أدبجاليريشخصيات

الكونتيسة صوفي دو سيغور : حين تمتلك أسلوبًا أخّاذًا وتنوعًا ثقافيًا 

بقلم: د. إيمان بقاعي، دكتوراه في الأدب العربي وأدب الأطفال والشباب

La Comtesse de Ségur (1799-1874)

من هي (الكونتيسة دو سيغور)؟

عُرِفَت )الكونتيسة صوفي دو سيغور Mme de Segur1799 – 1874)– وهي  فرنسية من أصْلٍ روسيٍّ-  بكتاباتها الَّتي بدأتها في الثَّامِنة والخمسين من عمرها. وكان أول عمل لها: (حكايات جديدة عن الجنِّيات) وذلك عام 1857.

تلقَّت (صوفي) تعليمها وَفقًا لما تقتضي ضرورات تعلُّم الطبقة الارستقراطية الرُّوسية آنذاك، إذ كان والدُها (الكونت فيودور)– إلى جانبِ كونه جنرالًا في الجيش الرُّوسي، وتَوَلّى وزارة الخارجية في عهد القيصر (بولس الأول)- إقطاعيًّا يعمل في أرضه أربعة آلاف قِنٍّ؛ فعكفت على تعلُّم اللُّغات، حتى أتقنَتْ خمس لُغات بينها الفرنسيَّة.

وفي عام 1812م، صار (الكونت فيودور) حاكمًا لموسكو حتى الغزو الفرنسي لروسيا، إذ حُكم عليه بالنَّفي؛ فغادرها عام 1814م، إلى دوقية وارسو، ثم إلى ألمانيا وإيطاليا، إلى أن استقر به المقام في فرنسا عام 1817م، وأعلن تحوُّلَه إلى الكاثوليكيَّة الرُّومانية؛ فأُجبرَت (صوفي) على اعتناق الكاثوليكية في الثَّالثةَ عشرةَ من عمرها.

وفي فرنسا، التقت (صوفي) زوجَها (دي سيغور شاتو)، فتزوجته عام 1819م، وحملت اسمَه، وأنجبت منه ثمانية أولاد.

وإذ فضَّلت (صوفي) العزلة والهدوء، تمسَّك زوجُها بالمدينة وبعلاقاتِهِ النّسائيَّةِ المشبوهَةِ، وأهملها تاركًا إيّاها تعاني الوحدة والصَّمت لفترات طويلة، ما ساهمَ في صَوْغِ شخصيتِها المضطربةِ، المتقلّبة المزاجِ.

مسيرةُ (الكونتيسة دو سيغور) الأدبيَّة

بدأت (صوفي دي سيغور) مسيرتها الأَدَبِيّة عندما بلغت الثّمانيةَ والخمسين، وكانت عزلتُها وبُعدُها عن زوجها قد منحاها الوقت الكافي لتبدعَ رواياتِها؛ فأنتجَتْ في الفترة (1857–1869م) عشرين رواية، أولها (حكايات جديدة عن الجنِّيات) عام 1857، و(خواطر حمار).

مغامرات صوفي- آلام صوفي

كانت رواية (مصاعب الطّفلة صوفي- آلام صوفي) تناقِش ما واجهته (صوفي دي سيغور) من مِحَنٍ ومآسٍ في طفولتِها، جاعلة البطلة الصّغيرةَ الجسورةَ المكتشِفَةَ تتعرض للعقابِ والتَّقريع في كل مرةٍ تعوزها الحيلةُ. ورغم آلام الاكتشاف وانكساراته، فالرواية ممتعةٌ ببراءتها وصدقها وأحلامها الكبيرة.

ولكن السّؤال الذي يطرح نفسه: هل هذه الرّواية هي بالفعل رواية مغامرات؟ فإن لم تكن، لماذا تُذكَرُ كلما ذُكِرت مغامرات (آليس في بلاد العجائب)، (بينوشيو)، (توم سوبير)، (جزيرة الكنز) مثلًا؟ وهل مفهوم “المغامَرة” في قصص الأطفال والنَّاشئة مفهوم واضحٌ، أم إنه غامضٌ في أذهان قرّاء هذا الأدب؟

يمكننا أن نُعِدَّ ما يحدث لـ (صوفي) بعد نهشها الثِّمار المجففة “مغامرة” أكثر من أن نعدّها “متاعب” أو “آلام”، وأن اعتبارها “مغامرة” إنما هو وجهة نظر “قارئ بريء” كما يقول (عبد الرزاق جعفر) في كتابه (أدب الأطفال). والأمرُ نفسُه ينطبق على ما يمكن تسميه بـ “حركات آليس”،  بحيث لا يمكن مقارنتهما- مهما كانت التَّسميات- بأحداث (جولة حول العالم في ثمانين يومًا)، أو (جزيرة الكنز) التي لا يختلف اثنان على وصفها بالمغامرات الحقيقيَّة.

أما المقارنة التي يمكن أن نجريها بين ما يُسمى بروايات المغامرات، فلا يمكن إلا أن تكون بين (صوفي) و(آليس) اللّتينِ انقادت كاتبة الأولى الرّوسية- الفرنسية، وكاتب الثانية الإنكليزي إلى بطلتيهما اللّتين فرضتا نفسيهما عليهما حتى لو وُصِفَت تحركات الأولى- على قول عبد الرّزاق جعفر- بأنها “ابتداعاتٌ سخيفة، ولقاءاتُ الثّانية بأنها مُفْتَعَلَة، تعسَّفِيَّة”، وحتى لو رفضَ وصف أفعالهما بالمغامرات، بل دعاها بالتَّجارب “التّافهة، والمفاجِئة” التي تجد البطلتان نفسيهما فيها سجينتَي أفعالهما التي لا تنتهي، والتي سُمّيَت عنوة بـ“المغامرات”، رغم أنها مغامرة واحدة في كل رواية، تنتهي بالفشل، فـ(صوفي) تُخّرِّب وتُعاقَب،  و(آليس) تتسمر أمام الباب دون أن تتمكن من تخطِّي عتبته. ورغم ذلك، لا يبقى أمام القارئ سوى أن يدهش من غنى الخيال القادر على ترسيخ العمَلين في الذّاكرة.

الجنّيّات والسِّحْر والفولكلور والرمز في قصص (دو سيغور)

أما في (حكايات الجِنّيّات الحديثة)، فنرى أمورًا سحريَّةً وأماكنَ عجيبةً وكائِنَاتٍ غريبة: جنِّيَّات طيِّبات أو شريرات، حيوانات ناطقة، مخلوقات وسيطة، ورموز يشعر الطِّفْل معها بأنه على قدَمِ المساواة مع شَخْصِيَّات الحِكَايَات (الرَّمْزية)، وخير مثالٍ “الدُّبّ الصَّغِير” الّذي ابتدعته (الكُونتيسّة دو سيغور)، والذي لا يقل إفزاعًا عن قراصنة (جزيرة الكَنْزُ)، نظرًا لما يشكلُه (الرَّمْزُ) من غموضٍ لا شعوريٍّ لذيذٍ تعجز عنه شَخْصِيَّات كشَخْصِيَّات قراصنة (جزيرة الكَنْزُ)، المرسومةِ لتحدثَ خوفًا خارجيًّا أقلّ من الخوفِ الدّاخليِّ الرّمزيّ اللَّذيذِ.

وقد لعبت أدوات الزِّينَة دورَها المهِمّ في (حِكَايَات الجِنِّيَّات الحديثة) الفولكلوريَّة للسَّيدة (دو سيغور)، تمامًا كما لعبته في قصص الأَطْفَال والحِكَايَات الشّعْبِيّة؛ مثلًا: تقدم الجِنِّيَّة [عرَّابة الأميرة روزيت] لها: قلادة من البُندق وسِوارًا من الفاصولياء الجافة وطوقًا من الزُّعْرور، وتتحول هذه الحلي كلها إلى دُررٍ وأحجارٍ كريمة ولآلئ وياقوت في اللَّحْظَة الَّتي تهيئ فيها (روزيت) نفسها وتستعد للذَّهاب إلى حفلة الرَّقْص، وتكون فيها تلك الدُّرر والأحجار الكريمة واللَّآلئ بحجم (الجوز) أو (اللَّوز) أو (الخوخ)، حتى إنَّ الأحجارَ الكريمة المشعةَ كالنَّار والباردةَ كالماء والمهمة للنَّظر والحس،  تتحول إلى ثمار تعطي الإحساس بطعمها اللَّذيذ“.

وقد تكررت هذه الحال ثلاثَ مراتٍ في سياق الحِكَايَة، ما أضفى عليها قيمة مُجْدِيَة رائعة، وطبعتها في الذَّاكِرة بشكل راسخ لا يُمحى، وكأنها “كنز”، مع معرفتنا مقدار إغواء “الكنز” مُخيلة الأَطْفال الّذين يكدِّسون سرًّا في أماكنَ خفيةٍ كثيرًا من الأغراض البرَّاقة التي يعدّها الكبارُ تافهةً، بينما يعدّونها كنزَهم الخاصّ.

(دو سيغور) أديبةُ أطفال نِسْوِيَّة َبَصَرِيَّة

كتبتِ الرّوائياتُ أَدَبًا (نِسْويًّا) حينَ كتبنَ (الحَيَاة المَنْزليَّةَ) بتفاصيلِها التي تدخلُ فيها عملياتُ العَدِّ والإحصاءِ وانتصارِ الخاصِّ على العامِّ؛كما في (سلسلة البيتِ الصَّغِير) التي كتبَتْها (لورا إينغاللس ويلدز)، “الأديبة العفويَّة البدائية” كما وُصِفَت.

وفي هذا الإطار، كتَبَتْ (الكونتيسة دو سيغور) (الحَيَاة المَنْزليَّةَ) الدَّقيقةَ، فقامَتْ بعمليات التَّلاعب في إمكاناتِ العَدّ والإحصاءِ الدّقيقة التي تميّز (الأدب النِّسْوِيّ) الذي كُتب من أجل النِّساء الصَّغيرات جدًّا، والذي يبدي فيه الطِّفْل لذَّة  لا متناهية في تعدادِ الأشياء وتسميتها، فيتعلم معنى العَدّ ومعنى المجموعة ومعنى الجمع.

فالمسألةُ عند (الكونتيسة دو سيغور) لم تقتصرُ المسألةُ على نسيان ثوبٍ صغيرٍ على مهد دُمية (مارغريت)؛ بل ركَّزَتْ على مسألة انتصار الخاص على العام، والاسْم العَلَم على الاسْم العام، ونمو المنثور والخزامى، وتنظيمِ مصائرِ جميع أولئك الّذين يسهمون بالقِصَّة عن قُرب أو عن بُعْد: فتتزوج (مارغريت) من (بول)، ويصبح (ليون) عقيدًا في الجيش، ويدخل (جاك) في مجلس الحكومة، وتصير (يولاند تورنبول) ممثلة.

وهنا، ينبغي ألا نرى في مثل هذه النَّتائِج امتداداً لعمل الخَيَال وانفتاحًا على المُسْتَقبل؛ فالأمر على عكس ذلك، إذ إنَّ تلك النَّتائِج تمثل انغلاقًا على الذَّات يدفع الكَاتِبَة إلى الغوص في (فن التَّعْداد)، فإذ بها تنظِّم كل شيء خارج نطاق تعاقُب الزَّمَان والمكان، كما لو أن الطُّفُولَة الزَّائلة ينبغي أن تقدم لنا ثبتًا عن ميادينها وأملاكها.

والمتحدّث عن الأدب النّسوي وقضايا الحياة المنزليَّةُ المُهمّة جدًّا من أجل استقرار الطِّفْل النَّفسي، ومن أجل حاجته للاتِّزان العاطفي، ما يفسِّرُ إظهار الطّفل لذة غير متناهية في تعداد الأشياءِ وتسميتها؛ فيتعلم معنى (العدّ) ومعنى (المجموعةِ) ومعنى (الجمع)، وهذا يدخلُ في إطارِ (الأدب البَصَرِي) الذي لا يقتصر على أدباء الأطفال والنّاشئة وأديباتهم، بل يشمل أدباء الكبار؛ فالرّوائيون الشّعْبِيّون العُظَمَاء منهم بصورة خاصة [هوغو، ديكنز، (إيركمان شاتريان: والأخير اسم مستعار جماعي للروائيينِ إميل إركمان (1822-1899) وألكسندر شاتريان (1826-1890)] بصريُّون؛ إذ يمتلكون حدَّةً في البصرِ تجعلهم يلاحظون أدقَّ التّفاصيلِ في الأشياء المحسوسة التي تمرّ أمامهم في حياتهم العادية، وبذلك كانوا يرسمون الأشباح والثِّياب والمواقف بضربةٍ سريعة لا يمكن أن تُنسى.

ولنأخذ المآدبَ مثلًا؛ إذ لا يمكن أن ننسى أبدًا وصف (ديكنز) و(إيركمان شاتريان) لها؛ ولا يمكن أيضًا أن ننسى وصف (الكونتيسة دو سيغور)، فكما  يمارسُ  هذا التَّعْبير المفرط في المبالغة الخاص بالواقعيَّة البَصَرِيَّة يمارس سحرًا على الكبار، يمارسُ سحرًا أقوى عجيبًا على الطِّفْل، ما يفسّر نجاح أسلوب كتابةٍ وفشَل آخر.

وهنا، لا بد من التّذكير أن الكاتبةَ تستخدمُ في قصصها الأساليب التي تحبب الطِّفل بالقراءة، فتسلس كلماتها، وتستخدم نبرات الكتابة، أي أَسْماء الأَفْعَال، وأصواتُ الحَيَواناتِ والجَمَاد، وأَسْماء الجِهاتِ. وهي تُضفي جوًّا محببًا إلى نفس الطِّفْل، ومن (نبرات الكتابة)، استخدامها في روايتها (خواطِر حمار): “وكنت كلما اقتربَ وقتُ الذَّهاب إلى السُّوق أشهقُ وأنهقُ برقَّة أستعطفُ بها سادتي، فكانت هي تسرعُ إليَّ وتقول: اسكُتْ أيها الكسول، ولا تصدعْنا بصوتِكَ المُنْكَر: هِي هَان! هِي هَان! كأنك تحسب هذا الصَّوت موسيقيًّا مُطرِبًا”.

(دو سيغور) أديبةُ روايات نفسيَّة

و(الرِّوايَة النَّفسية) رواية تقدِّم المجتمعَ بحيث تكونُ مَنْجَمًا غنيًّا بالوثائِق، مفيدًا لعلم الاجْتِمَاع، ما يعطي قيمة كبرى لروايات (الكونتيسة دو سيغور) الَّتي ترسم مجتمع البورجوازية الرَّفيعة والطّبقة النَّبِيلَة تحت ظل الامبراطورية الثَّانِية.

وإذا كان أَدَب الأَطْفَال انعكاسًا لحقبة مِن تاريخنا، فسوف نجد في الكُتُب صورة حقبتنا التَّاريخية الَّتي نعيش فيها الآن بصورة خاصة، هذه الحقبة الغنية بالأزمات  العامّة والعائليَّة في آن.

وقد تطورت (الرِّوايَة النَّفسيَّة) بسبب ظهورِ مفاهيمَ جديدة عن التَّرْبِيَة، وعن اعتمادها على علم النَّفس العام وعلم نَفْس الطِّفْل بصورة خاصة؛ وأهم هذه المفاهيم الجديدة:

(أ)السَّيْطرة على الذَّات: من خلال التّركيز على ضرورة معرفة الإِنْسَان لمركزه الحقيقي بالنِّسبة إلى نفسه وإلى الآخرين ودفعه من أجل ابتداع أُسْلُوب خاص به في الحَيَاة بعيدًا عن الرِّيبة والشَّكّ، بل اعتمادًا على حس النّقد.

وفي هذه الرِّوايات، يتعرف النَّاشِئون، من الأَطْفَال والمراهقين والشُّبان، على كائِنَات مماثلة لهم، لا أفضل ولا أسوأ منهم، يشاطرونهم الرّغْبة ذاتها في الاستقلال، والإرادة ذاتها في التَّنظيم، ورسم الأهداف ذاتها لأنفسهم من أجل إنفاق الطَّاقات الَّتي قد تهدر بدونهم. وذلك من خلال أبطال يرسمهم الكتَّاب يمارسون فعاليات ذاتية مستقلَّة، شريطةَ أن تُختار هذه الفعاليات اخْتِيارًا حرًّا لا يُفرض على الأَطْفَال من الخارج- أي من سلطة الرَّاشِدين- وبذلك تستلزم هذه الفعاليات وجود رقابة على الانفعالات، ووجود وعي لمعنى التَّضامن ينبعان من أعماق الأَطْفَال أو الفتيان أنفسهم.

(ب)عالمٌ مُحَطَّم: إنَّ من واجبِ كاتبِ الطُّفُولَة ألا يُغرِقَ الطِّفْل بأوهام السّعادةِ؛ بل عليه أن يثيرَ المعضلات الكُبْرى البشرية المؤلمة حتى عند الصِّغَار: كالجوع في العالم، والأُمية، والأمراض، والعمَّال الأجانب، والمشوهين، والمعوقين، وانقراض بعض سلالات الحَيَوَان… وحتى الموت! على ألا يشعرَهم باليأسِ؛ بل يقودُهم إلى البَحْث عن إرادة الحَيَاة من خلال اقتراح الحلول المتفائلة التي يمكن أن تنتصر- أحيانًا- على الحقد والأنانية والشَّرِّ!

(ت)حاجة الانسجام: يقول (آ. ماسوبان) في حاجةِ النّاشئةِ إلى الانسجامِ: “إن عصر الذَّرة يجعل النّاشئة أكثر حساسية إزاء المعضلات الَّتي تثيرها العلاقات الجديدة الَّتي تَنْشَأ بين النَّاس والعلم”، ومن هنا، فإنَّ- حسبَ (آ. ماسوبان)- “على العلم والفن الصِّناعِيّ الدَّقيق أن يظلّا، من حيث الجوهر، عامِلَي تحرر لِلإِنْسَانِ”.  أما (العالَم الثّالث)، فيطالب كتَّاب أَدَب النَّاشِئَة الواعون باعتباره عالمًا مؤلفًا من عدة بلدان نامية أو سائرة في طريق التَّطوّر والنّمو- وليس من بلدان (متخلِّفة)– لأن كَلِمَة (التَّخَلُّف) تسيء إلى الإِنْسَان. أما مساعدة هذه الشُّعُوب، فلا تكون بفرض شروطٍ مجحِفة عليها بحجة انتشالها من أوضاعِها الصَّعْبة، بل بتحسين شروط حياتِها لمساعدتها على تكوين كيانِها المستقل.

(دو سيغور) أديبةُ أطفال واقعيَّة

كان ينبغي أن ننتظر عشرين عامًا بعد (أوليفر تويست) لكي نرى ظهور الرِّوايات الأَوَّلى الكُبْرى الوَاقِعِيَّة لِلأَطْفَال، فقد بدأت (الكُونتيسّة دو سيغور) الكِتَابَة في عام 1857. وظهرت (السّيّدات الصَّغِيرات) الَّتي كتبتها (لويزا آلكوت) في عام 1867. ونشر (مارك توين) كتابه (سوبير) في عام 1871.

وإذا كان يُؤْخذ على روايات (الكونتيسة دو سيغور) أنها تقدم لِلأَطْفَال- إلى جانب ما تقدّمه لهم من روايات نفسيَّة وفولكلوريَّة ورمزيَّة- رؤيةً واضحة لعالم ولمجتمع كاملين، فإن هذا نقدٌ يمكن أن يُوَجَّهَ إلى كتب الأَطْفال جميعًا.

إن أدب الرِّواية يحمل دائمًا سمة المجتمع الذي خلقَهُ، حتى لو وُصِفَ أدبُ (الكونتيسة) بـ “البائد”، أو “الرَّجْعِي”!

(أ)واقعية وصْف الأمبراطورية الثّانية  

وهو نقد لم يوجَّه إلى حكاياتِ اللَّامعقول التي حَكَتْها ونالَتْ نجاحًا باهرًا، والإجابةُ عن هذا النّقد تكون بأن الأَطْفالَ القادرينَ على فهم الرّموز وحكاياتِ الجنّياتِ والعفاريتِ، قادرونَ على فهم ذلك المجتمع الواقعيّ في ظلِّ الامبراطورية الثَّانِية، حيث كان للبنَات الصَّغيراتِ النَّبيلاتِ مُرَبِّياتٌ، وللفلاحين عيشةُ الجَهْلِ، وللملوكِ وأصحاب العروش حُكْم مُطْلَق، والفضل يعودُ إلى فن السَّردِ الجذّاب الذي برعَتْ به (الكونتيسة) في حالتي المعقول الواقعيّ واللَّامعقول، وكلاهمُا يستطيع الأطفالُ فهمَه من دون أن يخلطوا بينهما، طالما كُتِبَ بأسلوب يخلبُ ألبابَهم، استطاعَتِ الكاتبة فيه- بامتلاكها ذلك الإفراط في تنبُّه الحواس الخمسة، أن تنتجَ تطابقًا تجلّى في وصفها الرائع الأخَّاذ في كل كتاباتِها، إضافةً إلى ذوقِها الرَّفيع الذي كانت تتَّصف به، والذي كان يقودها إلى التَّفصيل الصَّحيح.

(ب)واقعية وصف الأُمور الاقتصادية

وفي الإطار الواقعيّ، تُعَدُّ بعض رواياتِ (الكونتيسة دو سيغور) كتبًا اجتماعية موَثَّقَةً، ساهَمَتْ روحُ المُلاحظة والدِّقَّة والجدال التي كانَت تمتلكها في دفعِها نحو الاهتمام العنيف بالمسائل الاقتصادية أو أعمالًا أدبيَّة طبيعية؛ إذ كانت تحاول دائمًا أن تضع الشَّخصية في واقعها الاجتماعي. أضف إلى ذلك، أن روح الملاحظة والدِّقَّة والجدال عندها، كانت تدفعها نحو الاهتمام العنيف بالمسائل الاقْتصادية. أما حين ترسم شخصيَّة من الشَّخصيات وتحركُها، فكانت قادرة على منحها قوة الحياةِ، مستخدِمَةً دقَّةَ الإحصاء التي تجعل منها عالمةَ اجتماعٍ قبل أن تكون روائيّةً.

وانطلاقًا من (ديلوي المتسكِّع) في كتاب (جان الذي يدمدم) نجد جان الذي يضحك، وأخت غريبوي، وثروة غاسبار، والعبقرية الصَّالحة، كما نجد “ثَبْتًا حقيقيًّا عن الطُّفُولَة العاملة”: الأجور، وظروف الحياة، وغيرها.

وهنا أنقل- من كتاب (أدب الأطفال) لـ(عبد الرزاق جعفر)- حوارًا يجري في أحد المعامل بين العقيد و(ديلوي):

“ديلوي: إنني أعمل عند صانع أخْفاف يا سيِّدي الكونت. يُقدِّم لي المسكن والتَّدفئة وفرنكين وخمسين سنتيمًا في يوم العمل.

العقيد: كم ساعة في اليوم؟

ديلوي: اثنتا عشرة ساعة يا سيدي الكونت.

العقيد: أي بزيادة ساعتين! وهل تعطِّل أيامَ الآحاد والأعياد؟

ديلوي: ليس ذلك من حقي، وكثيرًا ما أُطالَب بالإسراع في العمل.

العقيد: طبعاً فإن السَّادة الصُّنَّاع يطالبون بالإسراع في العمل دائِمًا. هل يهتمون بتشغيل الأولاد؟

ديلوي: عندما يكون عمرهم عشر سنوات يا سيدي الكونت، يعطون عملًا مقابل خمسين سنتيماً في اليوم.

العقيد: وهل العمل متعِب وشاق؟

ديلوي: نعم، إلا إذا كان المرء جالسًا طيلة وقت العمل؛حينئذٍ لا يكون قاسيًا جدًّا.

العقيد: والأولاد، هل يعملون في خارج المعمل؟

ديلوي: لا، يا سيدي الكونت، في المعمل. إنهم لا يخرجون.

العقيد: وهل يعطلون يوم الأحد؟ هل يستطيعون الذَّهاب لتلقي الدُّروس الدِّينية أو إلى المدرسة في أثناء الأسبوع؟

ديلوي: لا يُسْمَح لهم بذلك عندما تكون هناك حاجة إليهم.

العقيد: وهل هناك حاجة دائمة إليهم؟”.

وفي (جان الذي يدمدم) و(جان الذي يضحك) وصف لحياة بائع جوّال:

“لقد وَعَدْتَ سيمون أن تحصل على عشر فرنكات مع الغذاء واللِّباس والسكن والغسيل. فاحرص على ألا تذوب الفرنكات العشر هدرًا”.

كما نجد إشارة إلى نادل المقهى الذي يبلغ من العمر ثلاثةَ عشرَ عامًا. كذلك تصف (الكونتيسة دو سيغور) الفروق الماديَّة والمعنويَّة القائمة بين رئيس (ورشة) في مصنع وخيَّاطة صغيرة في الرِّيف ووصيف في بيت أرستقراطي. هذا من دون أن نتحدث عن الأعداد الهائلة من أبناء الفلاحين الذين يعملون في الحقول أو يذهبون إلى المدارس، إذ تطنِب في وصفهم وتسهب في شرح ظروفهم: في الولائم التي تقام في القرى في أيام الأعياد، وفي بساطة المآدب العادية الرَّتيبة في منطقة (النُّورماندي) الغنية، وفي المجاعات الرهيبة في (بريتانيا).

كما أنها لم تكن لتكتفي بإلقاءِ نظرة إحصائيَّة صرفة على الوقائع، بل إنها تُحْسِن استخلاص النتائج منها على الصَّعيد النَّفسي.

فالطِّفْل عندها إذا كان من أبناء“الكادحين”، اختلف عن الطِّفْل“الأرستقراطي” أو “البورجوازي”، لأنه يعمل، ولأنه يأكل أقلّ وبشكل مختلف عنهما كما يبين الحوار التالي الذي يجري بين ابن بواب العمارة وابن صاحب العمارة:

بليز: لا بد أن تغذيةَ الفيل تكلف كثيرًا، فهو يأكل في الوجبة الواحدة ما يكفينا ثمانية أيام أنا وبابا وماما!

جول: ألا ترى أن اللَّحمَ غير موجود؟ وأنت تحتاج إلى اللَّحم كي تعيش على ما أظن!

بليز: اللحَّم، يا سيد جول، لا نتناولُ منه إلا القليلَ يوم الأحد.

جول: غير ممكن! (صرخ بدهشة). أنا لا آكل إلا اللَّحم. ماذا تأكل إذًا في بقية أيام الأسبوع؟

بليز: الجبنة، بيضة مسلوقة، خضار مع الخبز طبعًا. وعندي من الخبزِ كل ما أريد.

جول: أما أنا إذا لم يقَدَّم لي اللَّحم، فلا آكل شيئًا.

بليز: لكن ذلك سيضر بصحتك يا سيد جول، لأنك ستتألم من الجوع، وعندما يجوع الإنسان يجد كل ما يأكله لذيذًا!

و(الكونتيسة) تركِّز على إذلال الأشرار والأدعياء والأغنياء الفاسدين للفقراء بانيةً- ظاهريًّا- الصّراعَ بين الشَّخصياتِ على أسس أخلاقية لها علاقة بالطّبائع، بينما تقصدُ، واقعًا، اتّهام الفروق الاجتماعية، مُدينةً الطّبَقِيَّةَ التي تجعل الأشخاص أجلافًا، بينما تقيّم إيجابيًّا أصحاب الأخلاقِ الرّفيعةِ النّاطقين باسمها.

(ت)واقعيّة وصف أفراد العائلة والأصدقاء

قلّما نجد علاقة تصادميَّة- في أدب الأطفال- بين الآباء والأبناء، بل نجد التّصادُمَ مع مَن يُعهَد بهم إليهم من أوصياء؛ كالأجداد، والأعمام، والخالات، وأحيانًا المرّبيات، فيما يكرِّس العلاقة الأسريَّة- الآباء والأمهات- سليمةً، حتى لنجد وجودَ الأبوينِ أحيانًا مجرد ضرورة إتمامًا للصّورة التي يريد الكاتب أن يوضحها واضعًا إياها في إطار تقليدي.

ولا نستطيع تجاهُلَ أهمية الوالدين- وخاصة أهمية الأم- في إطار (الحياة المنزليَّة)، إذ يخلق أَدَب (الكُونتيسّة دو سيغور) بيتًا شبيهًا ببيت الدُّمْيَة: الأم أمام المهد، والأب يطالع في صحيفته، والقطة قرب النَّار! والسَّبَب في ذلك أنها ترى أن على الطِّفْل أن يتعلم كيف يواجه مستقبلَه. ومستقبلُه سيكون على هذا النّحو: بيت حسن التَّرْتيب، كل فرد فيه موجود وله دور معين، تلعلع فيه كَلِمَة (يجب)، فلا مكان للمصادفة أو للمفاجأة فيه، فالمصادفة أو المفاجأة تدفعان إلى (المُغَامرة).

لكنَّ الرّوائيّةَ- إن اضطرّت إلى تغييب أحد الأبوينِ، نراها اختصَّتِ الآباءَ بالغياب، جاعلةً  الأمَّهاتِ أراملَ أو ذوات أزواج مفقودين في “المياه”، أو في “الحرب” كما حدث مع الدكتور (مارش) الذي فُقِدَ في الحرب. على أنَّها، رغم ذلك، لا تعطي دورًا رياديًّا خارج إطار التّربية وضمان الهدوء الأسري التّقليديّ للأمهات، بل تجعلهنَّ جميلاتٍ بشكل لا يُصَدَّق وطيِّبات، وحافظات، وحارسات، ومحصِّنات، إلا أنهن- أحيانًا كثيرةً- يكُنَّ ضعيفات الطَّبْع، رقيقات إلى درجة الهَشاشة. ولم تترك (الكونتيسة دو سيغور) علاقة أبطال رواياها أحادية، بل اهتمت بالأصدقاء كونها تكتب روايات البيت، أو روايات الأخلاق والعادات، مستخدمَة حواسها الحادة وأسلوبها الجذاب المُقنِعْ.

وبدا وصْفُ الصَّداقة في أوجِ جماله وقتَ وصفَ (كديشون)، بطل رواية (مذكرات حمار) صديق الكلب (ميدور بقوله): “ولو أنهم كانوا يستطيعون أن يعرفوا محادثتنا، لفهموا ما بيننا من المودة والإخاء. وصار ميدور مسرورًا من كل ما قصصتُ عليه؛ من معيشتي الهادئة البسيطة، ومن طيبة أسيادي، ومن شهرتي المجيدة في البلد بعد حادثة السباق.

وكان يتألم معي إذا حكيت له ما أصابني من المتاعب، وكان يضحك وهو يعتب عليَّ لتلك الأفعال التي فعلتها مع تلك الفلاحة التي اشترتني، ثم يأسف على ما سمع من جحود أهل باولين وإنكارهم جميلي في إنقاذ بنتهم من النار، وذرفتْ عيناه دمعة حارة حزنًا على تلك الطفلة المسكينة”. [خواطر حمار: الفصل العاشر. الكلب ميدور]

فالأصدقاء يتشاركون اللُّقمةَ ويتقاسمونها، ويربطهم شعور الإخاء والمودة، يدافعون عن بعضهم، ويؤازِرونهم. يُسَرّون بسرور أصدقائهم، ويتألمون لألمهم، ولكنهم لا يوافقون على أفعالهم كلها، بل يعاتبونهم إن أخطأوا. [الكلب ميدور: الفصل العاشر]، ولا يتسرّعون في استبعادِ ممن قد يكون صديقًا مخلصًا يومًا، كما قيَّمَ (كديشون) صديقه (أوجست)، إذ اكتشف أنه لم يكن ماكرًا ولا خبيثًا، بل كانَ مجردَ جبانٍ وفيه بعضُ الغباوة،  ولم يكن ذلك ذنبًا له، فاجتهدَ  في يوم آخر وقدم له خدمة أخرى. [خواطر حمار: الفصل الثاني عشر، حُسْن الدفاع].

أخيرًا،

هل كانت (الكونتيسة دو سيغور) روسية أو فرنسية؟

كاتبة مغامرات أو كاتبة فولكلور؟

تستحضر الجنّيات، أم تلتزم بتفاصيل الواقع؟

أكانت نِسويّة، أو بصَرِيَّة؟

أكتبت روايات نفسية جليلة عميقة، أو كتبَت أدبًا بائدًا؟

أغرقَتْ في الخيال، أو كانت عالمة اقتصاد؟

أجمَعَتْ العائلة والأصدقاء، أو خبأت بعض أفراد العائلة لسبب عانته في حياتها، وعاينَتْه فحللت واستنتجت؟

باختصار،

(الكونتيسة دو سيغور) كانت كل هذه السّيدات، بعد الثامنة والخمسي، ومَن يسعَ يَنَلْ!

27\6\2025

مكتبة الدراسة:

إيمان بقاعي: معجم أدب الأطفال والنّاشئة.

عبد الرزاق جعفر: أدب الأطفال.

الكونتيسة دو سيغور: الفتاتان الصَّغيرتان المثاليتان،ق1 + ق2. تر: وجيه العمر.

الكونتيسة دو سيغور: مصاعب الطِّفْلة صوفيا. تر: نايف حسين العطواني، دمشق، وزارة الثَّقافَة السُّوريّة،1981.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى