
في مدينة الحمامات الساحرة، على وقع النسائم العليلة لخليجها، بدأ المركز الثقافي الدولي بالحمامات «دار سبستيان» في استقبال الحشود السنوية الغفيرة من عشاق الفن والثقافة، معلنةً عن انطلاق فعاليات الدورة التاسعة والخمسين لمهرجان الحمامات الدولي، وعلى مدى عقود طويلة رسَّخ هذا المهرجان مكانته كأحد أبرز الملتقيات الفنية في المنطقة والعالم العربي، ليتحوَّل مع كل صيف إلى منارة للإبداع ونافذة تطل منها تونس على آفاق فنية وثقافية متنوعة. وبين جدران المسرح المشيَّد على الطراز الروماني الذي يحتضن ليالي المهرجان، تتجدَّد الدعوة لاكتشاف عوالم من الموسيقى والمسرح والرقص، في مزيج فريد يعكس روح التجديد والأصالة التي تميز هذا الحدث الفني العريق ..
ـ وفي ثالث ليالي المهرجان كانت السهرة من جزئين: الجزء الأول مغربي لـ«هند النعيرة» وفرقتها التقليدية، والجزء الثاني للجزائرية «جازية ساطور» والفرقة المصاحبة التي تقدم أنماطًا موسيقية معاصرة مثل «التريب هوب» والإلكترو.
وفي ملاحظة أولية على كامل الحفل بجزئيه «المنفصلين» كلٍّ على حدة، لا بد من الإشارة إلى أن الحفل بكامله، حتى لو كان في إطار التعاون الفني كما ذكر البعض، أقلُّ كثيرًا من مستوى مهرجان الحمامات، وهو مهرجان نوعي عريق لا بد من التدقيق لكي يكون كل ما يُعرَض على خشبته يليق باسمه العريق الكبير.

ـ هند النعيرة .. النسوية وحدها لا تكفي:
حفاوة كبيرة أبداهــا البعض بـ«هند النعيرة» لكونها ثاني امرأة تعزف على آلة «الڨبري» في المغرب وتقتحم عالم فن «الڨناوة» التراثي، مما يشجع النساء على خوض غمار هذا الفن التراثي الروحي، بل أسرف البعض في مغالاته في ربط متعسِّف بين جزئي الحفل لمجرد أن الرابط فيه أن في واجهته سيدتين رغم التباين التام والبون الشاسع بين كل ما تقدمانه على الصعيد الفني ..
ولا يكفي بطبيعة الحال عزف «هند النعيرة» على آلة «الڨبري» مع بعض المصاحبة لرقص «الڨناوة» التراثي أحيانًا، ولمن يعرف أو شاهد فن «الڨناوة» الأصلي سيدرك على الفور أن ما قدمته «هند النعيرة» وفرقتها هو نزر يسير متواضع وقشري من فن «الڨناوة» المميز والثري، كما وقع العرض في فخ الرتابة إلى حد «المونوتونية» في الإنشاد إذ لم يُراعِ التنوع في اختياراته، وبالنسبة للخامة الصوتية لـ«هند النعيرة» وفرقتها فقد كان أداؤهم عاديًّا ليس فيه ما يلفت، وينطبق ذلك على العزف أيضًا ..

مانيڤستو .. جازية ساطور:
لم يسبق للفنانين الكبار أن قدموا قبل عمل فني «بسطة» أو تنظيرًا أو فذلكة تاريخية أو معاصرة عن العمل، بمعنى أن العظيمة «فيروز» على سبيل المثال لا الحصر لم تقم بعمل مقدمة تنظيرية عن فلسطين حول رائعتها «زهرة المدائن» أو عملها البديع «مريت بالشوارع»، وإذا تجاوزنا التنظير حول القضية الفلسطينية بما أنها القضية المركزية ومتفق عليها في العالم العربي ..، فلا يمكن تجاوز المقدمة التي ساقتها «جازية ساطور» مرتين فيما أذكر حول قضايا المهاجرين ومناصرتهم، وهي قضية محل جدل وفيها قولان .. خاصة بين الجمهور في البلد المضيف، وهو ما يمكن القول إنه أمر يفتقر إلى اللياقة اللازمة لفنان يُفترض أن لا يقدم على خشبة المسرح إلا منتَجه الفني الذي يعبر عنه وتحيَّة الجمهور .. ،
وليس من المجدي في ملّتي واعتقادي أن يُستبق تقديم عمل فني بمذكرة تفسيرية للعمل، اللهم إلا إذا كان صُنّاع العمل يستشعرون قصورًا ما في عملهم الفني يعوّضونه من خلال تفسير يُبخس من قيمة العمل شكلًا وموضوعًا ..
– والحق أقول لكم إن «جازية ساطور» صوت محدود للغاية يمتلك القليل من الجماليات المطلوبة، وهي تدرك ذلك بذكاء لذا فهي تعوِّض ذلك بمعادل حركي نشيط يسترعي قدرًا من انتباه الجمهور، ولا أدعي الاطلاع على كامل إنتاجها الفني إلا من خلال الميديا .. لكن في أغلب الظن كان ما قدمته هو محتوى ألبومها «أصوات» مع عملين أو ثلاثة حديثة نسبيًّا ..

★ نايكا الرائعة المتألقة:
العشرينية «ڤيكتوريا نايكا ريتشارد» الشهيرة بـ«نايكا» الفرنسية الهايتية الأمريكية، مغنية البوب التي تفضِّل الغناء حافية القدمين، صوت جميل قادر على أداء فن البوب والفنون المعاصرة بألوانها، مع تميز صوتها بأنه باعث على البهجة مدغدغًا للعواطف. «Sold out» هذا هو التعبير الذي سمعه الجميع مسبقًا قبل الذهاب لحفل «نايكا» في اليوم الرابع من أيام مهرجان الحمامات الدولي، كان المسرح مكتظًّا قبل حوالي ساعتين من بدء حفل «نايكا»، ولا يمكن وصف التفاعل المذهل من الجمهور مع أدائها الجميل المبهج في حفل يليق باسم مهرجان الحمامات الدولي. وفي نهاية الحفل الناجح جدًّا لم يكن لدى الجمهور رغبة في مغادرة المسرح .. فعلاوة على أن الحفل كان لمدة ساعة فقط، أي إنه أقصر بساعة تقريبًا عما اعتاده جمهور الحمامات، إلا أن هذه الساعة قد مرَّت وكأنها دقائق قليلة نظرًا لجمال صوت وأداء «نايكا» وقدرتها المميزة على التفاعل مع الجمهور وبث البهجة لديه وفي جنبات مسرح الحمامات المميز