

حين تقع بين يديك رواية للفنان الدكتور عبدالرازق عكاشة، فأنت لا تقرأ، بل تغوص. قلمه رشيق، وأسلوبه ماكر يخطفك بسلاسته… السهلُ الممتنع، يجعل اللغة تبدو كأنها تنساب وحدها، لكن كل جملة تحفر بداخلك أثرًا.
في روايته “نوال”، لم أكن قارئة، بل كنت شاهدة. شاهدت الشوارع الباردة في فرنسا، ولامست بحواسي مأساة المغتربين، وعبرت طرق الغربة بخيالي، كما لو أنني كنت هناك بالفعل. هذا الكاتب يملك قدرة ساحرة على أن يأخذك من مقعدك في الغرفة إلى أرصفة بعيدة مليئة بالحكايات والخذلان والحنين.
منذ قليل، أغلقت آخر صفحة من رواية “نوال” وما زالت أنفاسي ترتجف. ليست مجرد رواية، بل مرآة صادقة لغربة الداخل قبل الخارج، لحكاية فتاة اسمها “نوال” ولدت من علاقة محرّمة، وظلت طوال حياتها تبحث عن اسم، عن نسب، عن حضن لم يُفتح يومًا لها، وعن إجابة واحدة: من أنا؟
الرواية لا تُقرأ، بل تُعاش..كل تفصيلة فيها تجرّك، كأنك تعرف نوال، أو تشبهها، أو صادفتها يومًا في زحام الحياة. هي ابنة مليكة المغربية، التي هربت من الفقر وانكسارات الأسرة إلى فرنسا، فوجدت نفسها في مهبّ رغبات الرجال وتفاصيل المدن الباردة. هناك، لم تجد دفئًا سوى في قلب صديق فرنسي شهم، اسمه “شارل”، سجّل نوال باسمه ليمنحها هوية لم يمنحها إياها والدها الحقيقي.

ولنوال أبوان محتملان؛ أحدهما مسلم، والآخر مسيحي، وبينهما تاهت الحقيقة. لكن الكاتب لم يشغله مَن الأب بقدر ما شغله ما تركه غياب الأب في قلب ابنته… نوال لم تُولد من علاقة آثمة فقط، بل من غياب، من وحدة، من سؤال بلا إجابة.
كل شخصية في الرواية تحمل جرحًا، كل حوار يحمل صدى مأساة. فاطيما، خالة نوال، الهاربة من ابتزاز طليقها وحرمانها من أولادها. مجيد، بائع الورد التونسي الذي تزوّج مليكة وطمع في نوال، ثم عاد للصلاة بعد كل تحرّش كأنما يغسل خيانته بالماء لا بالندم.
ثم هناك “عم نصر”، المصري الطيب الذي علّم اللغة العربية لأبناء الجالية ، الذي عاش مرارة اغتراب من نوع آخر… زوجة جزائرية حرمته من رؤية أطفاله. يحترق قلبه كل ليلة حتى قرر أن يحترق فعليًا، ويبوح قبل موته بسرّ نوال وأبيها.
وفي اللحظة التي تظن أن الرواية انتهت، تبدأ الرحلة الحقيقية: نوال تعود إلى الوطن، إلى المحلة، إلى مقهى الجمهورية، بحثًا عن الرجل الذي تخلى عنها ذات يوم… لكنها لا تبحث عنه لتعاتبه، بل لتفهم، لتغفر، لتُغلق الجرح بشرف لا بحقد.
وتبدأ نوال رحلة البحث عن والدها، بعدما أخبرها عم نصر أن “أدوارد” احترق في قطار الصعيد، وأن “البابلي” عاد إلى مصر، إلى المحلة، وأنه قد تجده على مقهى الجمهورية. هناك، على أطراف المدينة العمالية التي شهدت أولى صرخات الغضب في هذا الوطن، تقف نوال على عتبة الحقيقة.
علمت أن البابلي كان قائدًا للثوار من عمال المحلة، وأنه أصبح مناضلًا بعد عودته من فرنسا. لكنني كقارئة لم أصدقه ،، ربما لأن قلبي ظل مع نوال ووالدتها مليكة، ومع معاناتهما التي لم يكن غيابه عنهما إلا سببًا مباشرًا فيها. وربما، لأنني من خبرتي في الحياة أؤمن أن المناضلين الحقيقيين لا يهربون من المواجهة. لا يتركون امرأة وحدها في الغربة، ولا يتركون طفلة بلا اسم، ثم يعودون بعد سنوات ليرفعوا شعارات النضال.
المناضل الحقّ، هو من يقف في قلب العاصفة، ويدفع الثمن، لا من ينتظر حتى تهدأ الريح ليحكي بطولته.
لذلك، ظلت صورة البابلي عندي مشوشة. لم تُقنعني شعاراته، ولم تُغفر له ذكرياته. كان ظلًا مرّ على قلب نوال، لا نورًا في طريقها
وما بين سطور الرواية، كنت أعبر من قصة إلى أخرى، ومن وطن إلى آخر، فشخوص الحكاية لم يكونوا مجرد أفراد، بل خريطة مصغّرة للعالم العربي؛ من مصر إلى تونس، إلى المغرب فالجزائر.
كل شخصية كانت تحمل في تفاصيلها ظلّ وطن مهزوم، أو غربة مفروضة، أو صراعًا بين القهر والكرامة.
ولم تكن السياسة واضحةً كالعناوين، لكنها كانت روحًا تسري بين الكلمات… كأن الكاتب يتعمّد أن يترك لنا خيوطًا رفيعة لندرك، من دون أن يقول صراحة، أن الغربة ليست دائمًا في الخارج… بل أحيانًا في الداخل.
مرت الرواية بخفة على ثورة تونس، وحكاية من حرق نفسه، وأرخت بظلّها على إرهاصات ثورة يناير، دون شعارات، ودون ضجيج. السياسة كانت في وجوه الشخصيات، في اختياراتهم، في هروبهم أو صمودهم… كانت مغلفة تمامًا كالحزن: تبدو خفيفة، لكنها تخنق
الرواية موجعة.وفيها يلمّح الكاتب بذكاء إلى الزمن الثقيل، إلى المثقفين الزائفين، إلى الغربة المتستّرة بالحرية، لكنها في العمق قيد من نوع آخر.
ولأن نوال كانت أكبر من الخوف، لم تلم أمها، ولم تحاكم أباها الحقيقي.سامحت الجميع… واحتضنتهم.
نوال ليست فقط بطلة رواية، بل درس في الصبر، والصفح، والتسامي.هي ابنة اللاشيء، التي بنت كل شيء من الحطام.
أريد أن أحتضن نوال، كما احتضنت هي الجميع.
ويبقى في ذاكرتي “عم نصر”…
ذلك القلب المحترق بصمت، الرجل الذي آمن بالكلمة، ورحل دون أن يسمع أحد صرخته.
سأتذكره دائمًا… وسأدعو له، حتى لو كانت شخصيته من وحي الخيال، لأن بعض الشخصيات الخيالية، تمس أرواحنا بصدق لا يبلغه