“نيكولاي جوميليوف: شاعر، بصير، ونبي”
الذكرى 139 لميلاد الشاعر

كتبت الشاعرة أولجا يفيموفا – موسكو:
بينما يواصل المشككون طرح سؤالهم الممل: “هل لا يزال أحد بحاجة إلى الشعر اليوم؟”، تستمر الفعاليات الشعرية والمهرجانات الأدبية بالتتابع في المشهد الثقافي الروسي، لتقدّم إجابة واضحة على هذا التساؤل. كثيرون اليوم يعتبرون نيكولاي جوميليوف شاعرهم المفضل، وهو ما أكدته القاعة المكتظة في “البيت المركزي للكتّاب” في موسكو. جمهور غوميليوف يتراوح عمره بين 16 و80 عامًا.
منذ أربعة عشر عامًا، دأب “مجتمع جوميليوف ” على تنظيم فعاليات مخصصة لعيد ميلاد الشاعر، وتتغير ثيمة كل عام، إذ يتيح الإرث الإبداعي الغني للشاعر جوميليوف تنوّعًا واسعًا في محتوى البرامج. هذا العام، تمحور الحدث حول قصائده النبوئية، وكان عنوانه: “نيكولاي جوميليوف: شاعر، بصير، ونبي.”
ما الذي رآه جوميليوف في مستقبل بلاده البعيدة عام 1921؟ وإلى أي مدى تنبأ بموته؟
رحل نيكولاي في ريعان شبابه، إذ أُعدم رميًا بالرصاص عن عمر يناهز 35 عامًا بتهمة المشاركة في مؤامرة مضادة للثورة. وتحتوي بعض قصائده على أبيات يراها القرّاء والنقاد نبوءات فعلية. منذ عام 1987، حين أصبح بالإمكان الحديث عن غوميليوف ونشر أعماله، كُتبت مئات الكتب والمقالات عن حياته وإرثه الإبداعي.
اليوم، نحاول فك رموز النصوص السرية لذلك الشاعر، الذي أصبح لاحقًا بطلًا لرواية فانتازيا كتبها لازارتشوك وأوسبينسكي بعنوان: “انظر في عيون الوحوش”. الفكرة الأساسية في الرواية هي أن هذا الشاعر الشجاع كان حاملاً لمعرفة سرية.
افتُتح الأمسية كالمعتاد بلحظة موسيقية من أعمال سيرغي رخمانينوف، أدّتها ببراعة عازفة البيانو ناتاليا تيريوخوفا. تحدثت أولغا ميدفيدكو عن كيف تجسّد البُعد الرؤيوي والنبوئي في أعمال جوميليوف ، وقارنت بين أبيات شعرية ووقائع من حياة الشاعر ومن مسار البلاد عمومًا، مدعّمة حديثها بعرض بصري.
جوميليوف لا يزال، من نواحٍ كثيرة، شاعرًا غامضًا لم يُفكّ رمزه بعد. والغموض، في جوهره، شيءٌ يظل مستترًا عن الفهم. لكن هل نحن بحاجة إلى فك كل الألغاز؟ هل سيبقى الشعر حينها في حياتنا؟ ربما من الجيّد أن يبقى غوميليوف سرًّا يجتذبنا ويأسرنا، يثير فينا الحب والإعجاب.
ومن هذا الحب له، توافد مئات الأشخاص إلى الأمسية، وشارك فيها ممثلون وشعراء ومغنون وموسيقيون، إلى جانب المنظمين – وعلى رأسهم أولغا ميدفيدكو، رئيسة “جمعية غوميليوف”، والشاعر أندريه كوروفين.
استعرضت ميدفيدكو أنشطة الجمعية خلال العام، وتحدثت عن نشأة وتطور متحف “بيت آل جوميليوف ” في مدينة بيجيتسك، الذي أنشئ بجهود تطوعية في شقة كانت تملكها عائلة الشاعر. وقدّمت عرضًا شرحت فيه قصائد غوميليوف النبوئية، مقارِنة بين نصوصه ووقائع من حياته ومن تاريخ البلاد.
لقد مات الشاعر في أوج عطائه، لكنه ترك إشارات إلى موته في قصائده، وهو ما رأته زوجته الشاعرة آنا أخماتوفا حين وصفته بـ”النبي والبصير” و”أكثر الشعراء غموضًا”. حاول غوميليوف في شعره أن يجد طرقًا للاستمرار، حتى وإن كان ذلك بأشكال أخرى وفي عوالم أخرى:
ها أنت تنادي: “أين شقيقة روسيا؟
أين هي، تلك المحبوبة الدائمة؟”
انظر للأعلى: في كوكبة الحيّة
نجمة جديدة أضاءت هناك.
هناك قصة مدهشة مرتبطة بهذا المقطع. كتب جوميليوف القصيدة عام 1918، وتحققت نبوءته بعد أكثر من نصف قرن! ففي عام 1970، فوجئ الباحث بافيل لوكنيتسكي، المتخصص في أعمال غوميليوف، عندما صادف في جريدة “موسكو المسائية” خبرًا صغيرًا: “في 14 فبراير، اكتشف فلكيون يابانيون من مرصد كوراشيكي نجمًا جديدًا من القدر الخامس في كوكبة الحيّة”.
كان بافيل يؤمن دومًا أن شاعره المفضل يرى عبر الزمن والمكان. فهل نحتاج إلى دليل أوضح؟
بل إن الشاعر تنبأ بمصيره هو، وبأن موته لن يكون عاديًا، بل مختلفًا عن موت المواطن العادي:
ولن أموت على سرير،
بين كاتب عدل وطبيب،
بل في شقّ بريّ
مغمور باللبلاب الكثيف…
وقد أُعدم فعلًا في غابة، لا في أقبية السجون، ولفت اتزانه الأخير حرسه أنفسهم. وفي قصيدة “العامل”، وصف جوميليوف تفاصيل رحيله بالرصاصة:
سأسقط، حزينًا حتى الموت،
سأرى الماضي حيًا أمامي،
والدم سيفور كالنّبع
فوق العشب الجاف والمتهشم…
وقد حدث ذلك تمامًا كما تنبأ، في نهاية الصيف – أغسطس – حين يجفّ العشب ويتكسر…
تحدّث يوري شيغولكوف، مدير “متحف بيت جوميليوف ” ورئيس تحرير صحيفة “المدينة الأدبية”، عن الحياة الثقافية في بيجيتسك، المدينة المرتبطة بعائلة الشاعر. كما أحضر النحات فاسيلي سيليڤانوف تمثالًا نصفيًا من البرونز لجوميليوف من نحته، فوُضع في مكان بارز على المسرح طوال الأمسية، ما منح الحضور إحساسًا حقيقيًا بوجود الشاعر بينهم – هنا والآن.
وكان من أروع الهدايا للجمهور أداء المغنية والشاعرة والملحنة يلينا فرولوفا، التي تغنّت بنصوص شعراء العصر الفضي. بصوتها – القوي تارة والحنون تارة أخرى – خلقت فرولوفا صدىً فريدًا بين كلمات الشاعر وقلوب الحاضرين. وكما قالت، أرادت أن تهيّئ فضاءً زمنيًا ومكانيًا يتيح للسامعين الإحساس بالعالم الذي عاشه غوميليوف وكتب فيه.
وتناولت الأمسية أيضًا جانبًا مهمًا من شعره: أفريقيا، القارة التي أحبها.
عرض نيكولاي نوسوف، الرحالة والمواظب على حضور فعاليات غوميليوف، فيلمًا عن رحلته التي أعاد فيها تتبع خطوات الشاعر في القارة السمراء. كما روى الشاعر أندريه كوروفين قصائد وحكايات من زيارته إلى أفريقيا.
ألقيت قصائد جوميليوف طوال الأمسية، تكريمًا لذكراه. قرأت الممثلة إيكاترينا إيشيمتسيفا عددًا من القصائد، منها “بحيرة تشاد”. أما قصيدته الشهيرة “الزرافة”، فقد تليت بلغات متعددة: البرتغالية والألمانية والروسية، بصوت الشاعر والمترجم أستيير باسيليو من البرازيل، الشاعرة لوريسيا فلافي من الكونغو برازافيل، والمترجم ألكسندر نيتسبرغ من النمسا. وقد شكّل الاستماع إلى ذات الأبيات بلغاتٍ مختلفة تجربةً موسيقية فريدة، رغم تباين بنى الأصوات بين تلك اللغات.
كما قدّم البارد والمستشرق دميتري ستريشنيف قصيدة “القباطنة” الخالدة.
واختُتمت الأمسية بعرضٍ لفرقة “فرقة الشعراء الموتى”، التي قدّمت، بمرافقة البيانو والكمان، تركيبة شعرية موسيقية من قصائد غوميليوف. أنشدت إيرينا كوفاليفسكايا قصائد من بداياته، وكأنها تُحيي الحداثة الروسية من جديد، لتنقل الحضور إلى أجواء “مقهى الكلب الضال”. استمع الجمهور إلى “الكمان السحري” و”الترام المفقود” بصوت بوغدان بونتشوك، وأبدعت ليليت كارابيتيان في قصيدة “رعب النجوم”، إذ استطاعت إيصال البعد الرمزي للعصور السحيقة.
غوميليوف، ككل الشعراء الروس الكبار، نبيّ وبصير. قصائده تحكي عن الارتباط الخفي بين الأرضي والمقدّس، عن خلود الروح، عن التلازم بين الحياة والموت، عن الجمال الإلهي للعالم والإنسان.
شعره يحمل سرًا لا يمكننا فكّه، لكن يمكننا أن نشعر بانتمائنا إليه.
أتُرى، ما المفاجآت التي تنتظرنا في العام المقبل، عام الذكرى المزدوجة: 140 عامًا على ميلاد غوميليوف، و15 عامًا على تأسيس “جمعية جوميليوف “؟
