

في حضرة القناع، لا يعود الوجه كما كان. يتلاشى كأنه أثر قديم يكشف عن باطن مجهول، أو روح عبرت ولم تغادر، أو زمن حاول أن يختبئ فينا ولم نعرف كيف نحتفظ به. هذا ما يفعله النحات السوداني عجيب يوسف. ينحت حضور الوجوه كما ينحت الغياب، يصوغ ملامحا ويستحضر أرواحا. كأنما الأقنعة التي يبدعها هي نتاج حكايات مملوءة بالذكريات والنسيان.
لم يكن الطريق إلى الفن معبّدًا أمام عجيب. لكنه، كمن يحرث في الجمر بأصابعه، شقّ طريقه بصبرٍ وعنادٍ نبيل. حلمه كان حاضرا وثابتا كنجمة الشمال: كلية الفنون الجميلة بجامعة السودان. ومن قبلها، كانت البداية في قصر الشباب والأطفال بأم درمان، هناك حيث اختلطت اليفاعة بالخيال، والطين بالاحتمال، وهناك بدأ يتعلم أن الخامة هي وسيلة للإصغاء إلى ما لا يُقال.
أقنعة عجيب تُرى وتُقرأ. وجوهٌ بملامح غير مكتملة، أنوف طويلة كأنها قرون استشعار، أعين محفورة صنعت لتنظر وتشهد. في بعض الأقنعة ما يُشبه الطبل، وفي بعضها الآخر قرون، أو زخارف كأنها ضفائر منسية في ذاكرة امرأة نوبية.
أعمال عجيب كأنها كائنات مسرحية تستعد للدخول في طقسٍ قديم، أو غناء في ليلٍ شعائريّ بلا مشاهدين.
في الثقافة السودانية، كما في عموم إفريقيا، يُصنع القناع للاستحضار. هو غطاءً للوجه وبوابة للعبور، أداة لتحويل الجسد إلى وسيط بين العالم المرئي والعالم المستور. القناع هناك يُستدعى في لحظات الميلاد والموت، في الخصوبة والمطر، في الرقص والعزاء. إنه كائنٌ حيّ، تُنفخ فيه روح، ويتكلم باسم مَن لم يعودوا بيننا. وحين يمسك عجيب يوسف بالأداة، ينحت لا ما كان، بل ما يمكن أن يكون، أو ما تمنّى أن يكون. ينقذ القناع من وظيفته الطقسية، ويمنحه حياة مستقلة، شخصيةً لها حنينها وزمنها، كما لو كان لكل قناع سيرته الذاتية.
ولعل ما يفعله عجيب يوسف اليوم، هو استكمالٌ لذلك الأثر البائن الذي تركته الأقنعة الإفريقية في الفن الغربي. فحين رأى بيكاسو أقنعة الكونغو والكوت ديفوار، لم ير فيها زخارف، بل ثورة بصرية غيّرت فهمه للوجه، وحررته من مركزية المنظور الأوروبي. تلك الأقنعة التي هزّت جذور الحداثة الأوروبية، تعود هنا على يد نحات سوداني، ليعيد توجيه البوصلة نحو الجذور. وكأن ما بدأه بيكاسو كدهشة بصرية، يُكمله عجيب يوسف كصوت من الداخل، من رحم التجربة ومن عمق الانبهار.
في أقنعة عجيب، نجد محاولة لإرضاء العين ومساءلة الروح. وجوه لا تشبه أحدًا، لكنها تشبهنا جميعًا في لحظات صمتنا، أو حين نغضّ البصر عن أنفسنا ونحن ننظر في مرآة. ثمة خشوع صوفي، وألم إفريقي نازف، وحلم نوبي عتيق ينبض في كل خط، وكل تجويف، وكل ظل.
عجيب ينحت ويسائل الهوية وهي ترتدي قناعها، ويسائل الفن وهو يتخفى في الطقس، ويسائل الإنسان حين يقف أمام ذاته ويكتشف أن وجهه الحقيقي قد لا يكون وجهه، بل القناع الذي كان يظنه زيفًا.
كمال هاشم
أغسطس 2025