
في قلب تونس، حيث تتنفس الأوابد وذرات الرمال حكايات آلاف السنين، ينتصب المسرح الروماني “الكوليزيوم” بالجم شامخًا، صامتًا، مهيبًا. هذا الصرح العظيم، الذي كان ذات يوم يعج بزئير الوحوش وصيحات الجماهير، والذي شهد “حشرجات الموت” في ساحات القتال، يتحول اليوم، مع كل مساء صيفي، إلى خشبة ساحرة لأرقى الفنون: الموسيقى السمفونية.
إنه مهرجان الجم الدولي للموسيقى السمفونية، الحكاية التي لا تُنسى عن كيف يتجدد التاريخ على أنغام الأوركسترا.
قبل أن تبدأ أولى النغمات في إفتتاح المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية بالجم، يلف المكان سكون عميق، ليس صمتًا عاديًا، بل هو صمت محمل بثقل القرون، وكأن الأثير ما زال يحتفظ بأصداء ماضٍ بعيد. تشعر بقوة التاريخ تدب في أوصالك، وبضخامة المكان الذي يتجاوز حدود الزمن. جدرانه القديمة، التي روَت قصصًا عن صراعات وعظمة، تقف اليوم شاهدة على تحول فريد؛ من العنفوان البدائي إلى الرقة الخالدة. الأضواء الخافتة تداعب الأعمدة الأثرية، تلقي بظلالها الراقصة على حجارة صقلتها السنين، وتضفي على الأجواء هالة من الغموض والترقب، تتوحد فيها الأبصار والأرواح في انتظار سيمفونية المساء.
افتتاحية تليق بالتاريخ: سيمفونية فلورنسا في قلب الجم.
وفجأة، ينفجر الصمت. لافتتاح هذه الدورة الاستثنائية من مهرجان الجم، كان المسرح على موعد مع سيمفونية عالمية، حملت معها إرثًا فنيًا عريقًا: أوركسترا الحجرة الفلورنسية. هذه الأوركسترا، التي تأسست عام 1981 على يد المايسترو الخالد جوزيبي لانزيتا، قدمت على مدى عقود أكثر من 1850 حفلًا موسيقيًا حول العالم، وحظيت بإجماع النقاد الذين وصفوها بأنها “واحدة من أفضل الأوركسترات الأوروبية”. حضورهم في الجم ليس مجرد أداء، بل هو التقاء حضارتين، وتجسيد لمعنى الفن العابر للزمان والمكان.
تحت قيادة المدير المايسترو جوزيبي لانزيتا، الذي قاد هذه الأوركسترا في جولات موسيقية امتدت من الولايات المتحدة والمكسيك إلى أنحاء أوروبا والبرازيل، قدمت الأوركسترا برنامجًا موسيقيًا آسراً، يمزج بين عذوبة الكلاسيكيات وروعة المقطوعات السينمائية التي لامست قلوب الملايين. بدأت الأمسية بأنغام بيوفاني المؤثرة من فيلم “الحياة جميلة”، تلتها مقطوعات مورّيكّوني الخالدة التي حملت الجمهور في رحلة عاطفية عميقة، بدءًا من “أنت وأنا” و*”الثلاثي”* و*”لا كاليـفا”*، وصولًا إلى سحر “سينما باراديسو” وإبداع “عازف البيانو على المحيط”، ثم امتدادًا إلى “جناح الغرب”، التي تجسدت فيها براعة المؤلف الموسيقي.
وما بين سحر مورّيكّوني، حلقت الأوركسترا بأنفاس الحاضرين مع أريا بوتشيني الخالدة من أوبرا “توسكا”: “التناغم الخفي” و*”عشت للفن”. ولم يكتفِ البرنامج بذلك، بل عاد ليخطف الأنفاس بمقطوعات روتا الشهيرة من فيلمي “العراب” و”الفهد”، مع تحية خاصة للمخرج العظيم فيديريكو فيليني عبر مقطوعة “تحية لفيديريكو فيليني”. هذه الرحلة الموسيقية المتنوعة بلغت ذروتها مع أريا بوتشيني الشهيرة من أوبرا “لا بوهيم” بأريا “يا يد صغيرة باردة” و”يدعونني ميمي”، مروراً بالختام الآسر للفصل الأول، قبل أن تختتم الأمسية بواحدة من أروع ألحان بوتشيني على الإطلاق: “لا أحد ينام” من أوبرا “توراندوت”، التي صدح بها صوت التينور أنطونيو ساليس ليملأ جنبات المسرح، معززًا بأداء مؤثر من السوبرانو إيفلين سافيدرا، وبمساهمة عازف البيانو فرناندو دياز، وعازف البوق مارسيلو نيسي* الذين أضافوا رونقًا خاصًا للأمسية.
تُوجت الأمسية بتصفيق حار ومطالبات بالإعادة، حيث أمتع الفنانون الجمهور بثلاث مقطوعات أيقونية: “فونيكولي فونيكولا” و”أوه سوليه ميو” اللتان ألهبتا حماس الحضور، وأخيرًا “طريقتي” لبولانكا، التي تركت الجميع يغادرون المكان بقلوب مفعمة بالفن والجمال.
إنها لحظة أشبه بالمعجزة؛ وكأن الموسيقى تتخذ من جدران الجم القديمة أوتارًا، ومن فضائه الرحب صندوقًا صوتيًا عملاقًا. كل نغمة، وكل وتر، وكل إيقاع يهتز له المكان، ليس اهتزازًا ماديًا فحسب، بل هو اهتزاز للروح. تنتشر الأصوات النقية في الهواء الليلي، تتكسر على المدرجات، وتتردد أصداؤها في سماء الجم الصافية، لتحمل معها رسالة تتجاوز الكلمات: رسالة الفن الذي يصمد في وجه الزمن.
إنها ليست مجرد حفلات موسيقية، بل هي تجربة حسية فريدة من نوعها. هنا، يتجاوز المستمع كونه متفرجًا؛ يصبح جزءًا من لوحة فنية متكاملة. يرى الأوركسترا تتلألأ تحت أضواء النجوم الصناعية والطبيعية، ويشعر بالهواء الليلي يلامس وجهه، ويستمع إلى سيمفونية تلامس الروح وتوقظ التاريخ. تتراقص الأنوار على وجوه الحاضرين، سياحًا ومحليين، عائلات وشبابًا، يجمعهم شغف واحد: حب الموسيقى والفن الذي يُقدم في هذا الصرح الأثري الذي يحبس الأنفاس.
مهرجان الجم الدولي للموسيقى السمفونية ليس مجرد حدث صيفي، بل هو شهادة حية على قدرة الفن على إحياء التاريخ وتجاوز الحدود. إنه ذلك المكان الذي تتحول فيه “زئير الوحوش وحشرجات الموت” إلى أرقى أنواع الموسيقى، ليصنع كل عام “سيمفونية خالدة” تتردد أصداؤها في ذاكرة كل من حالفه الحظ أن يكون شاهدًا عليها. إنه دعوة للاحتفاء بالجمال، بالصمود، وبالقدرة الإنسانية على تحويل أعتى الأماكن الممسوسة بحشرجات الموت إلى مسارح للروح والفن الخالد.
………..
ـ ويستمر نجاح هذا المهرجان بفضل إستقرار إداراته ومهنيتها منذ حرص على تأسيسه رئيس الجمهورية السابق ورئيس مجلس نواب الشعب السيد محمد الناصر ، وهيئته المديرة : رئيس جمعية مهرجان الجم الدولي للموسيقى السيمفونية السيد / رمزي جنيح ، والمدير الفني للمهرجان السيد / مبروك العيوني .. ، والجهد المهني المتميز للمكتب الإعلامي للمهرجان .. السيدة / چيهان التركي ، وصولا إلى الدعم اللوجستي الذي يؤمنه الأستاذ / عادل .