتلكها إسرائيلي مقيم بالأراضي المحتلة. وأراد أن يبيع ساعة مزيفة للبطل في رمزية شديدة الوضوح لأمثال هؤلاء الذين يزيفون كل شيء: الدين، التاريخ، السلع، الإقامات،والشهادات، وكل شيء.

تناول في روايته قضية العروبة والتخلي عن الثأر العربي، وقبول التطبيع مع المهندس الإسرائيلي وزوجته، وفساد المقاول.

عبد الرازق عكاشة، المشاء العالمي، سوف يجسد لك جمالية المكان حتى في أشد الأحياء فقرًا، ويحكي لك عن الأسر الرومانية، ومحطة متروبيجال، وحيأوبار فيليه، وضاحيةكليشي، وميدان دي كليشي، ومحطة جارد نور، وهضبة مونمارتر، وحي ماكس دورموه، المزدحمبالسودانيين ومن قبلهم المصريين، وشارع الحي اللاتيني خلف جامعة السوربون، وعن كنيسة نوتردام، ومكتبة شكسبير.

سوف يذهب بك إلى هناك حقيقة.

حداثة الرواية في مراعاتها وتناولها الواعي للجانب الاجتماعي والسياسي والدولي والتاريخي لقضية اللاجئين، وكيف حمتهم فرنسا التيواجهت مشهدًا تاريخيًا صادمًا حينما سقط من حساباتها أن للآخر حلمًا وثقافة وكرامة، وأنها لن تعوض ولن تكفر عن ذنبها لاحتلال بلادهممهما فعلت.

والحداثة التاريخية في حديث الرواية عن الأماكن، وعن الجاليات المختلفة: الرومانيين، الهنود، الأتراك، الأفارقة، المصريين، المغاربةوالجزائريين.

حداثة الرواية في تجسيد جمالية المكان وتاريخه وروحه، في حديثه عن حديقة اللوفر، وحديثه عن قيمة وجمالية الفن والألوان. “الفنونوالألوان أوطان بلا جسد، تسكنها وتسكنك، تحبها وتدافع عنها مشاعرك دون إرادة منك، فتحمي إنسانيتك من التلوث، إنها أوطان ملكللإنسانية جمعاء.”

الكاتب هنا يطلعك على صور ذهنية وقيمية كما يراها بمخيلته، ويقربها إليك بعبقرية متفردة.

والحداثة في الرواية حينما تناولت الناحية النفسية، فالحوار الذاتي الداخلي، هكذا نسميه في علم النفس، كان حاضرًا، وتحدث عنه فيصراع البطل الداخلي حينما انتصر متأثرًا بتربية جده عن الضمير والقيم والعادات والدين والثقافة والعلاقات، كيف يكون لها قانونيحكمها. كما تناولت الرواية بشكل متكامل النفس الإنسانية من جوانبها الشخصية حتى عناية البطل بمظهره وأناقة ملابسه وأفكاره وخيالهوأحلامه ومشاعره وسلوكياته.

ومن الصور الذهنية العبقرية في الرواية: “وهكذا ظل يناجي روحه ويستمع إلى صوت أندريه في منامه، تتلو عليه ما تيسر من آيات الضميرالإنساني، وقصائد الوجع.”

الحداثة في تناول الرواية لشخصيات محورية، وأظن أن هذه الشخصيات كانت مؤثرة في حياة الكاتب نفسه، والتي شاهدتها في رواية نوالوفيديزل، وبالفعل تكتسب هذه الشخصيات قوتها وحضورها باعتبارها شخصيات ملهمة نجحت في تحقيق الحلم، كما أن معظمهمأصبحوا رموزًا وقادة للفن والثقافة والتنوير، أمثال د. فاطمة حامد الحسّي، وعمرو الشوبكي، ود. محمود عمارة، وسعد الدين، وهبة،وكثيرين.

أنا بالفعل لم أقرأ في الحداثة أو معناها أو معاييرها، ولكن أعتقد أن ما جاء في الرواية هو جوهر الحداثة.

د. مرفت محمد

جامعة مصر

رئيس قسم علم النفس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى