إعلامجاليري

في أرض الدّم والعسل

بقلم: نهى سويد، ناقدة سينمائية سورية

في باكورة تجاربها الإخراجية، تختار أنجلينا جولي الغوص في واحدةٍ من أبشع المآسي التي اجتاحت القارة الأوروبية مطلع التسعينيات، مقدَّمةً في In the Land of Blood and Honey رؤية سينمائية مؤلمة لحرب البوسنة، وما خلَّفته من ويلاتٍ إنسانيةٍ ومآسٍ تاريخية.

يقدّم الفيلم مقاربةً جماليّة وسياسية لحربٍ اتّسمت بوحشيةٍ استثنائية، حيثُ تصاعدت مشاريع تفكيك يوغوسلافيا إلى صراعٍ دمويّ، تخلَّلته مجازر وعمليات تهجير واغتصاب مُمنهج، ورافقه سعيٌ متعمَّد لمحو التعددية الثقافية عبر ما عُرِف بالتطهير العِرقي، الذي مارسه الصرب بحقّ المسلمين البوسنيين.

تسلك جولي في هذا العمل مسارًا سرديًّا معقّدًا، يتقاطع فيه العنف مع الحب، والذّاكرة الفرديّة مع الذاكرة الجمعية، محاولةً أن تُترجِم عبر الصورة والأداء مأساة شعبٍ وتمزُّق وطن.

يُعيد فيلم In the Land of Blood and Honey إنتاج المنظور العِرقي الذي شكَّل خطاب الحرب في البوسنة، عوضَ أنْ يُفكِّكه أو يُسائل مُسلَّماته؛ إذ يُقدَّم الصِّراع البوسني كهُويّاتٍ مُغلقةٍ ومتصارعة، تتجسّد من خلال ثنائية المعتدي والضحية، دون فسحةٍ للتفرُّد أو الانشقاق عن الانتماء القومي، ممّا يُرسِّخ الإثنية كنمطٍ وجوديٍّ حتمي. وبينما يُصوِّر الفيلم المسلمين البوسنيين كضحايا يستحقّون التعاطف الغربي، يُحصَر الصرب في موقع التوحُّش والتخلُّف، وبهذا يُفلِت الفيلم من مسؤوليّة مساءلة البنية العِرقيّة نفسها، ويكتفي بتوظيفها دراميًّا، متجاهلًا التعقيدات الاجتماعيّة والسياسيّة التي حوّلت “العِرق” إلى أداةٍ قسريّةٍ لتحديد الذات والآخَر في سياق الحرب.

تدورُ قصةُ الفيلم حولَ علاقةِ حبٍّ مستحيلةٍ بين دانييل الضابطِ الصربي، وآجلا الفنانةِ البوسنيّةِ المسلمة، اللذين جمعهما الحبُّ قبل أن يُفرِّقهما القصف، لتُعيدَ الحربُ جمعَهما لاحقًا كخاطفٍ وأسيرة، فالحربُ الأهليّةُ التي تتزيّنُ بلبوسِ الطُّهرِ القوميّ تَسري في دمِ العلاقةِ ذاتِها، يَتآكلُ الحبُّ تحتَ عنفِ الواقعِ بما يَحمله من تعقيداتِ الهُويّةِ والانتماء، بينما تُناضلُ آجلا للبقاء وسطَ هذا الجحيم. دانييل يخدم في جيشِ الصرب، ويَتمزّق بين حبّه لها وبين أوامرِ والده الجنرال فوكويفيتش.

في معسكرٍ يقوده دانييل، تُختار النساءُ للقتلِ أو الاغتصاب، حيثَ يَختار الجنودُ مَن يموت ومَن يَعيش، أُسرِت آجلا على يدِ جنودٍ تحتَ قيادةِ دانييل. ولكنّها تنجو فقط لأن دانييل يُعلن أنّها “مِلكٌ له. فهل هذا إنقاذٌ أمْ امتلاكٌ جديد؟

تُقدِّم جولي سردًا سينمائيًّا مُزدوجًا: حبكةً تتبع مسارَ الحبّ المستحيل بين امرأةٍ أسيرةٍ ورجلٍ يتحوّل من عاشقٍ إلى سجّان، وأخرى تُجسِّد فصولَ العنفِ الجنسيّ كأداةِ حربٍ ومَنهجٍ للإذلال الجماعي، وتستند إلى شهاداتٍ حقيقيّة، حيثُ تمزجُ بحذرٍ بين الوثائقي والروائي مستحضرةً صُوَرَ المحرقةِ النازية في مشاهدِ اقتحامِ البيوتِ وقتلِ المدنيين، لكن هذه المرّة بأزياءٍ صربيّة ووجوهٍ مسلمة.هذه الاستعارةُ ليست بريئة، إنّها استراتيجيةٌ جماليّة تهدفُ إلى تفعيلِ الذاكرةِ الغربيّة، لتجعلَ من التطهيرِ العِرقيِّ في البوسنة استمرارًا لمحرقةٍ أُخرى تُرتكبُ على مَرأى من العالم.

تفشل أنجلينا جولي في بناءِ سَرديّةٍ مُتماسكة، فتترنّح بين الاقتباسِ والاستعارةِ دونَ تجذيرٍ دراميٍّ حقيقي.

يتأرجح الفيلمُ بين الحبِّ والجنسِ القسريّ، بينما يُتركُ جسدُ آجلا في صمتٍ يُعيدُ إنتاجَ خيالٍ ذُكوريٍّ مُهيمِن.

لا يَنبعُ الغموضُ من تعقيدٍ فنّي، بل من ارتباكٍ رؤيويٍّ يُفرغُ الحكايةَ من سياقِها.

يَبرُزُ في الفيلم أداءٌ مميّزٌ لممثلَين من البوسنة وكرواتيا، هُما زانا ماريانوفيتش (آجلا) وجوران كوستيك (دانييل)، وقد حَمَلا معهما أعباءَ ذاكرةٍ شخصيّةٍ عاشاها زمنَ الحربِ إلى الشاشة. يُؤدّي كوستيك دورَ ابنِ جنرالٍ صربيٍّ مُتقاعد، استثمر خلفيّتَه العائليّة وتربيتَه تحتَ سُلطةِ أبٍ مُسيطر، ليُجسِّدَ تعقيداتِ شخصيّةِ دانييل، رجلٍ مُمزّقٍ بين حبِّ الوطنِ والولاءِ للأب، وعاطفةٍ جارفةٍ نحو أسيرتِه آجلا. تميّزَ أداؤه بانزلاقاتٍ داخليّةٍ بين النقاءِ والوحشيّة، حيثُ يصطدم الأبيضُ بالأسودِ داخلَ الشخصيّةِ ذاتِها، في تعبيرٍ بليغٍ عن هشاشةِ الهُويّةِ في زمنِ الحرب.

أمّا ماريانوفيتش، التي نَجَت من الحربِ في طفولتِها، فقد استحضرت مأساتَها الخاصّةَ في أداءٍ صامتٍ غالبًا، لكنّه بالغُ التأثير، ناقلةً عبرَ نظراتِها فُقدانَ الطفولةِ والبَراءة، والحنينَ إلى زمنٍ سُرِقَ منها، قواها تتجلّى في صمتِها، وحضورُها طاغٍ دون حاجةٍ إلى كثيرٍ من الكلام.

يتعامَلُ الفيلمُ مع جسدِ المرأةِ كميدانٍ للصِّراع، تُخاضُ عليه المعاركُ الأيديولوجيّةُ والإثنيّة. آجلا لا تُغتَصَبُ فقط من قِبَلِ الجلّاد، بل من قِبَلِ النظامِ الرّمزيِّ الذي يَسمحُ للهُويّةِ الذكوريّةِ القوميّةِ بأنْ تتجسَّدَ في هيئةِ رجلٍ عاشقٍ سابق ضابطٍ حالي، يُساومُ بين الذّاكرةِ والعقيدة، بين الرغبةِ في الإنقاذِ وشهوةِ التّدمير. هذا الازدواجُ في شخصيّةِ دانييل يَضعُ المشاهدَ أمامَ سؤالٍ أخلاقيٍّ قاسٍ: هل يمكنُ للجلّادِ أن يُحبّ؟ وإنْ أحبّ، أيُّ نوعٍ من الحُبِّ هذا الذي لا يَحمي، إنّما يَملِكُ ويُخضِعُ ويُفرِغُ الذّاتَ من فرديّتِها؟ لا تُمنِحُنا أنجلينا جولي، كاتبةً ومُخرجةَ الفيلم، أيَّ لحظةٍ رومانسيّة، أو بُشرى بالخلاص. حتّى اللحظاتُ العاطفيّة تُقدَّمُ كفَخٍّ أو مِصيدةٍ تُغري الضحيّةَ بماءِ الذّاكرة، قبلَ أن تَبتلعَها نارُ الحاضر. حينَ تَلتقي آجلا بدانييل داخلَ معسكرِ الاعتقال، لا تُخلَقُ مساحةٌ للمصالحة، بل تُستدعى كلُّ التناقضاتِ القديمة: مَن كُنتَ؟ مَن أصبحتَ؟ هل حُبّكَ لي امتدادٌ لسلطتِكَ؟ هل رغبتي بك نَجاةٌ أم تبعيّة؟ لا يُقدِّمُ الفيلمُ أجوبةً، بل يَدفعُ بنا إلى تخومِ التساؤلِ الأخلاقيِّ المُوجِع.

 

تُجسَّد شخصية أجيلا بشكلٍ صامتٍ ومُقيَّد، ممّا يُبرز غموضَ دوافعها ومشاعرها. تستخدم أنجلينا جولي صمتها كأداةٍ سينمائيةٍ للتأكيد على مأساة النساء في معسكرات الحرب، حيث يتمّ حرمانهنّ من التعبير عن أنفسهنّ، ويظهر هذا التقييد بوضوحٍ من خلال عدم قدرتها على تفسير أفعالها. في المقابل، يتمّ تصويرُ شخصية دانييل بحرّيةٍ أكبر، إذ يُعبّر عن مشاعره وحبّه بشكلٍ صريح، ممّا يعكس التفاوت بين الشخصيتين في القدرة على التعبير نتيجةً للسلطة والحرّية. هذا التباين السينمائي بين الشخصيات يُعزّز من الفكرة بأنّ التعبير عن الذات هو امتيازٌ لأولئك الذين لا يواجهون عواقبَ قد تكون قاتلة.

تُقدّم المخرجة صورةً معقّدةً لشخصية دانييل، التي لا تمتلك خياراتٍ حقيقية في حياتها، فهي محكومةٌ بتقاليد عائليةٍ وقِيَمٍ عسكرية صارمة. لا نلتقي بعائلته إلا من خلال والده، الذي كان قائدًا عسكريًّا، على عكس أجيلا التي نرى تاريخها الشخصي قبل الحرب. لا يظهر دانييل في سياقٍ مدني إنّه جزءٌ من عالمٍ عسكريٍّ ضيّق، حيث يُفرَض عليه الانتماء، ولا يكون له خيارٌ سوى الاستمرار فيه. هذا التقديم السينمائي يعكس الصراع الداخلي لشخصية دانييل، بين معارضته للحرب وأفعاله التي تقوده إليها.

يرفض الفيلم الرواية التقليدية التي تُفسّر حرب البوسنة على أنها نتيجةٌ لكراهيةٍ عرقيةٍ بين الصرب والمسلمين. تُعرَض شخصية دانييل بشكلٍ متناقض، هو ضدّ الحرب لكنّه يشارك فيها، يرفض العنف لكنّه يساهم فيه، ويظلّ في النهاية شخصيةً انتهازيةً ضعيفة. في مشهدِ تكفيره عن نفسه عند تسليمه لقوات حفظ السلام الدولية، يُظهِر الفيلم دانييل كشخصيةٍ متردّدة، حيث يمكن فهم اعترافه بارتكاب جرائم حرب كإشارةٍ إلى أنّ حتى “أفضل” الشخصيات الصربية في الفيلم، مثل دانييل، لا يُستثنون من ارتكاب أسوأ الأفعال.

تُستخدَم أجساد النساء في الفيلم كأدواتٍ لتفكيك الهوية الجماعية، حيث يُقدَّم العنف الجنسي كوسيلةٍ لإذلال النساء وإخضاعهنّ، ممّا يعكس الواقعَ التاريخيَّ لاستخدام الاغتصاب كسلاحِ حربٍ خلال النزاع البوسني.

يُوسّع الفيلم دائرة الانهيار النفسي لتشملَ الأسرى والمدنيين، وحتّى القادة والجنود، في مشهدٍ جماعيٍّ للتمزّق الإنساني. يُقدَّم دانييل كشخصيةٍ مأزومةٍ أخلاقيًّا ونفسيًّا، انزلقت نحو العنف تحت ضغط الخطاب القومي المتوحّش. يتحوّل حنانه السابق تجاه أجيلا إلى قسوةٍ وعنف، كأنّما يُعاقب فيها هشاشته السابقة، ويُعيد تشكيل هويته على أنقاض مشاعره المهزومة.

تُعطي مخرجة العمل للأماكن دورًا دراميًا لا يقلّ شأنًا عن الشخصيات. الزنازين، الثكنات، البيوت المدمّرة، كلّها تُشي ببيئةٍ خانقة، لا إشارة واضحة فيها تُبشّر بالنجاة. الإضاءة الخافتة والتصوير الرمادي يعكسان موت الأمل، وتحول الزمن إلى عبءٍ ثقيلٍ لا يُطاق.

تتعاطى أنجلينا جولي في فيلمها مع مادّة درامية محفوفةٍ بالخطر، حيثُ لا مكان للتجميل أو التلطيف في مواجهة فظائع الحرب. ولذا، يتجلّى أسلوبها الإخراجي بوصفه التزامًا صارمًا بالانضباط البصري والأخلاقي، يُدمج فيه الإدراك الجمالي بالحساسية العاطفية، في بناءٍ سينمائيٍّ بالغ الدقة والوعي.

يشكّلُ التعاون مع مدير التصوير ديان سملير Dean Semler   حجر الأساس في هذا البناء السيينمائيّ، حيث تغدو الإضاءة والظلال لغةً سرديّةً في حدّ ذاتها، تُترجمُ الانهيارَ النفسيّ والانقسام الأخلاقي الذي يسود الفيلم. يتكثف هذا البُعد في فضاء “الغرفة البيضاء” التي تُحتجز فيها أجيلا، إذ يتحوّل بياض الجدران إلى رمز للقهر والفراغ والسلطة، كاشفًا عن التوتر العميق بين الحميمية الزائفة والإذلال العنيف، بين السجن وجسد الأنثى المستلب.

 عَمِلَ سملر أثناءَ تصويره على ضبط التوازن بين الضوء الطبيعي وتوزيع الكاميرا، ليُبقي المَشهد مشحونًا بتوتر كامن، يُظهر تدرّج العلاقة من الاغتصاب إلى وهم التعاطف القسري. إنّ التنافر بين سطوع الإضاءة وقتامة الشعور يُولد صدمة بصريّة متعمّدة، تضع المشاهد أمام معضلة أخلاقية، وتمنعه من التماهي مع أي رؤية مطمئنة أو تبريرية. هكذا تُحيل جولي السينما إلى مختبر نفسي وجسدي، يوثّق الحرب ويعاين آثارها المتغلغلة في النسيج الحميمي للأجساد والأمكنة. فالصورة هنا تروي، وتشهَد، وتُربك، وتُدين.

 رغم تصريح جولي بأنّ التصوير اليدوي في In the Land of Blood and Honey فُرض كحلٍّ تِقْني بسبب ضيق الميزانية، إلى أنّه تحوّل للغة سينمائية تعبّر عن اختناق الشخصيات وانعدام اليقين وسط الحرب. الكاميرا المحمولة تلاحق الأجساد المرتجفة والانفعالات المتضاربة، كأنَّها تلهث معها في بحث يائس عن معنىً. في المشهد الأخير لآجلا ودانييل، يتجسّد هذا النَفَس البصري المرتبك، لا زوايا محسوبة ولا استقرار، فقط اهتزاز يفضح هشاشة العلاقة، ويجعل الكاميرا توثّق المشهد وتعيش انهياره، بذلك يرتقي التصوير اليدوي من ضرورة إنتاجية إلى موقف أخلاقي وجمالي، يكشف الألم ولا يجمّله. أرادت جولي أن يبدو الفيلم واقعيًا، لا مُدبرًا، وأن يشعر المشاهد أنّه “في الداخل”، داخل الخوف، داخل الغضب، داخل الجسد المسلوب. لذلك، حين تكون الكاميرا وسط النساء البوسنيات المُستخدمات كدروع بشرية، تصبح شاهدة وشريكة، متواطئة ومذعورة في آن واحد.

يُعرّي الفيلم التواطؤ والصّمت الغربي والتشويه الجمعي، ويُظهر كيف يتحوّلُ كلّ طرفٍ إلى ضحية وجلّاد.

إنّه فيلم يُربك المُشاهِد، ويُحرّضه على مساءلة مفاهيم العشق، الوطنيّة، الذكورة، والمقاومة. تنجح جولي في ذلك لأنّها قدمت الفيلم من زاوية لا يجرؤ كثيرون على الاقتراب منها، الجسد – الذاكرة – الخيانة.

ينتهي الفيلم بلا تطهّر، بلا عدالة، بلا تعويض رمزي. ذلك أنّ الذاكرة، في عالم جولي، شاهدة على خيانة العالم، وعلى ثقل الحقيقة التي لا يُمكن قولها إلا عبر الفن. ورغم الانتقادات التي طالت الفيلم قبل عرضه، لا سيما من قبل منظمات نسوية بوسنية، إلا أنّ استقباله لاحقًا شَهِد تحولاً نوعيّاً، واعتُبر توثيقًا قاسيًا، صادقًا، لجريمة جماعية لطالما أُريد لها أنْ تُنسى.   

تنشر الكاتبة نهى سويد مقالاتها على موقع التلفزيون السوري

 

  

 

 

   

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى