

في روايتها الصادرة عن دار غراب، تختار نهى نبيل عاصم عنوانًا مفارقًا: “في بيت المسنات الصغيرات”. المفارقة ليست لغوية فقط، بل معرفية ودلالية. فالرواية تقيم ما يشبه الحُرُم الأنثوية السردية، حيث تتحول الصداقة، والتقدم في العمر، والتجاعيد، والحنين، إلى أبطال خفيين. ليست الحكاية عن النساء فحسب، بل عن الأنوثة وهي تتقدم في الحياة بتؤدة، بلا صخب، لكن بوعي مرير ومشرق في آن.
هذا البيت ليس مأوى لكائنات منهكة كما قد يُظَن، بل مساحة مقاومة حقيقية لنسق المجتمع الذكوري، وللنسيان، وللزمن نفسه.
شخصية حياة… كيان سردي بداخل التاريخ
تُبنى الرواية حول “حياة”، أستاذة التاريخ ذات الأصول النوبية، المقيمة في حي “كوم الدكة” السكندري العتيق. ولا يبدو اختيار المهنة (أستاذة تاريخ) اعتباطيًا. بل هو تورية ذكية من الكاتبة، إذ تتحول حياة نفسها إلى أرشيف بشري متحرك، يضم أطيافًا من الذاكرة الجماعية والذاتية، ويعيد التفكير في معنى أن “تؤرّخ الحياة” عبر سرديات النساء المهمشات.
حياة ليست بطلة بالمعنى التقليدي، بل مركز جاذبية نسائي تتقاطع فيه الروايات، تتشابك عبره شخصيات أخرى مثل: هبة الله، ومنى، ورشيدة، وهاجر. وخلف كل اسم، سردية محملة بالخسارة والدهشة والبحث عن معنى الأنوثة بعد الخمسين أو في ظل الخيانة أو الفقد أو الوحدة.
السرد بوصفه بديلاً للوصاية
ما تفعله الكاتبة هنا هو تفكيك لفكرة “السرد السلطوي” الذي لطالما احتكر صوت المرأة إما للتأريخ الذكوري أو للنماذج الأيديولوجية الجاهزة. على العكس، تنهض رواية “في بيت المسنات الصغيرات” على تمجيد الحكي الجماعي العفوي غير المخطط، بما فيه من تشظيات وتقاطعات وتكرارات.
الرواية تشبه في بنائها ما يُعرف بطقوس الحكواتي الجماعي، لكن في نسخته النسائية المضمرة: لا مركز واحد، بل مراكز متحركة. لا سرد خطي، بل ذاكرة مشوشة وجمالية. لا نهاية مغلقة، بل مساحات للتأمل والفتح والتواطؤ الصامت مع القارئ.
بنية المكان… الإسكندرية بوصفها حيزًا عاطفيًا لا جغرافيًا
كوم الدكة في الرواية ليست حيًّا فقط، بل رمز طبقي ومكاني وسينمائي وثقافي. وهو ما يُعيد إنتاج مدينة الإسكندرية ليس كفضاء خارجي للأحداث، بل كـ”مخيال سردي” متغلغل في تكوين الشخصيات.
من خلال الشرفات، والقطارات، ومقاهي محطة الرمل، وأصداء البحر، تعيد الرواية تشكيل المدينة بوصفها البيت الأكبر للمسنات الصغيرات، مدينة تسمع ولا تحكم، تُخبئ لا تُدين، تترك لكل امرأة فيها حق أن تبوح بصوتها المنكسر دون خشية.
حتى الجملة الشعبية المكررة: “إيه اللي جاب القلعة جنب البحر؟” تتحول إلى تمثيل فكاهي ساخر عن مفارقات الحياة، وجدل العلاقات، والتناقضات الطبقية والاجتماعية في السياق السكندري المعقّد.
الصداقة النسائية… أداة سردية ومعرفية
في عالم يتآكل فيه مفهوم الأمان، تصنع الرواية بيتًا معنويًا من الصداقة. لا نجد في الرواية عدوًا خارجيًا واضحًا، بل العدو الأكبر هو الزمن، والنسيان، والوحدة، التقدم في العمر، خذلان الأحبة.
لكن، في مواجهة هذه التحديات، تبرز الصداقة النسائية بوصفها شبكة دعم ذاتي، وفضاء للمقاومة الهادئة. وهنا تنجح الرواية في تجاوز النمط التقليدي للعلاقات النسائية، لتؤسس ما يمكن تسميته بـ”أنثوية التضامن”، بعيدًا عن أي خطاب استعراضي.
الكتابة نفسها… عودة الجسد إلى اللغة
ما يُميز أسلوب نهى نبيل عاصم في هذا العمل هو القدرة على تطويع اللغة لتكون شديدة القرب من الجسد والتجربة. فهي لا تكتب عن النساء فقط، بل تكتب كما لو أنها تستعيد اللغة نفسها من جسدٍ أُنثوي، لا من قاموس ذكوري مستعار.
الجمل قصيرة، دافئة، متموجة. كأنها أنفاس. تحضر الحواس الخمس بقوة: رائحة الورد، وصوت النوافذ، وملمس المنديل، ولمعة فنجان القهوة… كلها إشارات سردية تتآزر لبناء عالم داخلي لا يُرى، لكنه محسوس.
من الرواية إلى مشروع كاتبة
الرواية تنتمي إلى مشروع سردي أكبر تعمل عليه الكاتبة نهى نبيل عاصم، التي أثبتت نفسها كصوت سكندري نسائي له نبرة مختلفة. هي ليست كاتبة نخبوية منعزلة، بل تنتمي إلى الميدان الثقافي فعليًا: عبر مختبرات السرد، والمشاركة المجتمعية، والكتابة الإلكترونية، والتواصل مع فئات مهمشة مثل المكفوفين.
ومن أبرز أعمالها السابقة:
• “أمل حياتي”
• “رسائل نادية”
• “يناديها روح”
• “هذا جناه الأدب على أحلام”
• بالإضافة إلى مجموعات قصصية مثل “سمية والقمر” و”هزمتني زوجتي”، وأعمال إلكترونية وأدبية للأطفال.
ما بعد القراءة… الرواية كأداة شفاء
لا تقدم هذه الرواية حلاً ولا خطابًا جاهزًا، بل دعوة للجلوس. نعم، مجرد الجلوس. مع الذات. مع الصديقات. مع فنجان من الزمن. مع الحكاية التي لم تُروَ من قبل. مع السؤال القديم: “ماذا لو حكينا بدلًا من أن نكتم؟”
ربما تكون “في بيت المسنات الصغيرات” واحدة من أهم الروايات النسائية المعاصرة في مصر، لأنها لا تكتفي بالسرد، بل تحوّل الرواية نفسها إلى بيت رمزي، يسكنه القارئ كما تسكنه بطلاته.