فرناندو بوتيرو وخلق جمالياتٍ مُعاكسة للحداثة
بقلم الفنان والناقد: عبد الرازق عكاشة، متحف دارنا، مصر

أولًا، وقبل كل شيء، كلمتي موجهة إلى كل فنان شاب أو شابة، وكل باحث أو باحثة من الطلائعيين الساعين وراء الحرية والفكر والإبداع:
لا تترك عقلك لغيرك، ولا تسلّم رأسك لمن يحاول ملأها بالفراغ والوهم.
صبّح الله صباحكم بالحرية، والسلام، والأمان.إنه لأمر يدعو إلى الدهشة دائمًا أن تجد “الشِّلَل” التي تقود تيارًا ضد الوعي والمعرفة، تحرّض على تغييب الفكر، وتدعو إلى تقليدٍ هزيل، موجِع وموجَّه ضد حركة التنوير والتقدم.
فالفن التشكيلي، دائمًا – أو لنقُل: يُفترض به – منذ عصر أوجين دولاكروا، أن يقدم رؤى إنسانية أولًا، ومستقبلية ثانيًا، حتى وإن استند إلى البناء الدرامي كمَرجِع، أو اعتمد على تراث إنسانيّ كمفهوم.لكن هذه “الشِّلَل” التي تتحرك ضد الوعي والفكر، تظهر كل فترة لتخدع الشباب وتضللهم في علوم المعرفة.
وما أكثر ما يزفّون لنا في كل حين “فرحًا” بفنان أو رسّام، كل مؤهلاته أنه رسّام أطفال جيد، أو صحفي سابق.
وهنا، أقف لهم احترامًا في تلك المنطقة فقط.أما أن يُقدَّموا كفنانين تشكيليين كبار، أو كمثقفين، فهذا وهمٌ حقيقي، وفراغٌ يُملأ بالكلام والمصادر المعروفة.
واليوم، أقدّم لكم أحد أهم المصادر التي كتبت عنها في 2009: هذا المقال الذي وجدته اليوم مصادفة، عن الرسّام الكولومبي فرناندو بوتيرو (مع الفارق أنّ بوتيرو رسّام ونحّات حقيقي، قوي، ويقدّم معالجات ورؤى إبداعية للمرأة، لا استخفافًا أو انتقاصًا من شأنها).كما تجدر الإشارة إلى أنّ من يعيد اليوم تقديم هذه المعالجات بصور مختلفة، إنما يكرر رؤًى سبق أن تناولها الفنان المصري د. مصطفى يحيى منذ زمن بعيد.
بوتيرو: الرسام المتمرد على الحداثة
يبدو أن الحداثة لم تُجْدِ نفعًا كبيرًا في وجه رسام مثل فرناندو بوتيرو.
فهذا الفنان الذي قَدِم من أقصى الجنوب الأميركي – كولومبيا – تحدى في رسوماته ومجسماته الفنون الحداثية بكل تجلياتها، وفرض على العالم مدرسةً جديدة في التشكيل، رافضًا الانتماء إلى الكلاسيكية أو السريالية أو الحداثة أو ما بعدها.
وإذا كان روبنز، رسام العصور الوسطى، قد استلهم الشكل السمين للجسد الأنثوي كتعبير عن الرغبة والترف والدهشة البصرية، فإن بوتيرو قد نقل هذه الفكرة إلى مجسماته ولوحاته، لا للتعبير عن اللذة أو الرغبة فحسب، وإنما ليجعل من الضخامة والكتلة مصدرًا للتعبير عن الهوية والذاكرة والحلم أيضًا.
المرأة في عالم بوتيرو
للمرأة مكانة بارزة في أعمال بوتيرو، لكنها ليست امرأة مُستلبة ولا أنثى للزينة أو الإغواء.
إنها جسد ممتلئ، عارٍ في معظم الأحيان، يختصر في حضوره قضايا الإنسان – من السياسة إلى الدين، ومن الطفولة إلى الكهولة.
بوتيرو يُعرّي كل شيء، بدءًا من الأساطير والرموز الدينية، مرورًا بالقساوسة والجنرالات، وانتهاءً بالمومسات والفقراء.
ولا تكاد تخلو لوحة له من مفارقة ساخرة، تنتزع الضحك المر من المتلقي، وتدفعه إلى التفكير في ما وراء الكتلة واللون.
فالعري هنا ليس إباحية، بل أداة لفضح المجتمع، ومرآة تعكس تشوهاته.
أما الامتلاء فهو استعارة عن التخمة السياسية والدينية والاجتماعية التي يعيشها الإنسان اللاتيني، بل الإنسان عمومًا.
العالم يضحك مع بوتيرو
لوحات بوتيرو ليست سهلة، على الرغم من بساطتها الظاهرة.
فهي تحمل في طياتها نقدًا لاذعًا لسلطة الكنيسة، والعسكر، والساسة.
ومع ذلك، لا يُمكنك إلا أن تبتسم أمام أعماله، وربما تضحك.
إنه الفنان الذي أضحك العالم، لا لأنه مضحك، بل لأنه صادق، ووصل إلى القلوب قبل العقول.
بوتيرو والنحت: الكتلة المتكلمة
في أعماله النحتية، يواصل بوتيرو فلسفته ذاتها، إذ يمنح البرونز والرخام روحًا ساخرة، فيجعل من الكتلة شيئًا حيًا ينبض بالمفارقة والدهشة.
من أشهر منحوتاته تمثال المرأة العارية المستلقية، وتماثيل الحيوانات الضخمة – وخاصة القطط – التي باتت رموزًا لأماكن عامة في مدن كبرى.
بوتيرو: ضد التصنيف
رفض بوتيرو أن يُدرَج ضمن أي تصنيف فني، فلوحاته تجمع بين سذاجة الرسم الشعبي، وعمق الرؤية الفلسفية، وسخرية الكاريكاتير، وجرأة النقد السياسي. إنه رسّام لا يشبه إلا نفسه، ولا ينتمي إلا إلى عالمه الداخلي.
في الختام
علينا أن نعيد قراءة بوتيرو من جديد، لا بوصفه رسامًا للبدانة كما يُختزل أحيانًا، بل كمبدع حر، قاد ثورة جمالية بأسلوبه الخاص، وأسّس مدرسة تحمل اسمه وصورته وروحه الساخرة.
وكم نحتاج، في عالمنا العربي، إلى فنانين بهذه الروح، يعبّرون عن مجتمعاتهم بصدق، لا بالتقليد والتصنّع والتبعية، بل بالتمرد الجميل، والابتكار، والشجاعة
جريدة الزمان (لندن) – الأهرام الاقتصادي (مصر)، 2009