جاليري

لوسيان فرويد، يرسم الزمن بعبقرية على وجوه شخوصه

مقال الأسبوع: باريس – عبد الرازق عكاشة

أحد رواد المدرسة الواقعية الجديدة وأكثرهم إثارة للجدل وتأثيرًا.
عاش فرويد بمنزله في العاصمة الإنجليزية لندن 88 عامًا، قضى أكثر من 50 عامًا منها في رسم الوجوه الشخصية والأجساد غير المستقرة على حالة جمالية، وربما لم يلجأ إلى فكرة الجمال أصلًا؛ لأنه كان محللًا للشخصيات المرسومة واقعيًا في الربط بين الحالة والرسم. أشخاصه، التي تبدو عليها دائمًا ملامح القلق والاضطراب، هي مرهقة جدًا، مدهشة، غريبة الأطوار، ممتلئة أحيانًا، عامرة بالألوان ومعشقة، تمزج بين كل هذا وذاك كثافات لونية وطبقات تعري نفسية الموديل أكثر مما تستره أو ترسم جمالًا مزيفًا. العمل عنده عامر بالحساسية والمشقة في الرسم، لكنه سهل الاكتشاف لوجدان الجالس أمامه، عبقري في اللون، وعازف متفوق له خصوصية لا يعرفها الكثيرون من المبدعين، جاد في فنه، وفنه أكثر جدية، واقعي حد الألم ورصد الوجع.
صحن ألوانه (بالِتة اللون) له سحر خاص وجاذبية لا يعرف سرها إلا هو، متمرد واعٍ، لم يلجأ إلى التجريد، إنما ركن إلى التجديد كأحد أبرز فناني الواقعية الجديدة، واقعية ليست سحرية فحسب، لكنها واقعية الوجع والألم والمشاعر المتدفقة في كتل لونية وجمل معطرة برائحة زيت الرسم التي نشمها ونحن نشاهد أعماله الذكية.

يوم وفاته، أمريكا تقطع الأخبار وتذيع النبأ
خرجت المتحدثة باسم أعماله في أمريكا، تعلن للعالم وفاة حفيد عالم النفس الأشهر في القرن العشرين، فرويد، وأن سبب الوفاة هو المرض، إلا أنها لم تفصح عن أي تفاصيل أخرى.

انتقل لوسيان فرويد ليعيش في لندن وهو في سن العاشرة، إذ تركت العائلة برلين بعد وصول هتلر إلى السلطة في ألمانيا عام 1933. ظل يعيش في لندن، العاصمة الإنجليزية، إلى يوم وفاته. اعتبره بعض النقاد أعظم فناني بريطانيا الأحياء، وقالوا إنه يشبه كوكوشكا الألماني العبقري الذي رافق كليمت وإيجون شيلي، والجد فرويد، في تعميق ثقافة الإمبراطورية النمساوية سابقًا في العشرينات.

عام 2008 بيعت لوحته من الحجم الكبير، ووضع عنوانًا فلسفيًا أو مثيرًا للجدل «مديرة في مركز للعاطلين عن العمل»، ورسم السيدة المديرة عارية في سخرية ودراما وبناء تقني جديد، وبِيعَت اللوحة برقم كبير – 17.2 مليون جنيه إسترليني (33.6 مليون دولار) – وباعتها دار «كريستيز» الشهيرة في نيويورك. البعض قال إن صاحبة اللوحة هي زوجته أصلًا، لأنه اعتاد استخدام أفراد العائلة كموديل. أما لوحته المرسومة على ورق «ولد على الكنبة» فبيعت بمليون ونصف المليون جنيه إسترليني (2.5 مليون دولار)، وكان رقمًا قياسيًا للوحة على الورق تبيعها دار «سوذبيز» في لندن.

وبعد أن بيعت اللوحة أصبحت الصحافة تلاحقها وتريد أن تعرف هوية الشخصيات، وتريد أيضًا التعرف على شخصية فرويد من خلالها. المدهش أن لوسيان فرويد رسم بورتريهات أخرى لأشخاص متقدمين في السن، إذ يحاول أن يبين ليس فقط التدهور الطبيعي للجسد، لكن أيضًا أسوأ حالاته ولحظاته. يرسم الزمن بعبقرية على وجوه شخوصه على أساس فلسفي وبناء جمالي آخر لفكرة الزمن وتأثيره في البشر، متناقضًا مع المشروع الجمالي التزييني في رسم الشخوص المتعارف عليه عند الفنانين.

عاشق الوجع والمصارعة، غريب الأطوار
كان الفنان لوسيان فرويد عنيدًا، مصارعًا، وتبدو ضربات اللون عنده عنيفة أحيانًا بحجم وجعه واضطرابه النفسي. يُروى عنه أنه كان حاد المزاج، ودخل في عراك بالأيدي مع كثير من الناس، يحب الوجع، لديه شهوة البحث عن الألم، يستفز العناصر الدرامية في البشر كي يرسمها.

وسُئل عن أسباب ذلك، فقال إنه يعشق العراك بالأيدي، يحب الملاكمة والضرب: «عندما يقول لي شخص شيئًا لا يعجبني، فإنني أشعر برغبة جامحة لأسدد له ضربة قوية في الوجه». فهناك أناس لا تفهم إلا بقوة المطرقة، وأنا أحب دائمًا مشاهدة الوجه الآخر لشخص موجوع.

هناك حكاية شهيرة عن هذا الفنان الشرس، الذي يجعل سلوكه أحيانًا عصيًا على فهم شخصيته كفنان. الحكاية أنه دخل في جدال مع صاحب مركز للسيارات الأجرة في لندن بعدما أوصله الرجل إلى مرسمه في منطقة هولاند بارك، فسبه فرويد عن عمد، وبدلًا من شكره، قام الأخير بتسديد ضربة إلى وجه لوسيان فرويد أصابت عينه، مما جعلها والمنطقة المحيطة بها تنتفخ وتسود.

بسرعة، اتجه الفنان إلى مرسمه، وكان هناك شخص ينتظره ليقوم برسمه، فطلب منه فرويد أن ينتظر دوره لأنه يريد أن يرسم نفسه وهو في هذه الحالة: «إنها فرصة لا تعوض. انظر إلى عيني، فإن الجرح ما زال طريًا، إنها فرصة لا تعوض لأرسم نفسي وأنا في هذه الحالة». رفض الذهاب إلى المستشفى للعلاج، لأنه اعتبر حالته المريضة مصدر إلهام فني لأعمال جديدة. ليس مهمًا العلاج، المهم التعمق ورسم الوجع ليكون بورتريه مختلف، حالة جنونية جديدة توازي حالة فان جوخ.

ذاعت شهرته، وطلبت ملكة إنجلترا أن يرسمها. جلست أمامه الملكة، فلم يساوم لوسيان فرويد على أسلوبه في الإبداع الفني، ورسمها كما رآها فعلًا، في مظهرها الخارجي وعلامات الزمن ووجع العمر، رسمها وخلفها سنوات ذهبت، رغم وجود التاج على رأسها، ليعكس أسلوبه التحليلي مزاجها، مما صدم الملكة.

هذه اللوحة سببت الكثير من الجدل، وأصابت الجميع بصدمة حقيقية، إلا أنها أصبحت من المجموعة الفنية الخاصة بالملكة، التي أحبتها وحدها، بينما رفضها من حولها. انقسم النقاد حول العمل، وقيل إنها كانت حزينة لأن أحد كلابها أصيب بجلطة قلبية، وقال البعض إن الرسم غيّر من الطريقة المعهودة التي كان يحاول الفنانون فيها إظهار الملوك والملكات بشكل تزييني جمالي بحت.

منحت الملكة لوسيان فرويد «وسام الجدارة» البريطاني عن مجمل أعماله وإنجازاته، وهذا الوسام يخصص لأشخاص بسبب إنجازاتهم في الفنون والآداب والعلوم. ومن المشاهير الذين جلسوا أمام لوسيان فرويد العارضة الشهيرة كيت موس، واختار أن يرسمها عارية وهي حامل. بورتريه زوجة فرويد الأولى يعتبر من أفضل أعماله. وقد دام زواجه الأول من كاثلين غارمان أربع سنوات (1948–1952)، وأنجب منها ابنتين، ثم تزوج من كارولين بلاكوود عام 1953 وانتهى الزواج عام 1957. وهو أب لعدد من الأطفال بسبب علاقاته المتعددة، لكنه رسميًا له ابنتان من زوجته الأولى.

أسلوب فرويد مختلف، غريب، يجذبك ويصدمك في وقت واحد، يحرك العاطفة التي لم تعرفها ولم تسكنك من قبل. والسؤال: هل تتعاطف مع الموديل أم مع صراع الفنان الداخلي؟ إنه غريب، ملون، بارع، يسعى لتحوير الشكل، وفي الوقت ذاته يعتبره النقاد ابنًا شرعيًا للواقعية الجديدة، رغم غرابة أسلوبه، إلا أن فرشاته لها جمالية خاصة، لغة متفردة، وشجاعة في وضع قواعد مؤسسة لعمل فني. هناك أشخاص تخاف من أشكاله، وهناك أطفال يضحكون، وهناك كبار يعشقون، لكنه يظل الأفضل في عالم الواقعية الجديدة. إنه حفيد فرويد الفيلسوف، لكنه فنيًا حفيد فان جوخ، وكوكوشكا، وفرانسيس بيكون.

باريس – عبد الرازق عكاشة


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى