العلاقة بين جاكسون بولوك وبيكاسو وتحولات في سلطة التجريد
الفصل العاشر من كتاب "التجريد" للفنان عبد الرازق عكاشة

تغيّرت في مسار التجريد الفنون، من المجدّد بيكاسو إلى ملك الطاقات التحريضية في الإبداع، إلى جاكسون بولوك، ملك الطاقات الانفعالية. فبين فعل بيكاسو وردّ فعل بولوك، مسافات قريبة لا يقرؤها إلا المبصرون.
البعض ما زال يتخيّل أن الحداثة أو ما بعد الحداثة أشياء تأتي بالصدفة، أو تحركها مغامرات الفنان فقط. في الحقيقة، التغيرات الإبداعية تُبنى على منهج، حتى المتمردون لهم نظرات وفلسفة اجتماعية. لا يمكن للفنان أن يبني عمله على الصدفة والارتباك… إلا في العالم العربي!
تجد نظرية “الفنان النطاط”، أو “الهجام”، أو “الخطّاف”، الذي يظهر كل يوم بشكل مغاير، ويقدّم عملًا منقولًا دون ذكر أو احترام للمصدر. بل على العكس، قد يذبح المصدر ليعيش هو وحده اللحظة. مثل الذي خدعني شخصيًا باسم الدين! بكل هذه الخبرة، أعترف أنني خُدعت، لأنني أتعامل بشرف دائمًا. وأنتم تُخدعون يوميًا لأن المخادعين محترفون في التزوير والكذب ولباس التدين.
باريس
عبد الرازق عكاشة
بيكاسو وبولوك: إبداع واحترام المصدر

بيكاسو، الملهم، نقل لوحة “فلاسكيز” الكلاسيكية وحوّلها إلى مشروع بصري حداثي جديد، مع توثيق أن اللوحة عبارة عن تحوّل تكريمي للفنان. فان جوخ، الذي تحبون أعماله، نقل 90% من لوحات الفنان مِييه، وانتقل به من الانطباعية إلى التأثيرية، مع اعتراف كل فنان بأستاذية الآخر.
حتى جماعة “الأنبياء”، تلاميذ “جوجان” الرهيب، نقلوا منه و”عنه”، وعن الفنان الناقد والمنظّر الأهم “موريس دوني”. في بعض الأحيان، لا تفرّق بين لوحاتهم لولا اعترافهم الشخصي والتوثيقي. وهنا تأتي أهمية “الأرشيف”، هذه الفكرة الجوهرية، لأننا نعيش بلا أرشيف، بلا وعي!
كل شخص يظن نفسه المخترع الأول، الرائد الكبير، لا قبله ولا بعده. غياب الأرشيف والذاكرة المثقوبة جعل عددًا كبيرًا منا يعيش بنظرية “الهجام المتفرّد”.
اللقاء مع كلير نازجيان والعودة إلى الجذور
كان لا بد من هذه المداخلة السريعة بمناسبة عودة البينالي، وعودة نظريات “الفنان الهجام”. تذكرت كل هذا عندما سلّمتني الناقدة الفرنسية المعروفة “كلير نازجيان” نسخة من كتاب مهم جدًا صدر عام 1998، يتحدث عن علاقة جاكسون بولوك ببيكاسو.
حب بولوك للآخر، وعشقه للتطوير الشديد في أعمال “أبو الحداثة” بيكاسو، جعله يضع لوحات الثور لبيكاسو أمامه. درس مراحل التحول من التكعيب إلى التجديد، إلى الإفراط في الخطوط الحازمة، ليربط فكرة التكعيب بشيء جديد.
بين باريس ونيويورك: تأثير المكان
بولوك كان مبهورًا بأعمال بيكاسو في عشرينيات وأربعينيات القرن العشرين. في عام 1935، نقل بولوك لوحة “امرأة جالسة على أريكة” لبيكاسو (وهي إحدى أشهر لوحات متحف الفن الحديث في نيويورك). لكنه وقف أمام الحاجز الوجداني والشاعري واللوني بينه وبين بيكاسو.
أدرك بولوك فورًا أن هناك طاقات مختلفة، وجدانًا آخر، جو إنتاج لا يشبه جوه. بيكاسو كان يعمل في باريس، المدينة المنهكة بعد الحروب، ولكن بجو شاعري بسيط ومقاهي حي “مونبارناس” ومطاعم الحي اللاتيني. أما بولوك، فكان يرسم في نيويورك الحالمة، المتضخمة، ذات ناطحات السحاب.
بولوك: من التشخيص إلى التجريد
بولوك تخلّص من التشخيص الكامل لصالح الخطوط العمودية والأفقية المتلاحقة. هنا تتجلّى ذكاء المعالجة، والتحديث بوصفه “سلّة من التوابع الإنسانية”.
عام 1942، نفّذ بولوك عمل “امرأة جالسة” تحية لبيكاسو، لتُعرض بجوار عمل بيكاسو في متحف الفن الحديث عام 1947. أما لوحات بيكاسو عن الثيران، فقد أعادها بولوك بروح وطاقة أخرى، في سلسلة ما قبل تحوّله إلى التجريد الكامل — وهي فترة مهمّة لم يُنصفها النقد العربي كثيرًا.
من التعبيرية إلى التجريدية
مشكلة بولوك أن “الطاقة” أو الـ Hyper Active Power، كانت أعلى. استلهم لوحات بيكاسو “ثور” إلى منطقة أكثر حرية في التحريك اللوني، والأداء الحسي، والتركيبة الميكانيكية لحركة المبدع والطاقات المحرضة لمواجهة الريح العاتية.
من 1940 إلى 1945، أمضى بولوك خمس سنوات يرسم مشروعًا قائمًا على لوحات بيكاسو، الذي يملك طاقات أقل حركيًا، وأكثر ذكاءً. بولوك أعاد لوحة “امرأتان” التي رسمها بيكاسو عام 1932، بأسلوبه في عام 1943.
من الصورة الواقعية إلى التعبير الحرّ
من ابتكار الفن إلى فهمه الحديث، سعى الفنانان جاهدين لأداء لوحات واقعية باستخدام خطوط معقدة ومزيج ألوان. لكن مع اختراع الكاميرا، تغيّر المشهد. بولوك حول اللوحة إلى سرد مشهدي أكثر حرية وطاقة، من خلال التعبير الوجداني العاطفي.
أما بيكاسو، فكان له التأثير الأكبر في الانتقال من الواقعية إلى التجريد. في مشروعه الكبير “جيرنيكا”، ساعد على إدخال التكعيبية في بدايات القرن العشرين، وابتعد عن “الجميل” نحو “الحدث”.
رغم أنها لوحة تجريدية، فإن “جيرنيكا” كانت بيانًا مناهضًا للحرب. جسّدت المدنيين الأبرياء، بالحيوانات والأشخاص المجردين، بالصراخ والعاصفة… جعلتنا نسمع القصف بعيوننا.
جاكسون بولوك والإعادة
خطوط رفيعة، وطاقات جبّارة لتشكيل أشكال عضوية بأسلوب التنقيط. يُظهر تأثير ذهن الفنان وعاطفته، في تقنيات الرسم. بولوك وبيكاسو على طرفي نقيض من الطيف الفني، لكنهما اتفقا على جوهر: الفن ليس ما تُظهره اللوحة، بل ما يترسّخ في الوجدان.
باريس
عبد الرازق عكاشة
نيسان 2025