
يتجسّد تاريخ الحضارات ويتكثّف في غزة، إذ يبدو أن الغرب يؤمن بأن التحضّر يعني غزو بلدٍ آخر بقواته العسكرية بدافع المتعة، وإحراق سكّانه، ويفضَّل أن يكون الضحايا من الأطفال في دور الحضانة ورياض الأطفال، من أجل الاستيلاء على أرض أجدادهم وثرواتهم.
إن اجتياح غزة هو نفيٌ صريح للتراكم الروحي والثقافي لعصور الإنسانية، وكأن العالم لم يُدرك بعدُ القيم التي تمخضت عن تجارب الإنسان وتأملاته طوال إقامته الممتدة على هذه الأرض.
الشعوب تقاوم دائمًا الغازي. أما الغزاة، ففي غمرة نهبهم، يفكرون في أراضٍ وموارد جديدة. هكذا كان الأمر منذ المجتمعات البدائية، حين كانت القبائل الهمجية تتربّص بالمحاصيل لتدمير احتفالات القبائل الأخرى، وتسلبهم ثمار عملهم.
إن القوى المتجبرة تقطع احتفالات الشعوب الكبرى، وتغتال فرحة الملايين من العمّال الذين صنعوا الثروات المادية واللامرئية التي تشكّل رأس المال، والفلاحين الذين زرعوا الأرض وحصدوا ثمار التاريخ. وبهذا الشكل، تستمرّ قوّة الشر وتنتصر. فمن خلال العنف، تتحوّل النزعة الوحشية إلى قانونٍ للنهب والإبادة، يفتك بشعوب جديدة ويقدّمها قربانًا على مذبح الكارثة، وسط تواطؤ العالم السلبي.
البربرية تصوغ واقع الموت اليومي، الذي ترفضه الشعوب. مرارًا وتكرارًا، تواجهه بدافع الحب، وبروح النضال والمقاومة والتضحية. هذا هو الشعر. في غزة، تتجلّى عظمة الشعر العالمي.
إنها المشهدية نفسها تتكرّر في كل الأراضي، وفي كل الأزمنة: تتكرّر أفعال القمع، وتُستعاد المقاومة التي لا تُقهر، في التعبير الشعري الأعظم، نضال الشعوب منذ الأزل.
فرناندو ريندون