جاليري

ألورا: شاعرة تنسج أحلامها بكل اللغات

قراءة: أشرف أبو اليزيد

التقيتُ الشاعرة والمؤلفة الجنوب أفريقية الشابة نثابيسينغ جاهروز جافتـا (Nthabiseng JahRose Jafta) لأول مرة في القاهرة، وهناك اكتشفتُ شاعرة تقطّر ثقافتها في بوتقةٍ تنصهر فيها القضايا الحية، سواء تعلّقت باللغة أو العرق أو القضايا النسوية. ورغم أن أحدث أعمالها “ألورا” (Alora)، والذي يقع في 228 صفحة، موجه في ظاهره للأطفال، إلا أنه كتاب للكبار أيضًا، يكشف عن قدرة الروح الإبداعية الأفريقية على التحليق فوق بساط الريح السحري للخيال.

إن كتاب ألورا رحلة شعرية متوهجة ومتعددة اللغات، تستكشف الهوية، والأنساب، واللغة، والحنين. وقد كُتب أصلًا بلغتي السيسوتو والإنجليزية، ثم تُرجم إلى أكثر من عشر لغات عالمية، منها العربية، الكيسواحيلية، الروسية، الإسبانية، والماندرين، ليكون دليلاً على أن الشعر يمكن أن يكون وطنًا وجسرًا للشفاء العابر للثقافات.

الشعر كحوار مع الأسلاف

جذور أشعار جافتـا تنغرس عميقًا في ذاكرة الأجداد. ففي قصيدة “Ke bomang?” تسائل وتستدعي أرواحًا عليا:

ربما هم ملائكة وأسلاف
نزلوا ليشقوا جهلنا…”

هنا، تتموضع الشاعرة داخل سلسلة روحية متصلة، تمتد بين حياتين، أرضية وعلوية، حيث تتداخل الجغرافيا المادية مع النشأة الميتافيزيقية، كما توحي بذلك تكرارات عبارة “Ntshwanatsatsi”، أي “حيث يولد الشمس”.

سنتلمس إرث الأنوثة وتمزّق السلالة الأمومية كما في قصيدتها المؤثرة “جدتي رحلت” (My Grandmother Left)، تواجه الشاعرة معنى الفقد والغياب:

جدتي رحلت
جمعت أشياءها
واختفت…”

ثم تتساءل بمرارة:

هل وجدت السعادة؟
أو سلالًا من المغامرة أو الحب؟

وفي قصيدة مُمحاة” (Erased)، تكتب:

ألمها حطم عالمها.
ونحن أيضًا مُحونا من كفّيها.”

لا تمجّد جافتـا الروابط الأسرية، بل تطرحها بإخلاص شعري، مانحةً للألم مساحةً شريفة ضمن القصيدة.

لغة التراب والروح

الأرض، في ألورا، ليست فقط مسرحًا بل هي كيان روحي متكرر الحضور. في قصيدة البُنيّون” (Brown Ones)، تكتب:

مرحبًا، يا طفل التربة
قطيع والدك في الحظيرة
سنتعلم منك…”

يتحوّل “طفل التربة” إلى رمزٍ مهيب للثبات والحكمة، وشهادة على تقديرها العميق للميراث الثقافي الأفريقي، من الأزياء والطقوس إلى التراث الشفهي.

تتكرر ثيمة الأحلام في القصائد، وتبلغ ذروتها الغنائية في Dreamcatcher وShe Remembered، حيث تتحول الأحلام إلى نبوءات ومقاومة:

كنتُ هنا
قبل الحرب
قبل الهمسات…”

يتيح استخدام الشعر الحلمي (oneiromancy) للشاعرة أن تنسج واقعها من خيوط الذاكرة والأسطورة، على غرار كتّاب مثل إيمي سيزير وتوني موريسون، حيث الحلم بوابة وموقف احتجاجي في آنٍ واحد.

التعدد اللغوي بوصفه تحررًا

الميزة الأبرز في ألورا هي بنيته متعددة الأصوات، حيث تظهر القصائد بلغات عدة، ما يتيح لمجتمع عالمي الولوج إلى مشهدها الحلمي. على سبيل المثال، قصيدة Rise جاءت بالإنجليزية، والإسبانية (Levantense)، والكيسواهيلية (Amka)، والسيسوتو، محمّلةً برسالة روحية قوية:

أبناء عالمٍ مظلم
بعيونٍ محجوبة…”

تُظهر هذه التجربة كيف يمكن للغة أن تتحول وتظل محتفظة بجوهرها.

تأمل أخير

ألورا ليس مجرد كتاب شعر، بل هو دعوة روحانية. تقول جافتـا في المقدمة:

هذه الأحلام، بأي شكل أو لغة كانت، صادقة وعميقة.”

وهذه الجملة تلخّص روح ألورا: كتاب أدبي لأولئك الذين يعبرون العوالم، أولئك الذين يعيشون بين الحدود، ويحلمون بلغات متعددة.

ومن الجميل أن الرسوم التوضيحية في الكتاب تُعد مرآة لذلك المزيج بين الثقافات والحضارات — فابنة جنوب أفريقيا تجلس أمام الأهرامات المصرية، بين فيلين من الهند!

ولا يسعني إلا أن أوافق على رأي البروفيسور زاكس مدا (Zakes Mda)، أستاذ الأدب الإنجليزي الفخري بجامعة أوهايو:

إنها أنطولوجيا مذهلة، تجمع بين قصائد مؤثرة من منظور ثقافي واحد وتنقلها إلى ثقافات أخرى حول العالم. كل قصيدة تنبض بعاطفةٍ جياشة وصورٍ شاعرية دقيقة، وتنسج موضوعات الحب، والفقد، والطبيعة، واكتشاف الذات. إنها رحلة خالدة في التجربة الإنسانية.”

وأشكر المترجمين!

من الجدير بالذكر أسماء المترجمين الذين نقلوا قصائد الكتاب إلى لغاتهم الأم: ترجمة السيسوتو: نثابيسينغ جافتـا وكغوسيتسيلي موتلاكوانا، جنوب أفريقيا، الترجمة الدنماركية: سيندي لين براون ، الدنمارك، الترجمة الإسبانية: نيلسون ريوس ، كولومبيا، الترجمة الكيسواحيلية: نديسومبوكا لامتاني ميرينيو ، نزانيا، الترجمة إلى الزولو: كوازي ندلانجيسا ، جنوب أفريقيا، الترجمة إلى الكوسا: مادودا ندلاكوسي ، جنوب أفريقيا، الترجمة الروسية: يكاترينا جورافليوفا،  روسيا، الترجمة العربية: أشرف أبو اليزيد ، مصر، الترجمة إلى الماندرين: سيل يوتشين تشو، الصين، الترجمة اليونانية: فاسيليس مانوساكيس،  اليونان، والترجمة النيبالية: سانتوش كومار بوكاريل، نيبال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى