
في زمنٍ أصبحنا نعاني فيه جميعًا من غياب الترابط الأسري والتواصل الاجتماعي الحقيقي، بعيدًا عن الإنترنت وبرامج التواصل الاجتماعي الافتراضية الصمّاء، حتى في مسلسلات وأفلام الأطفال والنشء التي كانت في عقود سابقة تزكّي هذه الفضائل، لم تعد كذلك في العقدين الأخيرين؛ تطلّ علينا كنسمةٍ لطيفةٍ في ليالي الصيف الجافة حلقات الموومينز (Moomins)، في أجواء استثنائية من المحبة والتسامح والتعاون والصداقة، وعبر لوحات من الطبيعة الساحرة، حيث السهول والوديان والأنهار والجبال والغابات… إنها حلقات الموومينز التي اشتهرت في الوطن العربي باسم: (وادي الأمان).

العيد الثمانون للموومينز
يحتفل مبدعو ومنتجو ومحبو وعشاق الموومينز هذا العام بعيد ميلادهم الثمانين. تعود بنا عجلة الزمان إلى واحدة من الدول الإسكندنافية، حيث المبدعة الفنلندية الناطقة باللغة السويدية (وهي إحدى اللغات الرسمية في فنلندا): إنها الفنانة الشاملة والرسامة والكاتبة المشهود لها بالبراعة توفا يانسون (Tove Jansson، 1914–2001)، التي تنحدر من أسرة فنية؛ فالأب كان نحاتًا، والأم مصممة طوابع فنلندية.
نعود بعجلة الزمان وتحديدًا إلى عام 1945، حيث نشرت توفا يانسون أولى لوحاتها التي حملت اسم “الموومينز والطوفان العظيم” (The Moomins and the Great Flood). في قلب الحكاية يقع منزل الموومينز، والذي يُعدّ منارةً للأمان والراحة والتسامح في وادي الموومينز.

ثم أصدرت بعد ذلك كتابين:
-
المذنب في أرض الموومينز (Comet in Moominland)
-
عائلة فين مومينترول (Finn Family Moomintroll)
نُشِر هذان الكتابان بين عامي 1946 و1948، وحقّقا نجاحًا عظيمًا. ثم حقق كتابها الأول (الموومينز والطوفان العظيم) شهرة واسعة على خلفية الانتشار الهائل لكتابَيها اللاحقَين. وقد حصلت توفا يانسون على ميدالية هانز كريستيان أندرسن (Hans Christian Andersen Medal) عام 1966.
قُدمت كتاباتها وقصصها حول الموومينز في أعمال مسرحية وسينمائية، بل وصلت إلى عروض في دور الأوبرا حول العالم، مستوحاة من مغامرات تلك العائلة الفريدة.
الطبيعة مصدر الإلهام
حرصت توفا على محاكاة الطبيعة في هذه البقعة الساحرة من العالم؛ ليس فقط في الغابات والأنهار والسهول والأرخبيلات المتعددة، بل أيضًا في فصل الشتاء الطويل، حيث تقترب فنلندا والدول الإسكندنافية من القطب الشمالي. فطول فصل الشتاء ألهم الكاتبة بفكرة “البيات الشتوي”، إذ يقوم الموومينز بالنوم في الشتاء والاستيقاظ مع قدوم الربيع.
المعاناة الحقيقية وراء الإبداع الصادق
لطالما كانت الحرب ساحةً للويلات والفقدان والحسرة. عندما بدأت توفا يانسون في رسم لوحات وادي الموومينز، كان ذلك متزامنًا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1945، حيث كانت الطائرات السوفيتية تقصف العاصمة الفنلندية هلسنكي. كانت توفا، المولودة عام 1914 (وهو العام الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى)، تكتب وترسم وتلوّن أعمالها تحت وطأة القصف المستمر. وُلد لديها شعور عميق بالنفور من الحرب، فتجلّى ذلك في ابتكار عالم وادي الموومينز، حيث يسود الحب والسلام والعطاء.
الموومينز: ظاهرة كلاسيكية عالمية
حققت مغامرات الموومينز أول نجاح عالمي لها في العاصمة البريطانية لندن، حين بدأت مجلة Evening News بنشر قصص فكاهية مصورة عنهم، وكانت توفا ترسم وتلوّن كل الشرائط حتى عام 1959، حين تولّى شقيقها لارس يانسون (Lars Jansson) مهمة التلوين، بينما اكتفت هي بالكتابة والرسم.
في عام 1975، أصدرت دار Drawn & Quarterly الكندية طبعات جديدة لجميع شرائط Evening News التي قدّمها كل من توفا ولارس. ومنذ عام 2006، تم نشر خمسة مجلدات أولى، بينما نُشر المجلد السادس في مايو/أيار 2011.
عالم الموومينز الذي أبدعته توفا يانسون بدأ بسلسلة من الكتب والمجلات المصورة (1945–1970)، نُشرت باللغة السويدية ثم تُرجمت إلى 38 لغة. لاحقًا، تحولت هذه القصص إلى أعمال تلفزيونية وسينمائية ومسرحية.
من أشهر تلك الأعمال مسلسل الرسوم المتحركة، وهو إنتاج ياباني–فنلندي–سويدي مشترك، عُرض على القنوات الفضائية العربية بين أبريل/نيسان 1990 وأكتوبر/تشرين الأول 1991، في نسخة ثنائية الأبعاد من 78 حلقة بعنوان: (وادي الأمان).
التحدي الكبير: الأخلاق أم المادة؟
يُعد ابتعاد توفا يانسون وفريق عملها عن التأثير السلبي للآلة الإعلامية الأمريكية – خاصة على محتوى الأطفال واليافعين – السر الحقيقي وراء وداعة عالم الموومينز ودفئه. لذلك، رفضت توفا عرضًا مغريًا من شركة ديزني (Disney) لشراء حقوق شخصياتها وتسويقها ضمن المحتوى الأمريكي، رغم الإغراء المالي الهائل الذي يصعب رفضه.
الشخصيات المحببة في عالم الموومينز

-
المومين ترول (Moomintroll): الشخصية الرئيسية، طيب، متعاون، حالم، يحب الأصدقاء ويقضي معهم أوقاتًا ممتعة. يؤمن أن وادي الموومينز هو أكثر الأماكن أمانًا في العالم. أكثر ما يزعجه هو الوحدة.
-
Moominmamma ماما موومين (Moominmamma): أم طيبة وحنونة، تؤمن أن لا مشكلة بلا حل. تهوى الطهي والقراءة، وتفخر بحقيبتها السوداء ومريلتها المخططة بالأحمر.
-
بابا موومين (Moominpappa): بابا مومين : عاني بابا موومين في
شبابه من كونه يتيماً، ولكنه تغلب على مرارة مشاعر اليتم وكان مغامراً لا يهدأ، إلا أنه قرر أن يكون أباً مسؤولا ويتزوج ويكون أسرة يعوض بها ماذاقه من الوحدة وغياب الأسرة ودفء مشاعرها. إنه غالبا ما يقضي أوقاته الطيبة في القراءة وكتابة القصص وتلاوة المغامرات لأسرته ولأصدقاءه . وهو غالبا ما يرتدي قبعته السوداء المميزة .سنافكين (Snufkin): الصديق الأقرب لـ المومين ترول. يرتحل جنوبًا في الشتاء ويعود في الربيع، يعزف الهارمونيكا، يكره القيود والأسوار، ويمثل رمزًا للحرية. في النسخة العربية: هادي.
-
ماي الصغيرة (Little My): ظهرت ماي الصغيرة للمرة الأولى في الكتاب الرابع من سلسلة الموومينز والذي عمل اسم ذكريات بابا موومين ، وهي دوما لديها إستقلالية في شخصيتها مع شيء من العصبية الطفولية وهي تنتمي إلى جماعة الما يبلز، وهم من البشر العاديين الذين يعيشون في تناغم تام مع الموومينز، لكنها تقيم بصورة شبه دائمة مع عائلة الموومينز في منزلهم الأزرق الذي يشع محبة وتسامح وعطاء .
وهناك العديد من الشخصيات المتنوعة الجذابة التي تخلق التفاصيل المحببة للموومينز مثل الكنغر سنيف (Sniff) الأشباح البيضاء التي تسمى الهاتي فتنرز (Hattifatteners)، التوتيكي (Too-ticky) وهو الكائن الشتوي الذي يعي في منزل بابا موومين العائم وهو محب للحرف التقليدية والصناعات اليدوية، وهو يسكن في هذا المنزل في فصل الشتاء حيث البيات الشتوي للموومينز، أما فلورين (Snorkmaiden) والتي حملت اسم (سناء) في النسخة العربية فهي صديقة المومين ترول المقربة وهي دوما مزهوة بجمالها وشعرها الأصفر الناعم. … والعديد من الشخصيات اللطيفة المبهرة في تفاصيلها من خلال الموومينز وعالمهم المليء بالمغامرات التي لطالما حملت معها قيماً نبيلة وأخلاقاً سامية.
من الحلم إلى الواقع
سعت توفا يانسون إلى تجسيد عالم الموومينز ماديًا، من خلال منزلهم الأزرق الإسطواني وسط الوادي، وبحثت عن منطقة جذابة في العالم لإنشاء وادي فعلي، واختارت موقعًا قرب مدينة طنجة المغربية، الفاصلة بين أوروبا وإفريقيا، لكن المشروع لم يرَ النور رغم توفر التمويل.
ومع ذلك، ففي أقصى شمال الأرض، في مدينة ناتالي الفنلندية، تأسست حديقة موومين وورلد (Moomin World). وفي مارس/آذار 2019، افتُتحت حديقة الموومينز في اليابان.
ختامًا
في العام الثمانين للموومينز ونحن نحتفل بهذه العائلة الطيبة المترابطة نحل أننا كآباء وأمهات ، كأصدقاء ومحبين ، كشباب وفتيات ، كشيوخ وجدات ، نشعر بالامتنان للكاتبة الراقية توفا جانسون وأسرتها وكل من شارك في هذه السيمفونية الرائعة من المشاعر والأحاسيس الجميلة التي اعتقدنا أنها توارت واندثرت مع طوفان الماديات البائسة المحيطة بنا ، لكنها جددت لنا الوعد وأنعشت الروح وأكدت الإيمان بأن المحبة والتسامح والطاء قيم نبيلة غير قابلة للاندثار ولا للنسيان.