
رؤية نقدية بقلم د. حسين عبد البصير
تأخذنا رواية “شركة إعانة المجاريح” للكاتبة المبدعة منى خليل، الصادرة عن دار “إشراقة” في القاهرة، في رحلة زمنية استثنائية، حيث يلتقي التاريخ بالخيال في سرد متقن يجمع بين الغموض والإثارة والتأمل العميق في التجربة الإنسانية. الرواية تقدم نافذة فريدة لاستكشاف فترات محورية من القرن العشرين، إذ تتناول فترتين زمنيتين متباعدتين، وتغطي أحداثًا هزّت العالم، مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وباء الإنفلونزا الإسبانية، وثورة 1919، مع تسليط الضوء على الدور الإنساني للمؤسسات كالهلال الأحمر، الذي كان له أثر بالغ في التخفيف من معاناة البشر خلال الأزمات والكوارث، وهو جانب تاريخي لم يكن معروفًا على نطاق واسع للجمهور.

أحد أبرز عناصر قوة الرواية هو قدرة الكاتبة على دمج الشخصيات التاريخية الحقيقية ضمن سياق قصصي مشوق، بحيث تصبح جزءًا من الأحداث الإنسانية والخيالية معًا. فالشخصيات مثل الأمير عمر طوسون، والشيخ علي يوسف، والدكتور شخاشيري، والطبيب السويسري إدوارد جون وابنته ملك، لا تظهر كرموز تاريخية جامدة، بل كأفراد يعيشون لحظات إنسانية مليئة بالتحديات والصراعات، يواجهونها بشجاعة وتفانٍ، بما يعكس تفاعل الإنسان مع الظروف التاريخية والاقتصادية والاجتماعية في زمنه. هذا المزج بين الواقع والخيال ليس مجرد حشو سردي، بل بناء سردي مدروس يمنح الرواية عمقًا وثراء، ويتيح للقارئ نافذة حية لفهم أحداث ومواقف شكلت هوية الأمة، مع التركيز على الجوانب الإنسانية والاجتماعية لتلك الفترات، بعيدًا عن النمطية أو التوثيق الجامد.
تطرح الرواية موضوعات حساسة ومعقدة مثل آثار الحروب والأوبئة على المجتمعات، ودور المؤسسات الإنسانية في تقديم الدعم للمتضررين. تقدم منى خليل هذه القضايا بطريقة تجعل القارئ يلمس كيف تتقاطع الإنسانية مع السياسة والإدارة والظروف الاجتماعية، وكيف يمكن للأفعال الفردية والجماعية أن تحدث فرقًا حقيقيًا في حياة الناس. كما تعكس الرواية العلاقة العميقة بين الفرد وتاريخه وهويته، فتخلق شعورًا بالانتماء للزمان والمكان، وتدفع القارئ إلى إعادة التفكير في جذور مجتمعه وتاريخه الثقافي والاجتماعي.
اللغة السردية في الرواية ساحرة وواضحة، تجمع بين الجمال الأدبي والسهولة في الفهم، ما يجعل القارئ يغوص في تفاصيلها التاريخية والمعنوية دون ملل أو تعقيد. الوصف الدقيق للأماكن والأحداث، والنقل المتقن لمشاعر الشخصيات، يمنح القارئ إحساسًا بالعيش في قلب الحدث، من البيوت والمستشفيات الميدانية إلى ساحات الثورة وحلبات الصراع الاجتماعي. كما يعزز الانتقال الزمني بين الحقب المختلفة عنصر التشويق، ويجعل القارئ يترقب كيف تتشابك الشخصيات والأحداث عبر الزمن، وكيف يمكن لموقف واحد أو قرار صغير أن يترك أثراً كبيراً في مسار التاريخ الإنساني والاجتماعي.
الرواية تمنح مساحة واسعة للخيال الإبداعي، خصوصًا في تصوير العلاقات الإنسانية، وأحداث خلف الكواليس، والحياة اليومية التي عاشها الناس في تلك الفترات. تجيد منى خليل رسم تفاصيل الحياة الإنسانية البسيطة والمعقدة في آن واحد، من التضحيات اليومية إلى القرارات المصيرية التي يضطر الأفراد لاتخاذها تحت وطأة الحرب أو الأوبئة أو الصراعات الاجتماعية. يجعل هذا التوازن بين الواقع والخيال الرواية أكثر من مجرد سرد توثيقي؛ إنها تجربة قراءة حية، تجمع بين المتعة والمعرفة، وتسمح للقارئ باستشعار روح الحقبة الإنسانية بكل تفاصيلها، من صراعات ومحن وانتصارات صغيرة وكبيرة.

يشكل تسليط الضوء على النبل الإنساني والروح التضامنية للهلال الأحمر أحد أعمدة الرواية الرئيسة، حيث يظهر العمل الإنساني كعنصر أساسي للحفاظ على كرامة الإنسان وحمايته رغم الظروف القاسية. تُظهر الرواية أن المؤسسات الإنسانية ليست مجرد منظمات رسمية، بل شبكة من العلاقات الإنسانية والتفاني والإخلاص، وهي التي تحافظ على أمل الناس في مواجهة المآسي. كما تكشف الرواية عن الصراعات الداخلية التي تواجه الأفراد والمؤسسات، وما يتطلبه الأمر من شجاعة وإخلاص وتفاني لإحداث فرق حقيقي في حياة الناس والمجتمع، وهو ما يجعل الرواية ذات بعد تعليمي وثقافي بجانب قيمتها الأدبية.
من أبرز عناصر القوة في الرواية هو رسم الشخصيات بعمق نفسي واجتماعي. الشخصيات ليست مجرد وسيلة للسرد التاريخي، بل لها حياة داخلية مليئة بالتناقضات والمصاعب، وتجسد التحديات التي واجهها الأفراد خلال تلك الفترات. على سبيل المثال، شخصية الأمير عمر طوسون تظهر كشخصية قيادية تواجه تحديات سياسية واجتماعية، وتوازن بين الواجب الوطني والإنساني. في المقابل، شخصية الطبيب السويسري إدوارد جون وابنته ملك تضيف بعدًا إنسانيًا دوليًا، حيث توضح كيف يمكن للتضامن العالمي أن يساهم في دعم المجتمعات المتضررة، وتبرز الروح الإنسانية المشتركة بين الثقافات.
كما تلتقط الرواية التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية، مثل طرق التعامل مع المرضى والمصابين، والجهود الإنسانية المبذولة في ظل الظروف القاسية، مما يضيف بعدًا إنسانيًا يجعل القارئ يشعر بأنه يشارك في الأحداث. يعكس استخدام الكاتبة للمواقف اليومية الصغيرة – كإعطاء الدواء لمريض أو التخفيف عن جريح –مدى الاهتمام بالجانب النفسي والمعنوي للإنسان، ويبرز كيف يمكن للأفعال البسيطة أن تحمل رسائل كبيرة من التضامن والرحمة.
تقدم الرواية أيضًا تحليلًا اجتماعيًا دقيقًا لمرحلة ما بعد الأوبئة والحروب، وكيفية تأثيرها على هيكل المجتمع والعلاقات بين الأفراد. فهي لا تكتفي بسرد الأحداث التاريخية، بل تقدم رؤية فلسفية وإنسانية للعواقب النفسية والاجتماعية، وتوضح كيف أن الأزمات تكشف عمق العلاقات الإنسانية وقدرة المجتمع على التعافي والصمود.
“شركة إعانة المجاريح” ليست مجرد رواية تاريخية، بل رحلة إلى قلب الإنسانية، حيث تتقاطع المعرفة التاريخية مع الخيال الإبداعي لتفتح أمام القارئ نافذة لفهم تاريخه وهويته بطريقة مشوقة ومؤثرة. إنها دعوة للتفكير في دور الفرد والمجتمع في مواجهة التحديات، وإدراك قيمة التضامن والرحمة الإنسانية. تستحق الرواية القراءة، خاصة للشباب والمهتمين بالأدب الذي يعيد اكتشاف مآثر الماضي ويقدمها برؤية جديدة، لتجعل القارئ جزءًا من قصة الإنسانية الكبرى التي تتجاوز الزمان والمكان، وتظل حية في الذاكرة والوجدان.
باختصار، تقدم الكاتبة المبدعة منى خليل في هذه الرواية نموذجًا فريدًا للأدب التاريخي-الإنساني، حيث لا تقتصر القيمة على معرفة الأحداث التاريخية، بل تمتد لتشمل التجربة الإنسانية بكل أبعادها، من الألم والمعاناة إلى الأمل والشجاعة والتضامن. إن “شركة إعانة المجاريح” تمثل جسرًا بين الماضي والحاضر، بين المعرفة والخيال، وبين التاريخ والإنسانية، لتبقى تجربة قراءة غنية ومؤثرة لأي قارئ يسعى لاستكشاف أعماق التاريخ البشري بروح معاصرة وفكر متفتح.