

في زمنٍ صعبٍ جدًّا أن نفصل بين الغث والثمين…
بين الرخيص البَخْس الراقص، وبين الواعي الهادف.
قرأتُ هجومًا غير مبرر ولا يرتكز على أي أساس نقدي على الفنانة المحترمة مرفت عطاالله، تحت نص كتبه معالي السيد الدكتور رضا عبد السلام ، من إحدى الفنانات التي تُدرّس تربية فنية، ولها كامل الاحترام والتقدير، لكن كان التعليق قويًّا، ظالمًا، غير واعٍ بالحالة الإنسانية الإبداعية لدى الفنانة.
ولأن الفن “شطارة” عند القائمين عليه في البلاد العربية، عكس الفن في العالم كله، فالفن حالة إنسانية وجدانية ينطلق من مشاعر حقيقية، وليس من التزويق والتشطر والمهارة، وهذه كارثة حقيقية في العالم العربي أبعدت العرب كثيرًا عن المضمار العالمي والدولي.
إن الأعمال التي يقدمها الفنان أو الفنانة الفاهم، الحساس، المُولَع، الموهوب، المثقف، وليس الرسّام العابر الشاطر، تختلف في حدودها الإنسانية وأساس الحكم.
ومن هنا، تأتي أعمال الفنانة القديرة مرفت عطاالله من نقطة بعيدة جدًّا عن أعين المشاهد أو المتفرج الساذج.

تلك الفنانة التي لا أعرفها كثيرًا بشكل شخصي، لكن استوقفتني أعمالها التي تقدمها بين الحين والآخر، سواء في معارض تحت إشراف المعلم القدير رضا عبد السلام ، أو على الفيسبوك والميديا.
استوقفتني أعمال الفنانة بفهمها النادر لمفهوم الفن ورسالة في منطقة إنسانية نادرة، منطقة دفع فيها غوستاف كوربيه وإيغون شيلي سنوات من الجفاف والعذاب والعزلة.
فلو كان الحكم بالشطارة في صناعة لوحة، لما تحدث العالم كثيرًا عن خطوط إيغون شيلي المُرصَّعة بالوجع والألم.
لو كان الحكم بشطارة المرسوم، لأعطى كل مدرسين الفن إيغون شيلي صفرًا في الرسم!
لكن لإيغون شيلي مقعدًا كبيرًا في الإنسانية.
والفنانة مرفت عطاالله تأخذنا إلى منطقة ومفهوم تجريدي جديد، ومن ثم وأخيرًا، مفهوم فني في التعبير عن حالات إنسانية خاصة، وبعيدًا عن لوحات الديكور أو التلوين والتزيين المُزيَّف المُغري للعامة والبُسطاء.
إنها فنانة واعية، حساسة، عميقة جدًّا، لفهم الفن ودوره في التعبير عن عمق ووجع الإنسان، أو اكتشاف أعماق الداخل الإنساني، الداخل الذي لا يُرى ولا يُفهم أحيانًا، وأحيانًا يعجز اللسان عن شرحه، فتقوله أدوات التعبير الخاصة وتقديمه في صورة تجريدية تعبيرية ببساطة ووعي.
بساطة أصعب من كل الأوصاف المعقدة.
وهنا، التجريد ليس رغبة في حالة إثبات المعرفة أو اللجوء إلى التزييف والهروب أو الرقص على أحبال الموضة، إنما هي تقدّم حالة إنسانية نادرة وعميقة، مما يؤكد المصداقية وليس الهروب من ضعف التقنيات أو الإمكانيات، كما يفعل الكثير من التجريديين العرب.
حالة الفنانة مرفت هي تماس واضح مع التمتع بقدرات خاصة على إظهار وإخفاء مشاعر إنسانية نبيلة ونادرة، وهي من مميزات الفنان أو الفنانة التي تعرف عمق الحالة الإنسانية، عمق الفن، الرسالة الأصيلة والأصلية.
فالفنانة تتمتع بقدرات نادرة على إظهار وإخفاء مشاعر داخلية، وعواصف من التناقضات الحسية والجسدية، في شجاعة فنانة عربية تُحسد عليها، بأنها تُصادق الصدق، وتفهم أن الفن هو حالة مصارحة أكثر من حالة تجميل.
إن الفن حالة مشاعر، وليس رسم مناظر…
قليل مثلك من يفهمون أصل التعبير والفن، وليس قشوره، دون متاجرة، أو كذب، أو تمثيل.
قليل جدًّا من يفهمون من أين يأتي هذا العمق الإبداعي الذي تحركه عواصف داخلية ثائرة، عواصف لا تُرى بالعين المجردة، لأنها أقوى من الإنسان نفسه، فالإمساك بها والسيطرة عليها، ثم إخفاؤها ارتباكًا أمام مجتمع جبان أو رواده من قِصار النظر، الغارقين في الغرائز بعيدًا عن المشاعر…
مجتمع من المتناقضات.
يبدو أن الفنانة فهمت هذه المجتمعات الفارغة، فقررت بذكائها التشكيلي النادر مواجهتها في منطقة، والالتفاف عليها في منطقة أخرى.
مجهود عبقري بين الحضور والغياب للفنانة القديرة.