جاليريشخصيات

مقال الجمعة | التجريد العربي بين الدين والضعف الأكاديمي (1 من 4)

 بين التصوف والزهد، وإلقاء الألوان جزافًا

بقلم: عبد الرازق عكاشة

عمل للفنان عبد الرازق عكاشة

هذه ليست المرة الأولى التي أتحدث فيها عن هذه القضية الشائكة جدًا، وربما سأحاول من جديد ترتيب جُمَل كلامي.

أعيد تنظيم حساباتي، بدءًا من السؤال الأساسي: ما هو التجريد أساسًا؟
من وجهة نظري، هل للتجريد مدارس؟
وكيف تختلف كل مدرسة عن الأخرى؟
وهل لا يزال المتلقي في العالم (الكون الكبير) يميل إلى التجريد؟
ما هي القصة بالضبط؟

ربما ما نقوله اجتهادات شخصية، لكنها مبنية على ثلاثين عامًا من المشاهدات العالمية،
ومتابعة دقيقة لمعظم المعارض، والمتاحف، والصالونات الدولية.

إنها حصيلة زيارة أكثر من 32 دولة، بصفتي محاضرًا، وأستاذًا، وفنانًا مشاركًا، وناقدًا، ورئيسًا أو عضوًا في لجان تحكيم.
نبني وجهة النظر على أحد عشر كتابًا في الفن أقوم بتأليفها منذ عام 1997، عندما كنت شابًا صغيرًا يافعًا، لكن له وجهة نظر مهمة، حيث كنت مستشارًا فنيًا بجمعية الفنون التشكيلية في اليونسكو في ذلك الوقت، ثم محاضرًا ومشاركًا في معارض دولية باليابان (مدينة كوبيه وأوساكا)، وأيضًا في كوريا، ومشرفًا على قاعة عرض بباريس 1993،
وصحفيًا أكتب مقالات أسبوعية في الفن لأكثر من 12 جريدة دولية كل شهر.

أعتذر عن هذا الاستعراض، لكنه مدخل مهم للموضوع، ولصياغة عقد من الثقة بين الكاتب والقارئ في وجهة النظر، سواء اختلفنا أو اتفقنا.

نبدأ من التجريد المصري في تحولات رمسيس يونان، وفؤاد كامل كأبرز حالتين بين جماعة الفن الحر والسرياليين المصريين، ثم منير كنعان القدير، الذي يمثل نقطة تحول كبرى في التجريد العربي؛ كنعان فنان الكولاج الخطير وساحر التراكيب الحسية.
لكن في الحقيقة، لم يلتفت الكثيرون إلى التجريد المصري قبل حضور فاروق حسني وزيرًا للثقافة، حيث كان له دور في التأكيد على مناقشة التجريد وطرحه بخصوصية وتفرد لم يحدثا قبله.

ناقش البعض أهمية التجريد بصدق ووعي، والبعض الآخر دخل اللعبة مرتديًا جلبابًا من النفاق، للسيد فاروق حسني كوزير. أما كفنان، فأعماله الأولى في التجريد شيء، والآن شيء آخر تمامًا.
فالتجريد يحتاج إلى تراكم خبرات بصرية ولونية كبيرة جدًا، ويحتاج إلى مشاعر مختلفة عن معظم الممارسين له الذين نرى أعمالهم في المعارض العابرة والاستثنائية الآن، حتى في مجال النحت، لدينا نحاتون رائعون أصحاب خبرة كبيرة يتنقلون بين التعبيرية والتجريد التعبيري بقوة.

وهنا سؤال آخر يطرح نفسه: هل لدينا فنانين مهمون في عالم التجريد فقط؟
نعم، لكنهم ليسوا مخلصين للتجريد البحثي على طريقة اللبناني صليبا الدويهي، أو شفيق عبود.
فمعظم أعمالهم تميل إلى التجريد التعبيري، أمثال الفنان حامد عبد الله، إحدى أهم الحالات التي نقف أمامها في تحوّله الإنساني من الفكر الشيوعي إلى الاشتراكي، ثم إلى التصوف الكامل في آخر مراحله، حيث رسم آيات القرآن بأسلوب تجريدي تصويري.
حامد عبد الله وحده مدرسة متعددة الأبواب والاتجاهات.

كذلك د. رضا عبد السلام، الذي ينتقل بين التجريد والتعبير بيسر شديد وثقة كبيرة في فرشاته، في عديد من أعماله.
أيضًا، د. مصطفى عبد المعطي، المهم جدًا في التجريد المصري، وصاحب الحس الهندسي،
ود. مصطفى عبد الوهاب، صاحب التجريد الموسيقي الغنائي الجميل،
وفي فن الجرافيك، د. أحمد نوار كتجريد هندسي مميز قائم على الدقة والاتزان بعيدًا عن تهور الفرشاة،
كذلك الفنان المحترم عوض الشيمي، لكنه تجريد قائم على الفيجر (الشكل) التعبيري أكثر.

ثم تأتي أجيال أخرى، مثل:
د. أماني فهمي، د. محمد غانم، الفنان هشام بركات (Hesham Barakat)،
والفنان د. معتز كمال (Moataz Kamal) وهو فنان تجريدي مميز، لنا وقفة قريبة مع أعماله.

حين نتتبع المميزين أولًا، ندرك أهمية تميزهم، فهم جميعًا من أصحاب الخبرات البصرية الكبرى،
ولهم تجارب سمحت لهم بالمغامرة في الانتقال من مدرسة غير تجريدية مثل التعبيرية أو السريالية إلى التجريد.

وهنا تأكيد أن التجريد يحتاج إلى ثقافة كبيرة وتدريب دقيق في فنون الرسم،
وأنه لا يأتي صدفة…
أو أني استيقظت صباحًا وقررت أن أكون تجريديًا، ألقي الألوان جزافًا، أو أقول:
“حلمت أن شيخ الحدّادين دعاني لمعرض في قاهرة المعز، فاشتريت ألوان أكريليك لأنها تجف بسرعة، وقررت أضرب ضربتين وأسافر بهم!”

ما نراه اليوم هو مهازل بعيدة عن الفن التجريدي العظيم.

وفي الحلقة القادمة نتحدث عن مدارس الفن التجريدي، إجابة على سؤال آخر.

باريس – عبد الرازق عكاشة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى