أحداثجاليريشخصيات

عبد الرازق عكاشة ولوحته … “إبادة.. مستشفى المعمداني”

بقلم: أشرف أبو اليزيد

في الوقت الذي تعج فيه صناديق الرسائل بكلمات التهنئة، بعيدٍ صار على الأبواب، يتردد سؤال الجميع “بأي حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟“ـ الصرخة الشعرية التي أطلقها أبو الطيب المتنبي، في مطلع قصيدته الناطقة بكآبة وحزن عاشهما في حلب عند سيف الدولة الحمداني، وكان العيد قد حلّ عليه وهو في حالٍ من الضيق، فقال:

بأيِّ حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟ بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديدُ؟                                                        

هكذا جاءت صرخة شاعر، وأي شاعر، لأجد في صندوق الرسائل صرخة فنان، وأي فنان!:

“كل عام وأنتم بألف خير، يا من ما زالت في صدوركم قلبٌ ينبض وضمير لا ينام.

عبد الرازق عكاشة


تذكّروا جيدًا أن قصف مستشفى، وقتل رضيع لم يعرف الحليب بعد، واغتصاب وطنٍ على مرأى العالم، ليست مجرد أخبار عابرة، بل جرائم ضد الإنسانية.

نجحوا هم — صُنّاع الزيف — في صياغة قانون دولي يُسمّى معاداة السامية،
ونجحنا نحن في غناء أناشيد الشجب والإدانة، من تحت الأغطية،
حيث يدفّئنا الصمت ويلتحف كلٌّ منا عار العالم،
يرى الدم المسفوح وكأنه عطر مسكٍ مسكوب.

عيد سعيد، يا أبناء الصمت، ويا أسرى الخجل.
في الحقيقة، لا يستحق التهنئة إلا أولئك الذين نزفوا من أجل أن نبقى:
الشهداء، القديسون، وأبناء فلسطين.

وسيأتي العيد الحقيقي…
عيد النصر.
لأن الإنسانية، وإن أُخرست قليلًا، لن تصمت طويلًا على كل هذه الجرائم.”

كانت تلك رسالة الفنان المصري  عبد الرازق عكاشة، الذي عاش أكثر من نصف سنوات عمره في باريس، لكنه لم ينس أبدا عروبته وقضيته وانتماءه. ومثلما رسم هناك من أجل فلسطين، ها هو، يقاوم مرضا ألم به، ليواصل رسم مشروعه التشكيلي الأحدث، وإحدى لوحاته تحمل عنوان “إبادة.. مستشفى المعمداني“، وهي لوحة عملاقة من الأكريليك،( ٢×٢ متر).

يحمل العنوان إبادة.. مستشفى المعمداني شحنة مباشرة من الألم والاحتجاج، وهو عنوان لا يتخفّى خلف المجاز، بل يعلن بوضوح أن ما يُعرض هنا هو شهادة بصرية على جريمة مكتملة الأركان. الاستخدام الصريح لكلمة “إبادة” يضعنا نحن مباشرة في جوهر الحدث وتفاصيله؛  حدث الإبادة الجماعية، لا مجرد حادث عابر.

اللوحة تنتمي إلى التعبيرية المعاصرة، حيث لا تهدف إلى تمثيل الواقع بدقة فوتوغرافية، بل إلى التعبير عن مأساة إنسانية عبر تشظيات اللون، وتكسّرات الشكل، وانفعالات الخط.

فالفنان يوظّف لوحة لونية حادة ومحدودة في ثلاثية رمزية: الأزرق، الأحمر، والأسود. الأحمر، بلون الدم، ينساب من الأجساد، من العيون، وحتى من الفراغات، كأنه نزيفٌ لا يتوقف. ويلف الجثث الصغيرة في مهدها. أما الأزرق، الغزير، فهو كناية عن برودة الموت، يُغلف الأجساد التي تحوّلت إلى جثث ممددة فوق نقالات، أو أرواح معلّقة بين السماء والأرض. ثم يطغى الأسود، يُمثل الظلمة الأخلاقية والروحية، تلك التي تغلّف العالم الصامت أمام الجريمة.

يعتمد الفنان عبد الرازق عكاشة على أسلوب التموّج الحركي، حيث تتكرر الأشكال وتتشظى داخل مساحة مربعة ضخمة، وكأنها تعكس فوضى ما بعد الضربة، وتداخل الصراخ مع الصمت، والألم مع الذهول.
لا مركز واضح للوحة، بل هناك مركزيات متداخلة: وجه مذهول، طفل ممدد، عجوز منحنٍ، نساء جالسات وعلى حجورهن لفافات الموت.  امرأة تحتضن ظلاً. هذا التوزيع يخلق جواً بصرياً من الفوضى المرعبة، وهي فوضى الموت العشوائي.

وإذا كان الأكريليك المستخدم هنا يسمح بجفاف سريع، يأتي الفنان عبد الرازق عكاشة ليوظفه بخلق تأثير السيلان، فتبدو الألوان وكأنها تنزف خارج الجسد، تنزف من الفرشاة مباشرة، كما تنزف الحقيقة من المشهد الإنساني.

الجميع ضحايا

في اللوحة، تتكرر صورة الضحية بأشكال متعددة: أطفال ملفوفون بالشاش الأبيض المخطط بالأحمر، ما يستدعي الرايات الطبية ولفائف الكفن في آن. نساء حزينات، تغيب ملامحهن، كأنهن ظلّ لصرخة لن يسمعها أحد. رجال تنحني ظهورهم، يحملون أو يُسندون الأجساد، كأنهم يسندون ذاكرة أمة تنهار. أما العيون في اللوحة لا تنظر مباشرة إلى المتفرج، بل تتوه في الأفق، في الفراغ، أو تختفي، وكأن الضحايا أنفسهم عاجزون عن النظر إلى ما حلّ بهم. خارج اللوحة نشاهد نحن ذلك  الألم بصمت وانكسار من لا يستطيع، ونحن مع ضحايا اللوحة، لكننا ضحايا لم يرسمنا بعد الفنان، وكأننا ننتظر دورنا!

في 17 أكتوبر 2023، تعرض مستشفى المعمداني (الأهلي) في غزة لقصف دموي أدى إلى مقتل المئات من المدنيين، معظمهم من النساء والأطفال. كان المستشفى ملاذًا للنازحين جراء العدوان الإسرائيلي. شكّلت المجزرة صدمة عالمية، وجريمة موثقة في سجل الانتهاكات بحق الإنسانية والشعب الفلسطيني.

لتأتي هذه اللوحة في إطار أعمال توثيقية أو تسجيلية، فالفنان لا يرسم الواقعة، بل يرسم ألمه الداخلي تجاه الواقعة.
إنه لا يقدم “حدثًا”، بل صرخة تشكيلية. اللوحة، بكل تفاصيلها، تُظهر فنانًا منفعلًا، غاضبًا، مفجوعًا، وهذا ما يمنحها تلك القوة التشكيلية المؤثرة. هذه اللوحة ليست فقط توثيقًا بصريًا لمجزرة المعمداني، بل هي أيضًا فعل مقاومة رمزي.
الفنان هنا يتخطى حدود الجماليات التقليدية نحو ما يمكن أن نطلق عليه جماليات الغضب الإنساني. هي لوحة تُحاكم العالم، تُدين صمته، وتقول بلغة اللون ما عجزت الكلمات عن قوله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى