أحداثجاليري

الأسطورة والحكايات الشعبية: مقاربة نقدية لأعمال محمد عرابي وعادل كبيدة (2/4)

بقلم الناقد والفنان كمال هاشم

✦ الجزء الثاني: عادل كبيدة – بين الأسطورة والطقس

تجربة عادل كبيدة هي مشروع متكامل يستنطق الذاكرة الروحية والجمعية للسودان. منذ بداياته الأولى، بدا الفنان مسكونًا بفكرة أن التراث ليس ماضيًا جامدًا، بل طاقة متجددة يمكن أن تفتح أبواب المستقبل. ومن هنا، انشغل بالحرف العربي والرمز الإفريقي والملامح الشعبية بوصفها علامات مشحونة بالمعنى، قادرة على أن تُعيد بناء علاقة مع الذاكرة الجمعية.
يبدو واضحًا في أعمال كبيدة أن ثمة ازدواجية في اللغة البصرية: فمن ناحية، ثمة نزعة تجريدية تجعل اللوحة أقرب إلى فضاء روحي مفتوح؛ ومن ناحية أخرى، هناك حضور لوجوه غامضة، وعلامات تشبه النقوش الطلسمية، وألوان توحي بالطقس الصوفي. هذه الازدواجية تكشف أن الفنان لا يرسم الطبيعة كما هي، بل يخلق عالمًا أسطوريًا موازياً لها.
في إحدى لوحاته المرفقة، نرى تكوينًا بصريًا تتداخل فيه الوجوه مع الحروف والخطوط الدائرية. الألوان ترابية، مائلة إلى البني الداكن والأحمر القاني، وكأنها مستلة من طمي النيل أو من جدران قديمة مسكونة بالأسرار. الوجوه هنا ليست ملامح فردية، بل أشبه بأقنعة، أو بوجوه أرواح تحضر في طقس جماعي. إننا بإزاء لوحة ليست للتأمل الجمالي فقط، بل للشعور بأننا دخلنا مجلس ذكر صوفي أو طقس استدعاء للأرواح.
وفي لوحة اخرى، نلمح حضورًا أكثر وضوحًا للحرف العربي. لكن هذا الحرف لا يُستخدم كأداة للقراءة أو للتزيين الخطي، بل ككتلة تشكيلية تحمل قيمة بصرية مستقلة. يُعاد توزيع الحروف في اللوحة حتى تتحول إلى أشكال شبه أسطورية، أشبه بالتمائم التي يحملها الناس للحماية، أو بالنقوش المحفورة على جدران قديمة. وهكذا، يغدو الحرف جسرًا بين المقدّس واليومي، بين اللغة المكتوبة والأسطورة الشفاهية.
إن قراءة أعمال كبيدة تستدعي بالضرورة استحضار الذاكرة السودانية الغنية بالأساطير الشعبية. فالحكايات عن الأرواح والجن والشيوخ الأولياء ليست غريبة عن المخيلة السودانية، بل هي جزء من نسيجها اليومي. ومن هنا، نجد أن لوحات كبيدة تستعيد هذا الإرث لا بوصفه موضوعًا للعرض، بل باعتباره بنية داخلية في التشكيل. كل خط مرسوم، وكل لون مطروح، يحمل أثر الحكاية الشعبية وصدًى للأسطورة القديمة.
ولا يغيب البعد الصوفي عن تجربته. فكما أن الذكر الصوفي يقوم على التكرار والتصعيد الإيقاعي للوصول إلى لحظة الكشف، كذلك لوحات كبيدة تقوم على التكرار البصري للرموز، وعلى تصعيد اللون والخط إلى حد يجعل المتلقي يشعر بأن اللوحة ليست ساكنة، بل نابضة بطاقة روحية. إنه يحول المسطح التشكيلي إلى مقام روحاني يتجاوز الإطار المادي للوحة.
من هنا، يمكن القول إن كبيدة يعيد صياغة الأسطورة لا من خلال سردها أو تصويرها بشكل مباشر، بل من خلال إنتاج فضاء بصري مشحون بها. لوحاته ليست مرآة للحكاية الشعبية، بل إعادة خلق لها في سياق جديد، حيث تتجاور العلامة التراثية مع الحس التجريدي الحديث.
وبذلك، فإن أعمال عادل كبيدة تشكل نموذجًا واضحًا على كيف يمكن للفنان السوداني أن يحاور الأسطورة الشعبية، والرمز الصوفي، والحرف العربي، في آن واحد، ليخلق خطابًا تشكيليًا فريدًا يمزج بين المحلي والكوني، بين المادي والروحي، بين الأسطورة والحداثة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى