
في فضاء لوحات رأفت عمر، تتفتح الحياة السودانية كقصيدة مشبعة بالألوان، حيث تنسج الجموع والشخوص خيوط حضورها في انسيابٍ يأسر العين ويوقظ الحواس. الألوان هنا ليست مجرد طبقات زيتية، بل طاقة مشتعلة تفيض بالحركة والدهشة؛ الأحمر يتوهج بحرارته، والأصفر يبعث دفئه، فيما يذوب الأزرق في الأخضر ليخلق نسيجاً بصرياً تتدفق منه نغمات الشارع وهمس العلاقات الإنسانية.
لا حدود صارمة بين الأجساد والوجوه؛ فهي تتشكّل من المساحات الملونة كأنها ولدت من رحمها، حيث يتوارى التفصيل أمام عظمة الجماعة، ويعلو صوت الروح الجمعية على ضجيج الفرد. بهذا الانحياز الجمالي، يكتب رأفت عمر سيرة الإنسان السوداني بلغة اللون، مستدعياً طقوس المواسم وبهجة الأسواق وحميمية اللقاءات في مشاهد احتفالية لا تعيد إنتاج الماضي فحسب، بل تحتفي بالحاضر بكل توتراته وانفعالاته.
يقف المتأمل أمام هذه الأعمال ليجد صدق الإحساس وقدرة التعبير وقد تماهت مع مهارة تقنية متقنة؛ فالزيت عند رأفت عمر ليس وسيطاً تقليدياً، بل أداة للإيحاء الرمزي وتفجير الانفعال البصري. إنه ينسج عبره حواراً خفياً بين العين واللوحة، حيث تتلاشى الخطوط وتذوب الظلال في الضوء ليكتمل نص سردي بصري، تتقاطع فيه رحلة الفرد مع نبض الجماعة.
وحين كان الفنان رئيساً لقسم التلوين بكلية الفنون الجميلة بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، كان مشهد مكتبه محفوراً في ذاكرة طلابه: مكتب صغير عند ركن استوديو السنة النهائية، تتناثر عليه أوراق وألوان، ويغمره ضوء صامت. هناك كان يمارس مهامه الإدارية بهدوء، ثم يستسلم لشغف الرسم أمام لوحاته الزيتية المنتصبة على الحامل قربه، كأنها شركاء صامتون في طقوس يومه.
في عالم رأفت عمر، تنمو التفاصيل كالبذور في تربة خصبة من اللون، تستدعي الذاكرة الجمعية وتفيض بالدفء الإنساني، رافعةً من قيمة البساطة وقوة الانتماء. لوحاته لا تكتفي بأن تكون صوراً، بل تتحول إلى أعياد تشكيلية تحتفي بالإنسان ومكانه، وتعيد للوجدان إيقاعه الأصيل.
كمال هاشم
21 اغسطس 2025