
في زمن تتسارع فيه الخطى وتُمحى فيه التفاصيل، تبقى الرحلة فعلًا إنسانيًا عميقًا، يحملنا بين حدود الذات ومشارف الآخر، ويحلق فوق المجهول المحمّل بالأسئلة والانبهار. وفي عالم الصورة، كانت السينما الرفيقة الأكثر صدقًا لهذا الفعل؛ توثق، وتحاور، وتعيد تشكيل الرحلة كحكاية كونية نُشاهدها ونعيشها في آن.
اللقاء الليلة في برنامجنا (كواليس) ليست مجرد حوار، بل رحلة داخل الرحلة، مع ضيف خاص لم تكن أسفاره انتقالا بين الجغرافيات فقط، بل بحثًا حقيقيًا عن المعنى، عن الضوء، وعن الإنسان.
معنا الكاتب الروائي والشاعر والرحالة أشرف أبو اليزيد، الذي زار 37 بلدًا حول العالم، وكتب عن ملامحها في نصوص أدبية، وصوّر مع أيقوناتها الثقافية لقاءاتٍ خالدة، من آسيا الوسطى إلى أقصى الشرق، ومن قلب أوروبا إلى أمريكا اللاتينية.
هو عاشق للسينما، يراها مرآة أخرى للرحلة، وقد كُرّم بهذا العشق حين اختير عضوًا بلجنة تحكيم مهرجان قازان السينمائي الدولي (المنبر الذهبي)، أحد أبرز المهرجانات التي تجمع بين الشرق والغرب في قلب روسيا، وذلك عام 2021.
في هذه الحلقة، سنناقش معه: ما الذي يجعل من الرحلة سردًا بصريًا لا يُنسى؟ وكواليس تحول التجربة الذاتية إلى لقطة سينمائية؟ وما هي الأفلام التي لا تزال تسبح في ذاكرته كأنها طرق لم تنتهِ بعد؟
رحلة في أدب الرحلة… وسينماه. رحلة في الرؤية… والمرئي.
مع أشرف أبو اليزيد، الإنسان الذي ما زال يحمل حقيبة وقلمًا وكاميرا… ويبحث.
السؤال الأول: ما الذي يشدّك شخصيًا إلى أدب الرحلة، وكيف انعكس ذلك على مشاهداتك السينمائية؟
في الرحلة لا يكتشف الإنسان فقط أماكن جديدة، أو مجرد جغرافيات مختلفة، ولكنه يعيد اكتشاف نفسه، ماذا يحب، وماذا يفضل، وما الذي يخشاه أو ينفر منه، وربما تخرج الرحلة صفاتٍ قد لا يكون مدركا لها.
أستحضر هنا رحلة بطل فيلم Into the Wild (2007)، الذي يتقاطع مع رغبة في التحرر واختبار العالم خارج الأطر المعتادة. حيث كانت الطبيعة صدى للحلم الإنساني بالحرية بحثا عن الجمال.
الرحلة تدوين بالكلمات، والفيلم يرسمها على الشاشة، وما بين الوسيطين تجدين المتلقي يستمتع بالنص المقروء والصورة المتحركة. المخرج وكاتب السيناريو يعيدان صياغة الرحلة، والممثلون يجسدونها. وكما أن الرواية واقع متخيل، فالسينما خيال واقعي، خيال يشبه الواقع أو يجسده، والأماكن هي أكثر ما تمنحه تلك الواقعية
رابط Into the Wild (2007)
https://youtu.be/0TVBnfniq-8?si=heucHUG6SCDnC4Sd
السؤال الثاني: أنت اخترت أن تسجل رحلاتك عبر إجراء لقاءات مع شخصيات ثقافية، كيف كانت الاختيارات، والتجارب السينمائية التي رأيتها مع هؤلاء؟
البحث عن الإنسان، جوهر الرحلة، فكل شخص جديد تتعرفين إليه سيضيف لك حياة جديدة، وأعتقد أن ذلك كان لب رنامجي (الآخر) الذي كنت أسافر به مع الكاميرا لأسجل لقاءات مع أيقونات العالم الثقافية، وقدمت حوارات مصورة مع 70 شخصية عالمية.
والرحلة ليست فقط السفر إلى مكان آخر، بل هي داخل ذلك الإنسان الآخر، وقد اخترت توثيق تلك اللقاءات لهؤلاء الذين يبنون الجسور مع ثقافتنا، وأن يكون (الآخر) كبرنامج جسرا ذا اتجاهين مع الحضارات والثقافات العالمية من خلال أيقوناتها.
وتعلمت الكثير، ولا أزال، وأتصفح هذه الرحلات المصورة كأني أستعيد حياتي عبر الأزمنة والأمكنة.
السؤال الثالث: هل ترى أن سينما الرحلة تختلف جوهريًا عن السينما التقليدية في بنيتها السردية؟
بالتأكيد، هناك اختلاف كلي، سينما الرحلة تعتمد على البناء الدائري أو المفتوح غالبًا، حيث تكون التحولات النفسية أهم من العقدة التقليدية. وربما يحكي الفيلم رحلة تكون بمثابة قراءة لرحلة موازية في الحياة، كأن تنتهي علاق إنسانية مع نهاية الرحلة كما لدى بطلة فيلم Wild (2014) حيث الرحلة هي الحكاية نفسها.
رابط WILD:
https://youtu.be/xOPl8gKdmYE?si=X560gCBCfnE61E9L
السؤال الرابع: ما هي الأفلام التي تعتبرها علامات فارقة في سينما أدب الرحلة عالميًا؟
هذا سؤال إجابته كالرحلة لا نهاية لها، فالأفلام كثيرة، منها الفيلم الأيقوني للمخرج برناردو برتولوتشي The Sheltering Sky [1990]، المأخوذ عن رواية بول بولز، يتتبع رحلة زوجين أمريكيين عبر شمال إفريقيا بعد الحرب العالمية الثانية. تتحول الرحلة إلى تجربة وجودية قاسية، حيث يواجهان الفقد والتيه والانفصال، في مشاهد تبرز شساعة الصحراء وعبثية الوجود.
The Sheltering Sky [1990]
https://youtu.be/XTYLsULsefs?si=i50-rzynV7-9sRoO
وهناك الفيلم Seven Years in Tibet (1997) الذي يعكس البُعد الروحي للرحلة . الفيلم يجسد الرحلة الحقيقية للمستكشف النمساوي هاينريش هارر إلى التبت خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تتحول مغامرته الجغرافية إلى رحلة روحية عميقة. يقدم الفيلم مشاهد خلابة ومعالجة إنسانية لعلاقة تنشأ بين المسافر والطفل الدالاي لاما في قلب جبال الهيمالايا.
Seven Years in Tibet (1997) Trailer
https://youtu.be/m9a_7WFcPlI?si=DF9lTbX3nJA85ij3
. ولا ننسى Tracks (2013) المستند إلى قصة حقيقية لامرأة تقطع صحراء أستراليا وحدها. الفيلم عن الرحّالة الأسترالية روبين ديفيدسون، التي قطعت 2700 كيلومتر عبر صحراء أستراليا برفقة أربعة جمال وكلب. يصوّر الفيلم الرحلة كفعل تحرّر داخلي واختبار حاد للوحدة والهوية، حيث يصبح المكان القاسي مرآة لصراع الإنسان مع ذاته والطبيعة. إن البرية الخشنة في المحيط حولها تعد معادلا موضوعيا للبرية داخل البشر، بقسوتها، واختيارها لصحبة من الحيوانات رسالة تقول لنا إننا إذا كنا نختار الرفيق قبل الطريق، فإن لدى الحيوانات صفات إنسانية قد لا تتوفر لدى بعض البشر.
Tracks (2013) Trailer
https://youtu.be/6-DiOyxCQQI?si=Oq0ybmR1DEwUHZT5
السؤال الخامس: من وجهة نظرك، كيف جسدت السينما العربية مفهوم الرحلة؟ وهل هناك أعمال تستحق إعادة التقدير؟
السينما العربية تناولت الرحلة غالبًا من زاوية الهجرة أو التيه، كما في فيلم في الطريق إلى كابول (2003) هو فيلم تونسي يجمع بين الكوميديا والسخرية السياسية، يروي قصة شابين تونسيين يسافران إلى أفغانستان بحثًا عن وهم الجهاد والبطولة، ليواجها واقعًا مختلفًا تمامًا. الفيلم يعكس عبثية الرحلة حين تتحول إلى مطاردة لأوهام كبرى، في عالم مضطرب بالهوية والوعي.
لقطات من فيلم الطريق إلى كابول
بهذه المناسبة، مناسبة الفيلم التونسي، أتذكر فيلما آخر لصديقي المخرج التونسي رشيد فريشو وسافر هو إلى الصين ليصنعه “الحلم الصيني“.. هذا الفيلم يرصد تجربة فتاة صينية تهتم بتعلّم اللغة العربية، ويستعرض من خلالها التقاء الثقافتين التونسية والصينية، في إطار إنساني وشاعري يسلّط الضوء على الجوانب المشتركة بين الشرقين.
الحلم الصيني
https://youtu.be/rptHfScL1LY?si=bgeYiq1rXFmg0Q_c
حتى تكتمل الصورة، في فيلم فول الصين العظيم، تأتي الرحلة أيضا في إطار كوميدي، نرى الثقافة الأخرى مختلفة، ونعالج هذا الاختلاف بالسخرية حينا، أو الدهشة حينا آخر، ولكن كعادة الأفلام في خواتيمها العربية السعيدة يحدث التوافق بين الثقافتين.
السؤال السادس: هل يمكن اعتبار فيلم أدب الرحلة مجرد سيرة شخصية، أم أنه أدبَ رحلة يتم تجسيده بصريًا على الشاشة؟
فيلم The Motorcycle Diaries (2004) هو النموذج الذي أستدعيه هنا، فالفيلم يستند على مذكرات الشاب إرنستو “تشي” غيفارا قبل أن يصبح رمزًا ثوريًا عالميًا. يرافق غيفارا صديقه ألبرتو في رحلة على دراجة نارية عبر أمريكا الجنوبية، حيث تكشف المشاهد الطبيعية المدهشة عن واقع اجتماعي قاسٍ. الرحلة تتحول من مغامرة شبابية إلى صحوة إنسانية، تشكّل وعي غيفارا السياسي، وتؤسس لفكر ثوري نابع من التماس المباشر مع معاناة الشعوب. هو ليس فقط عن “تشي غيفارا”، بل عن ولادة وعي سياسي وإنساني من خلال الترحال. الرحلة هنا تصنع الشخصية، لا العكس.
لقطة من فيلم The Motorcycle Diaries (2004)
https://youtu.be/o0udZKiWg8c?si=LErFke4lt3Ns1oWX
السؤال السابع: هناك رحلات تاريخية تم تجسيدها على الشاشة، فما نقطة الجذب، هل الأحداث، أم العجائب والغرائب، ففي الشهر الماضي سلط الكاتب الروسي ديمتري ستريشنيف الضوء على رحلة روسية قام بها أفاناسي نيكيتين إلى مسقط وهو التاجر والمستكشف الروسي في القرن الخامس عشر ، كاشفًا عن واحدة من أقدم اللقاءات الموثقة بين روسيا وشبه الجزيرة العربية. كيف نقلت السينما هذه الرحلة المبكرة؟
صديقي ديمتري ستريشنيف كاتب ومؤرخ ثقافي روسي وشاعر أيضا، وقد زارني في رحلته الأخيرة لمصر، ديمتري ستريشنيف متخصص في تاريخ الاستكشاف البحري الأوراسي المبكر. عُرف بأعماله البحثية المعمّقة ومحاضراته العامة التي تسلط الضوء على المساهمات السلافية المنسية في حركة الاستكشاف العالمية، مؤكدًا على أهمية الفهم المتبادل والدقة التاريخية. كتب ستريشنيف العديد من المقالات والدراسات حول شخصيات استكشافية روسية أسهمت في ربط الشرق بالغرب من خلال التجارة والمعرفة.
كضيف شرف من ضمن الكُتّاب المشاركين، حيث قدم نتائج أبحاثه حول الرحلة الاستثنائية لنيكيتين، والتي جرت قبل ما يقرب من ثلاثين عامًا من قيام المستكشف البرتغالي الشهير فاسكو دا غاما برحلته البحرية إلى الهند. ووفقًا للوثائق التاريخية، فإن أفاناسي نيكيتين يُعد أول أوروبي معروف زار مدينة مسقط، مقدمًا بذلك رؤية نادرة ومبكرة حول طرق التجارة البحرية التي ربطت روسيا بفارس والهند ومنطقة الخليج العربي.
وُلِد أفاناسي نيكيتين حوالي عام 1433 في مدينة تفير الروسية، وكان تاجرًا ومستكشفًا شهيرًا قام برحلته الأسطورية بين عامي 1466 و1472، حيث سافر من روسيا مرورًا بفارس وعبر المحيط الهندي إلى الهند. ويُعد كتابه “الرحلة وراء البحار الثلاثة” من أبرز أعمال أدب الرحلات في التاريخ الروسي، كما يُعتبر وثيقة نادرة تسجل أوصافًا دقيقة للثقافات والدينات والعادات والتقاليد في الهند والعالم الإسلامي خلال القرن الخامس عشر. وقد شملت رحلته المرور بشبه الجزيرة العربية، بما في ذلك محطة في مسقط، مما يجعله أول أوروبي يصل إلى سلطنة عُمان قبل وصول فاسكو دا غاما بـ 28 عامًا.
الجميل أن هذه الرحلة كانت ثمرتها أول إنتاج مشترك بين السينمائيين السوفييت والهنود، وكرس لرحلة أفاناسي نيكيتين، التي مهّدت بين عامي 1466 و1472 طريق التجارة من أوروبا إلى الهند. واستند الفيلم إلى ملاحظات نيكيتين في رحلته، وأدى دور البطولة فيه الممثل الروسي الشهير أوليغ ستريجِنوف ونجمة السينما الهندية في خمسينيات القرن الماضي نرجس. وسنرى في الفيلم استعداده لركوب البحر منطلقا إلى الهند من ميناء مسقط.
السؤال الثامن: كيف تؤثر الجغرافيا – كالمكان والمناظر الطبيعية – في تكوين البنية البصرية لسرد الرحلة في السينما؟
منذ الصغر، كنت أعشق أفلام جيمس بوند، وكان السر – ربما- في أن المغامرة لا تعتمد على الحركة فقط، ولكن على الرحلة من مكان لآخر، ومن عاصمة إلى سواها، ومن ميناء إلى وسط المدينة. بعد السفر كان يطيب لي مثلا أن يقول دليل الرحلة أن هذا الشارع أو ذلك الميناء أو تلك الجزيرة شهدت تصوير فيلما من أفلام جيمس بوند. حدث ذلك مثلا في جيبور، حيث تم تصوير أوكتوبوس، وفي فيتنام بخليج هالونج باي، وطبعا في مصر.
فيلم جيمس بوند: لا وقت للموت
https://www.youtube.com/watch?v=oKIkvEjI2WE
هكذا صنعت أفلام صيغة فيلم الرحلة المغامرة، والتي نقلتها سلاسل أخرى مثل Mission Impossible التي يجسد فيها توم كروز شخصية إيثان.
في اليوبيل الذهبي لسلسلة أفلام جيمس بوند كتبت عن المغامر والمدن والنساء، بالطبع تركت لجيمس بوند النساء، واخترت عشق المدن، خاصة وأن نساءه لا يعشن طويلا.
السؤال التاسع: هل تعتقد أن سينما الرحلة قادرة على أن تكون أداة لفهم الآخر وثقافته، كما هو الحال في أدب الرحلة؟
نعم تمامًا. الأفلام لا تقدم قصة بقدر ما تقدم تجربة إنسانية وجغرافية، تدفعك لتأمل الكون واختلاف البشر.
دعيني أحدثك عن تجربة خورخي استيفا، وهو مصور ورحالة، وروائي ومخرج سينمائي، عاش سنوات في مصر بين واحاتها وقدم عنها كتابا بديعا. ثم سافر بين أفريقيا، السودان وزنجبار، وآسيا، سلطنة عان واليمن، واختار أن يكون له وجهة نظر سينمائية. في فيلمه سقطرى، تتحدث الصورة أكثر من الكلمات، فالصورة بألف كلمة، والمكان ساحر وآسر، وهو مولع بالغيبيات فاختار للفيلم عنوان جزرة الجن.
السؤال العاشر: حدثنا عن رحلة شخصية قمت بها وشعرت أنها تستحق أن تتحول إلى فيلم؟؟؟
صحيح أنني قمت بعشرات الرحلات إلى نحو 40 بلدا، لكن اختياراتي في كتابي (نهر على سفر) يمكن أن تمثل مغامرة، كمغامرات جيمس بوند. كما أن الفيلم سيسمح بتصوير ما لم تستطع الكتابة البوح به.
.