أحداثجاليري

بين الإنسانية والهوية … معرضي القادم

باريس - عبد الرازق عكاشة

منذ لحظة التكوين الأولى، وُضع الفنانون أمام اختيارات صعبة تتعلق بالهوية، وكأنها قائمة بمعزل عن جوهر الإنسانية.
في تلك المراحل المبكرة، صدّقنا ما تلقيناه من تعاليم أولى ومعتقدات ودروس،

خاصة وأن الحراك الثقافي من حولنا كان يتحدث بنفس اللغة، ويعزف على نفس الوتر.

عبد الرازق عكاشة. باريس في بداية الرحلة

لكن تأتي تجربتي في باريس، في مرسم أستاذي الكبير “برو رينوار”، حفيد رينوار، لتكشف لي أن تلك المفاهيم لم تكن سوى قوالب مغلقة تحتاج إلى إعادة تفكيك وفهم.
من هنا بدأت أفكر وأبحث بجدية حتى أدركت أن الإنسانية هي الأصل، وهي الوعاء الذي تُبنى داخله الهوية، وأن القيم الإنسانية هي التي تمنح اللون والشكل والمضمون روحهما للمبدعين، وذلك قبل أن تُترجم لاحقًا إلى هوية بصرية يوظفها كل شعب حسب معتقداته وخصوصيته.

بين الإنسانية والهوية معرضي القادم ١٤-٩ جاليري بيكاسو

فالإنسانية هي الفضاء الرحب الذي يتيح للمبدع تجاوز الخطوط الضيقة، ويوسّع دوائر الرؤية النفسية والفلسفية لعقلٍ ووجدانٍ قادرين على استيعاب كل الديانات والأفكار، طالما أنها لا تتعارض مع الحرية المنضبطة، وترفض القتل أو اغتصاب الحقوق أو استعمار البلاد وتشريد سكانها الأصليين، أو تعريضهم لاغتصاب الأرض والعِرض والحقوق الإنسانية التي لا تُجزأ ولا تُستباح.

حين بدأت أفكر في إنسانيتي بشكل آخر خارج الصندوق، أصبحت ذاكرتي صورًا طفولية حيّة بشكل جديد ملوّن، بحكايات جدتي (آمنة أم السباع) وألوان قريتي البسيطة، وقطارها (المستعجلة) الذي كان يحمل العمال والفلاحين والطلبة وجنود الجيش من القرية إلى القاهرة.

ومع رحلاتي وأسفاري، ومعايشتي لعواصم العالم، وخاصة باريس، أدركت أن تلك الصور الأولى لم تكن مجرد ذكريات، بل بذور إنسانية نبتت من جديد في لوحاتي.

في باريس، كثيرًا ما وجدت نفسي أقف أمام شارع أقول عنه: “شارعنا” الباريسي، رغم تمسكي الكبير بجذوري وأصلي الريفي (الفلاحي). لكن لأن الشارع الفرنسي بملابس العابرين الملوّنة، وكثرة التداخل في حركة الأجساد بسحر اللون أمام حدقة العين، بدأ يذكّرني بزينة رمضان في قريتي، أو بألوان العيد التي كنا نراها أطفالًا أبرياء.

وأمام اللوحة، أبدأ الرسم على المسطح الأبيض، ثم أستيقظ فجأة متسائلًا بابتسامة: ما قيمة كل هذه المسافات التي قطعتها، ما دمت أعود دومًا إلى ما ترسّب في وجداني ومخيلتي من صور إنسانية خالصة؟

هنا فقط أيقنت أن ما قيل لنا يومًا بأن الهوية منفصلة عن الإنسانية لم يكن سوى شعارات تحاول عزل الفنان عن جوهره الحقيقي. بينما العكس تمامًا هو الصحيح: الهوية تنبثق من رحم الإنسانية، وتستمد وجودها منها.

من هنا أتمنى وأتعشم أن يأتي معرضي الجديد ثمرة المعايشة الفرنسية والدولية في عواصم العالم، ونتاج تلاحم الألوان والثقافات الإنسانية المتنوعة.
هو رفضٌ للعزلة والانغلاق داخل قوالب جاهزة أو صناديق موهومة، وانحيازٌ لفكرة أن الفن لا يزدهر إلا بالانفتاح على الآخر، وبالعودة إلى الجذور الإنسانية التي تُغذّي الهوية ولا تفصلها عنها.

باريس – القاهرة
عبد الرازق عكاشة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى