أحداثأدبشخصيات

جماليات الخطاب الأدبي في الفضاء العالمي

بقلم: ماريا تيريزا لوتسو  - ترجمة: أشرف أبو اليزيد

الصوت الشعري والنبوئي

ماريا تيريزا لوتسو

“الأدب هو ثورة على المألوف”… وهكذا تُجسِّد ماريا تيريزا لوتسو هذه الحكمة، بل تتجاوزها… فتحوِّل الوعي إلى فنّ، أو إلى حب.
(بيتر راسل، المُرشَّح عدة مرات لجائزة نوبل في الأدب)

 

 

الثقافة ليست مسرحًا ولا سيركًا، بل نقطة لقاء ومرجع للكلمة التي تحيا وتتنفّس وتصبح كائنًا لأنها تمتلك روحًا، تتحرك، وتكتسب جسدًا وأبعادًا. الكُلّ يمنحها سلطةً ومشاركةً وقيمة، كجنينٍ لم يُولد بعدُ لكنه موضوعٌ لحقٍّ قائم. فكلاهما، على الرغم من كونه في طور التشكّل، يسكن مستويين مختلفين، لكن بنفس الشدّة. كلاهما يخلق، ويبتهج، ويتألم، متغذّيًا من النفس ذاته، متلقّيًا الأكسجين من المصدر نفسه.

الثقافة دمٌ وحبر، فريدةٌ لا تُستبدل، وعُروة القلب والروح لا تنفصم؛ لا يخون أحدهما الآخر. إنها تعرف معنى الحياة، ودَوَريّة التفتّح الأبدي، ولها سكونٌ يتحوّل برعمةً جديدة: «لا شيء مستحيل، كل شيء ممكن». يكفي بتلةٌ من نور لتفجر بيتًا شعريًا، صورةً مدفونة في لاوعينا، تُحرَّر من عتمة الوجود، تُنتزع من عفونة الكينونة لتتحوّل إلى كمالٍ صوري، رقصٍ من الأحاسيس، وعمقٍ في الفكر واللغة.

أما العولمة، التي كَثُر الكلام عنها، فتريد محو تاريخ العالم كما يُمحى الطباشير عن السبورة، متجاهلة أن الإنسانية لحمٌ ودم. وذلك يصبّ في مصلحة القوى العُظمى، على حساب مَن يزدادون فقرًا ويُترَكون لمصيرٍ قاسٍ. فكيف يكون هذا حبًّا؟ إنه ليس إلا انعكاسًا لمصالح ضيّقة، لا لقيمٍ كونية. أوافق على ما يتعلّق بحقوق الإنسان، وأرفض فكرة الفكر الواحد. لقد خُلقنا على صورة الله (أيًّا كان اسمه، احترامًا لكل الأديان)، ولذلك نحن أسياد مطلقون على أفكارنا التي يجب أن تبقى أبديةً مصونة. نعم لحرية الفكر، ولا للإكراه.

لكلٍّ منّا طريقته في الرؤية والتفكير. قد نتساوى إنسانيًا، فنحن إخوة، أبناء هذا العالم، لكننا صُغنا وأُعددنا بعادات وتقاليد متباينة: لون البشرة، الأعراق، اللغات، المناخ، الملامح المتشابهة… لكن لا شيء منها متطابق. لو أراد خالق العالم غير ذلك، لجعلنا جنسًا واحدًا، بلغة واحدة، بلون بشرة واحد، بعينٍ أو شعرٍ متماثل، بليلٍ دائم أو نهارٍ دائم، بصيفٍ أبدي أو شتاءٍ أبدي. لكنه، بالعكس، وهبنا الفصول، البحار والأنهار والمحيطات، الغنى والفقر، الاختلاف في الطول والعينين والشَّعر. وكذلك الأمر في النباتات والحيوانات والأسماك والطيور. لقد وُلدنا مختلفين، كالتنوّع البيولوجي: لا التباس فيه، بل كمال.

لكل واحدٍ منّا اسم، وطن، حكاية، ألم أو فرح في القلب. فكيف يكون هو الآخر؟ لو اتحدنا، لكُنّا مجرد آلاتٍ مُكرَّرة. لكننا بشر، ويجب ألّا ننسى ذلك. لسنا خالدين، بل ذوو روحٍ وفرادة في تنوّعنا. اسم كلٍّ منّا هو جواز سفره وسجل حياته، درب وجوده كي يكون فريدًا، كي يكون هو نفسه، متميّزًا لا ملتبسًا كحفنة عشب.

ومع ذلك، يبدو أن كل شيء يسير نحو الارتباك. فلا ينبغي أن نفقد البوصلة: الاحترام، وحده، هو القانون الجامع. الكلمة نحلةٌ تعثر على حريتها في زهرتها، وفي قوة اللقاء.

الجميع يكتب، الجميع يُقلّد: الجزارون، حفّارو القبور، باعة السمك. يقتنصون العبارات، الأسماء، الصيحات. وكثيرون ساخطون، ناسين أولويات القيم (إن كانوا امتلكوها أصلًا). إنهم يتسلّلون كالشرّ الخفي، يتآمرون ويرتجفون كخونة على الحدود. لقد بلغنا حدّ العبث

حتى الأسوأ من ذلك، تلك العلاقة مع أناسٍ يتظاهرون بأمراضٍ لا وجود لها، مستخدمين أبشع الحِيَل المنبثقة من دناءتهم، مُسيئين بذلك إلى المرضى الحقيقيين. الغاية أن يتخلّصوا ممن يرونهم أرفع منهم شأنًا، وممّن يرثي حيل هؤلاء الدجّالين، هؤلاء الثعالب الجرباء، العجائز عديمات الضمير، المواليات للأكاذيب والمشتركات في أبشع الجرائم. هكذا نكون قد تعرّفنا إلى الجلّاد الذي يتقمّص دور الضحية.

هؤلاء النسوة أشبه برفيقاتٍ لملاحين سكارى نتنين في أقبية السفن، لعابري سبيل مغامرين لا يرون فيهنّ سوى ثِقَل هوسٍ أبديٍّ غريزيّ. هوسٌ سينهشهنّ لحظة تبدو الحياة أجمل من الحلم. أحيانًا أشعر كأنني في سيرك، حيث تتصدّر عجائز اللحظة منصّات الخطابة، مُثقلة الوجوه بالتجاعيد وأقدام الغربان، يستعدن لترويض قطيعٍ من الأغنام الضالة، تلك التي لولا عصا الراعي وكلاب الحراسة لانتهت في قاع الوادي.

ليس الأمر نشوةً في قاعة رقص، بل ليلٌ يأتي ومعه الموت، يسبق الفجر ليفاجئك المساء. أنت لست جزءًا من السرّ، بل ستبقى كجرحٍ مفتوحٍ موبوء، متشبّثًا بعفن الحروف العقيمة والجُمل المحتضرة. الشرّ لن يكون يومًا نجمًا من نجوم الحكمة الأدبية، ولا جمالًا كونيًا للأدب. كم من قُرّادٍ وغربانٍ التفّت أمعاؤهم على خواء، فلفظتهم حتى بقايا صورةٍ باهتة. ومع ذلك، يركضون جميعًا وراء عربة “الفائز”.

تعلّم أن تُقاتل، لا أن تنسخ “عرق” الذين ضحّوا ليبلغوا الهدف المستحق. وإلا فلن تكون حرًّا أبدًا، بل عبدًا لـ”الصفر” الذي تتباهى به. لا تكن عكّازًا للألم بالركوع الدائم. خاطرْ وقاتِلْ بشرف.

فكما هو معلوم، الصفر يحتاج إلى أرقام كي يخرج من غُفلته. كل ما عليك فعله هو الاستعراض لتحقيق غايتك، أن تعرض نفسك سلعةً في واجهة متجر. وكما قال القديس بيو من بيتريتشينا: “من يُظهِر نفسه يبيع نفسه”. أليست الحياة قد تحوّلت إلى سوقٍ حرّة؟ فأين الكتّاب الحقيقيون؟ أين الشعراء؟ أين القيم؟

لنسدل ستار الصمت على أولئك “الرجال الزائفين” الذين يُخدَعون بترفِ تنّورةٍ وابتسامة ضبع، فيتحوّلون دمى ويفقدون احترامهم لأنفسهم.

لكي تكتب، عليك أن تكون حرًّا، لا عبدًا لعكّازاتٍ متبادلة، لتلك الأجزاء الداكنة الطيّعة من التجمّعات الأدبية والعصابات المقنّعة. الكتابة هواءٌ، ضوء، حرية. عليك أن تُمزّق السلاسل، أن تخرج من “قوقعة” التبعية، أن تسير مع ذاتك، تحاسب ضميرك، وتستعيد هويّتك. الماضي ابن الحاضر، وهو الأب الذي يدفعنا نحو المستقبل. علينا أن نثور على الزيف، كي لا يتحوّل يومًا إلى “قوّة القانون” أو “قانون القوّة” (PB). أن نحيا، لا أن نَتخشّب؛ أن نبتعد عن ذاك الفوضى الأداتية الشيطانية للارتباط المفرط.

لسنا آلاتٍ مصنوعة على خطّ إنتاج، نحن بشر: فريدون. من واجبنا أن نعي ذلك، وأن نتحمّل مسؤولية أفكارنا؛ نحن كائنات حسّاسة ولسنا دمى. أحيانًا يكفي مشهد بحري، غروبٌ مُتّقد، خيطُ نجومٍ تحت المطر ليُدهشنا، زهرةٌ تتفتّح كرمشة عين، قوس قزح يرسم جسرًا في السماء، وفي لحظة رسمه نشهد دقائق تحوّله، كالشمس التي تفتح أصابعها فيما الموج ينتحب بين الصخور. كل شيء يزداد ثراءً بنورنا، بمعرفتنا، ويكتسب طعمًا مختلفًا، لأن النور لا يملكه إلا من يحمله ويُعطيه، دون أن يأخذه من أحد.

لكن “الأقزام”، وبالأخص “المزمارجيات” اللواتي يتصدّرن اللحظة، لَسْنَ إلا علَقًا كاملًا، حيتانًا قاتلة عطشى للدم والسلطة. ثنائيٌّ غريب من البهلوانيين المتمرّسين، يعيش فقط ليزرع المتاعب للآخرين. أمّا الحقيقة، فهي أمازون شجاعة، تُظهِر مخالبها وتقاتل كالنمر.

الحياةُ ملكٌ لمَن يمتلكها، ولا أحدَ سواه. لا يستطيع أحد أن يفكّكها ليستعملها أو يستهلكها لحسابه. نحن شخوصُ ذواتنا، أبناءُ الزمن لا كائناتٌ من نسج الخيال. وحده الحوار، ورعاية الاحترام، يفتح لنا درب السكينة الروحية ويقرّبنا من يوتوبيا السلام.

من المهم أن نُنمّي العزلة، والأحلام، والحاجات، بعد أن نصبنا مذابح الدموع. لقد شبّهونا بأوراقٍ رخيصة ليُلطّخوها ثم يمزّقوها، أرادوا الاستحواذ على وجودنا، وغالبًا ليمنحوه لغيرنا، كما تفعل بركلة كرةٍ تطيح بها، ثم ترميها وتذرّيها كقبضة من قصاصاتٍ في الهواء.

علينا ألّا نسمح لأنفسنا بأن نتأثر أو نُرهَب، بل أن نحيا حياتنا من غير أن نحاول التحكّم في حياة الآخرين. لا تنسوا أبدًا أن العالم مشتركٌ في الأكاذيب، وأن من يخون مرة، يخون دائمًا. لكن حين تدقّ الصبرُ بابنا، سيهمس لنا أنه بطيء كحلزون، يزحف في الزمن بخيطه الفضيّ.

لقد اختبرنا عواصف الحياة، منها القصير ومنها الطويل، واحتضنّا مَن طلب العزاء والفهم، ذاك الفهم ذاته الذي قد يعود يومًا، غير بعيد، ليبحث عنا. إنه يوصينا أن نكون “أذكياء كالأفاعي”، لا “ساذجين كالحمام”، من غير أن نُهمل الكلمات الرقيقة التي قد تصل إلينا مموّهة، في هيئةٍ أمومية أو أبوية. فلا أحد يستطيع خداع روحه.

حولنا جيشٌ من الثرثارين، وتُجّار الزيف، ونساء الضواحي. بعضهم يعيش كالخضروات، وآخرون كطفيليات. غير أن معجزة الشعر ـ أسمى أشكال الكتابة ـ هي ذلك الثنائي الباهر الذي يجمع بين الشغف وحلاوة الحب، كجزءٍ صغيرٍ من الأبدية.

الكتابة فضاءٌ حسّي، حيث الهوية مقدسةٌ لا تُمسّ، والبحث ملكيةٌ ثمينة للجميع، لا حكرًا على المميّزين. علينا أن نفرّ من الذين يعكّرون توازننا. فنحن الأغصان والجذع، نحن الجذور، ولن نرضى أن نجسّد ظلال كرةٍ متشابكة الخيوط. أغنية الحياة ليست رهانًا، ولا مباراة كرة قدم أو شطرنج.

علينا أن نترك الكلمات ترتاح، كالدقيق في خميرته، كصدفةٍ في الرمل. أن نكون حفيف النخيل الذي يبكي لكنه يُصالح الريح في النهاية، منغلقًا على ألمٍ لم يُدرك إلا متأخرًا، يترك الزمن كما وجده. أليست الحقائق وحدها هي التي تصف التاريخ؟

إن الحوار الثقافي والفكري يحتاج إلى درع، وإلى موسى أوكهام ليصل إلى المرفأ المرسوم ويُعزّزه. لكنه محكومٌ بالفشل حيث ينتصر الأنا بلا استحقاق، على حساب الآخرين. فمَن يُناصره لا يجني إلا الرماد.

فلنحتضن ما يُبهجنا، والأشخاص الذين يضيئون حياتنا ويُقدّمون لنا عصارة حضورهم، مبتعدين عن القبح الذي يواصل تعكير صفونا. ليست كل الأشياء قابلةً للتغيير، لكننا نحن قادرون على أن نتغيّر.

أؤمن أن قلوبنا هي جنّة عدن. هناك يجد العقل البشري قوته في حدوده، ويبني جسورًا، ومرافئ، وسماءً بلا نهاية، ليُحلّق بألمه بعيدًا عن الوصمات والسلاسل النازفة للعقل. وفي كاليودوسكوب من الصور، ينعكس الزمن الداخلي، مشدودًا دائمًا بين البحث والأمل، كخيطٍ في متاهة اللاوعي.

أليس صحيحًا أن كل شيء يولد من جديد من قلب الفوضى؟

تعلّم أن تتألّق وحدك، من غير أن ترتدي أسمال الأمل، حتى لو غدا التسوّل موضة رائجة على وسائل التواصل الاجتماعي وما وراءها. كُن كالثلج عند الغسق، حين يقبّل الوردة، وكالريح التي تنهض فجأة فتنتزع المخروط من غصن الصنوبر، وحين يسقط يلامس الوجنة.

فلنهرب، وسنهرب دومًا، من الغموض الذي تُزيّنون به أصابعكم وأذرعكم وأعناقكم وآذانكم بحُليّ زائفة، تلمع في بؤسٍ لا يوصف، كقطع زجاج تتكسّر تحت الشمس. افعلوا ذلك قبل أن يغفو الماء ويجركم النوم إلى المستنقع.

الأنبياء الكذبة يبدون كملائكة هبطوا من السماء، لكن في عروقهم يجري دم الشياطين. يتوهّمون أنهم لا يُقهَرون، وينثرون بذور الكراهية كما يُنثَر الدُخن. تراهم في كل مكان، كالقروش التي يستهويها عطر الدم. هذه الشخصيات المزيّفة ستتهاوى أمام لاعبي السيرك الذين يتأرجحون على حبل المشي الهوائي؛ فهم بهلوانيون حداثيون يبحثون عن “شهرة” موهومة. سيكونون أغصانًا تقتلعها الريح وتُلقي بها إلى التيه.

لا خطط لديهم، ولا نية للدراسة، يجهلون معنى التضحية، خاوون من الإحساس والضمير. لا يعرفون للخجل طريقًا، بل يتسوّلون الخدمات تسوّلًا، كطلب أصواتٍ في مسابقاتٍ عقيمة مرتّبة في الظل. كل ذلك من أجل حفنة “إعجابات” إضافية، تمكّن “البرانا” العابثة من خنق صفحات الآخرين بمشاركاتٍ خانقة وعلاماتٍ دوّارة لا تتوقف.

بين المهووسين بالعظمة والمتعصّبين، يزداد العالم سوءًا كلما تقدّم به العمر. صُور عالقة في كل مكان، كطوابع بريد، شبيهة بالمنقوشة على شواهد القبور. ومع كل هذه الأشباح السخيفة، مع باعة “الدخان المزيّف”، ماذا قدّموا حقًا من نتاجٍ خاص بهم؟ من الغراب إلى الحمار، مرورًا بالثور والإوز والغزال، الكل يترجم! كثيرون يعتمدون على الترجمة الآلية، وهي مثلهم، بلا روح ولا عاطفة. لا يفكّرون حتى في ترتيب الأفعال والصفات، ولا يشغلهم أن يمنحوا النص معنى. ومع ذلك يُمتدَحون “مترجمين”، في إساءةٍ للذين لا يدركون حجم الفضيحة، لكنهم ليسوا أقلّ ذنبًا من الذين يصفّقون لذلك العبث وهم يعرفون تمامًا في أي وحلٍ يغوص العالم.

كل ما هو مصطنع يولد من كذبةٍ دنيئة، ولذلك فهو مُضرّ. لا أحد يستطيع أن يحلّ محل الطبيعة الإنسانية، بدءًا من الذكاء الاصطناعي. فكّروا في مكنسة كهربائية: تلتقط الفُتات والغبار لكنها لم تُنتجهما. وكذلك الكلمات التي تُترجَم على أيدي المترجمين المرتجلين، يتبعها سيلٌ من “الفضائل” لأعمالٍ أدبيةٍ غير موجودة، ويُطلقون على أنفسهم ألقابًا: كُتّاب مقالات، محرّرون، شعراء، صحافيون، نقاد أدب… وهم بلا رؤوس، ومن أعلى عرباتهم الهوائية طاقتهم صفر.

ترجمة الشعر بالذات من أصعب المهمات، ولا تؤدّي يومًا حقّ من كتبه. وكلما كان الشاعر المترجم أعمق، جاءت الترجمة أوفى، ابنة الحقيقة.

أما أنا، فطبعي عصيّ على الفساد؛ لن أجثو يومًا أمام الخيانة أو أي ابتزاز. لن أخضع للكذب أبدًا. الدراسةُ تضحية، إنكارٌ للذات، ألمٌ ورجاء، ومجهولٌ يهبنا فرصة أن نعيش حيوات كثيرة. إنها تملأ الفجوات التي تتركها الثلوج حين يتعثّر “الذاكرة”. وحده صفاء الدرس يجعلنا بشرًا، متفرّدين على مسرح العواطف، بعيدين عن قفصٍ ذهبي من قضبانٍ وأوهام.

عراءُ روحي سيكون ضريحي، ولن تنبت عليه أزهار الكذب أبدًا.

بفضل الدراسة سنعبر أراضي الرمال المتحركة، لكننا سنجد أيضًا طرقًا شائكة تتحوّل إلى محيطات زرقاء وتلال مزهرة. لن نصطدم بجدران من الأفاعي جاهزة لسحقنا أو نفث سمومها في عروقنا. سيكون القلب حرًّا ليحلق كطيور السنونو التي لا تخشى الرصاص العابر، والتي، رغم جهلها بمآل رحلتها ورغم اقتراب العاصفة، تستطيع أن تبني عشّها عند أول شعاع للشمس.

لكن هؤلاء الكائنات الطفيلية في ازدياد مستمر، إيقاعهم مختل، انفصامي، يقتاتون على “عزاء” لحظة عابرة، ثم يتوجّهون إلى غيرهم لا لغرض سوى الاصطياد في مرمى الأعين، بلا حياء ولا حدود. إنهم من زمرة أولئك الذين صاغوا لأنفسهم شعورًا بالحق، لكنهم لم يعرفوا قط معنى الواجب. فالثقافة دم وتضحية وتجرّد، وليست مسرحًا للتهريج، بل حقائق تُكتب بالعرق.

ومئات المختارات الأدبية تُفرخ كل يوم، كمرقٍ بلا طَعم، غايتها الظهور، ثم الثانية فالثالثة، لتكديس صفحات تؤذي الشعراء والكتّاب الحقيقيين. يُهدر الحبر لتسجيل أسماء بلا قيمة، لا أدبية فحسب، بل أخلاقية واجتماعية أيضًا. تراهم معروضين كحيوانات نجت من أقفاصها، جميعهم يتهافتون على “الكوريدا” (ذلك البرنامج الإيطالي الذي أطلقه الراحل كورّادو وما زال يقدّمه الموهوب أماديوس).

فنطرح على أنفسنا السؤال: “ماذا كتب هؤلاء؟ أي ناقد إيطالي أو أجنبي محترم أفرد لهم كلمة؟ أي نقد أدبي يُعتدّ به ذُكر في شأنهم؟”. إنّها سباقات عابثة، محكومة بالفشل، لأن ما لا يقوم على أسس صلبة وصادقة لا يُثمر إلا وهمًا.

كثيرًا ما أتصارع مع أفكاري، أفضل أن أكون يتيمًا على أن أنأى عن النور والدفء. لكن أولئك المتبجّحون، “دونجوانات الكلمة”، يختارون الصمت كي لا يجرحوا كبرياء المدّعين، مزوّري المواهب، السارقين، الكاذبين، والعنيفين، في مقابل “منصّة استعراض”. لا يدركون أنهم بإعراضهم عن ذواتهم في سبيل العدل والحقيقة النهائية، إنما يضرّون بأنفسهم أولاً.

علينا أن نبتعد عن تلك الشلّة، عن انتقامها ولعناتها، عن إساءاتها واستفزازاتها. لقد أرادوا لو استطاعوا أن يخمدوا صوتي، لأنه السبيل الوحيد الذي يملكونه ليطفوا فوق السطح.

في الحياة، الكتابة مثل الموسيقى، تستبدل النوتة بالكلمة، والقلب هو المدرّج، حيث تكون “مفتاح صول” هو الأمل الذي يحمي قلوب الأبرياء والمنفيين من الذبول. لقد أرادوا أن يستبدلوا الحب بالكراهية حتى يحولوا بيننا وبين استعادة الاحترام، والوفاء، والعزاء، والسلام، وأمان الوجود، وقيم الحياة، ومتعة الجمال المشترك.

وفي سباقهم الجنوني هذا لا يتوقفون حتى في أعياد الميلاد، يتجاهلون معناها، لا يتفكرون لحظة في بؤس العالم، في الخراب الإنساني والديني، في استعمال الأسلحة وإسرافها الذي يخلّف جبالًا من القتلى والأنقاض، بينما الدم ينتشر كالنار في الهشيم. لا يفكرون في المشردين الذين ينامون فوق كراتين، أو البرد القارس تحت الجسور، أو الأطفال المرتجفين في الساحات كأوراق تنتظر عملة وهمية لن تصل. ولا أحد يفكر في الحيوانات الجائعة المبتلة تحت المطر والوحل حين يبتلعها برد الليل القاتل.

ثمّ نجد “شعراء الصدفة” الذين ينبتون كالفطر السام، يوظّفون الأطفال كأنقاض، يعذّبونهم في أبياتهم، من غير أن يفعلوا شيئًا لدرء الجوع أو الألم عن أولئك الأبرياء. أجسادهم اليابسة المهملة أشبه بأشجار الميلاد، ودموعهم المنسكبة أكبر من وجوههم، تلمع كزينة مرة الطعم. لكنّ أولوية هذه المأساة لا تعني أحدًا، إذ تُمنح الأولوية لمسابقات زائفة. يتظاهرون بالصداقة، ويبذلون كل جهد لإيقاعك في شباكهم وقد أعمتهم الغيرة والحسد. يتسلّحون حتى النخاع بالانتقام، ويهيّئون لأنفسهم أسلحة لفظية “مُتقنة” ليشوّهوا بها من لن يبلغوا مستواه. يختلقون الحيل، ويبتكرون المكايد والابتزاز، لينصبوا الضحية في الظلّ، مرفقة بصور تُنشر دون علمها، ثم يهدّدون بصفاقة: “إذا نشرت هذا، انتهى أمري معك”. وهكذا يتمّ الاتفاق الخبيث، ويُعقد العهد الفاسد، ويُنجز “اللعب”، ولو مؤقتًا. لكن مع مرور الزمن – والمعلّم الأوحد – تطفو القاذورات إلى السطح، وتخرج الحقيقة، وإن جاءت عرجاء.

كثيرون أصابتهم “متلازمة بروكرست”، قساة على كل من لم ينجحوا في إخضاعه، يتحوّلون إلى خطر على المجتمع. ومع أنّ شخصياتهم مضطربة معلومة، إلا أنهم يُمدحون من “الشلّة” وأصحاب المصالح، مقابل منافع لا تمتّ إلى الثقافة الحقيقية بصلة. فيكيلون لهم المديح طمعًا في الظهور، وهم أنفسهم الذين لم يمضِ وقت طويل على هجائهم ووصفهم بأقبح الصفات. ولحسن الحظ، وجد من طردهم من بابه، اشمئزازًا من سلوكهم العدائي المتسلّط، فحُرموا من مكاتبهم الصحفية إلى الأبد. غير أنّ تلك الشمطاء، المسؤولة عن هذه الوقائع البائسة، نسيت أن المرء في بيت غيره ضيف لا سيّد.

الفعل “يطالب” يُصرّف على الدوام، الجميع يطلبون بلا معرفة، كمن يلقي طُعمًا في البحر مترقّبًا السمكة أن تبتلع الخطّاف. لا أحد منهم يسأل نفسه عمّا يستطيع أن يقدّم، أو بأي حق يطلب شيئًا من غرباء أجلّاء.

لقد وجدتُ دورًا مؤسفًا لبعض النساء في هذا العصر الذي يسمّونه حرية، وهو في حقيقته تحلّل. جميلات أحيانًا، لكن بعيون باردة، تكشف لمن ينظر خلف النظرات عن مصلحة جليّة وفراغ ثلجي في الروح. يتجاهلن أنّ المراهقة لا غد لها، وأن الجسد أدقّ من ساعة، يقيّد الزمن بلا رحمة. يتوهّمن أنّهن أوصياء الحقيقة، وأن الاستحقاق ملكهنّ وحدهنّ، وهنّ غافلات عن أنّ الحياة برمّتها موسم واحد، قصير أمام أبدية لا تنقضي.

نسي هؤلاء أننا ضيوف على الأرض ولسنا أسيادها. ومع مرور الأعوام ندرك أن حياتنا التي خُيّل إلينا أنها أبدية لم تكن سوى نهار مشمس واحد. لم نعد نقاتل من أجل الحرية. نسوا أنّ الثقافة مهد الحضارات، وأنّ واجب الشاعر والكاتب أن يربّي للسلام. لكن لا أحد يتحدّث عن السلام، المهمّ أن يخدع. العالم لم يعد بيتنا، بل مطارًا، وميناءً، وشاطئًا، ومنصّة هوجاء يهرول عليها الهاربون من الحقيقة.

ترى حولك شياطين بائسين ساقطين، ونساءً تافهات يبحثن عن شهرة بجوار سحرة متوسطين. يعرضون أنفسهم كالبسط على الشواطئ، كفاكهة في السوق، كهدايا تذكارية في الواجهات، في الأكشاك وعلى صفحات التواصل.

إيطاليا كانت يومًا عاصمة الثقافة في العالم، سادت قرونًا يوم كانت “روما عاصمة الدنيا”. إيطاليا أخذت اسمها من كالابريا، التي كانت في القديم تدعى “إيطاليا الأولى”، تلك المنطقة الجنوبية على هيئة الحذاء، حيث وُلدتُ ونشأت وأقيم. القصة كلّها مسطورة في عمل أنثولوجي بعنوان كالابريا إيطاليا الأولى – ثلاثة آلاف عام من التاريخ والفن والثقافة في أرض الأساطير (ص 368) بتحرير المخرج والكاتب باولو بورّوتو.

قلائل يعرفون أنّ البساطة أجمل ثوب يُرتدى. من لم يُربَّ على السلام وأحبّ الحرب فقد احتقر الحياة. يعرضون بضاعتهم على منصات المسابقات، مردّدين أبياتًا بالية من كثرة الاستهلاك، كالمعول الذي ورثه الابن عن أبيه، والجدّ عن أبيه، لا يحمل سوى الصدأ.

أتذكّر الراهب الفرنسيسكاني والفيلسوف والسياسي وليم الأوكامي، أستاذ أكسفورد عام 1319، ونموذجه الذهني حول اختصار القول، حيث أوضح كم هو ثمين لبّ الفكرة حين يُكثّف بلا إطالة عقيمة، وإلا فلا نجني إلا أحجية غير محلولة. وأتذكّر الشاعر جيبّو تيديسكي، أحد آباء المستقبلية، وقد صاح في وجه الشعراء: “اختصار، اختصار، اختصار”.

وفي مقابلة أجريتها مؤخرًا مع الكبير أستريت لولوشي – الفيلسوف، المؤرخ، الناقد الأدبي والفني، الشاعر والصحفي في “صوت أمريكا”، الألباني الأصل، الأمريكي منذ أربعين عامًا – أجابني عن التجربة الثقافية للكتّاب قائلًا:
“الموهبة وتجربة الحياة هما أساس كل كتابة، كما في كل شيء آخر. وما عليّ أن أوضحه هو: افعل ما يجب أن تفعل، لا ما يجب أن تعرف”.

تنبثقُ تساؤلاتٌ عفويّة: إذا افترضنا ــ على سبيل الفرضيّة ــ إقصاء الرجال من دائرة الإعلام، وهم في الحقيقة أقلُّ عددًا بكثير من النساء، فإن السؤال الأوّل يجرُّ وراءه سؤالًا ثانيًا يفرض علينا التأمل: ولكن هؤلاء النساء، ملائكة الموقد، البعيدات سنواتٍ ضوئيّة عن ذلك القول المأثور، أليس لهنّ بيت، عائلة، زوج، أبناء، عمل، أو موقفٌ يتجاوز صورة العارضة الجامدة؟ من هنّ هؤلاء الشخصيات في حقيقتها؟ ما الذي تفعله هذه الجموع، أشبه بمدفعٍ طائش، مستعبَد دائمًا لسحر الظهور، حتى حدّ إفنائها لذاتها وعائلتها، متواصلة كالسيل الجارف أربعًا وعشرين ساعة في حالة أشبه بتنويمٍ مغناطيسيّ بلا نهاية؟ أين الأمهات الحقيقيات، الأخوات، الصديقات، الأقارب، العائلة، القلب النابض للكيان الإنساني والاجتماعي؟ لقد تجاوز التراجعُ حدودَ التقدّم. ماتت المشاعر، وباتت حياتُنا صورًا باردة كالرخام. من حول العقول المغيَّبة، هواجسٌ مضطربة، مآسٍ، هياكل عظمية سائرة، وهيئاتٌ غريبة تتهادى مثل قطيعٍ من الغيوم. جملُهنّ ليست سوى قواقع فارغة، لكنّ من لم يُخدعْ سيشعر بالمخالب، ويسمع فخاخ الفئران وهي تُطبق. يُحسنَّ الوعظ ويُسيئن الفعل. يخيَّل إليهن أنهن يُضللن الجميع بالحديث عن السلام والرفاه والإخاء، حتى ليجرؤن على الظهور بالوجه الصفيق المعتاد، يكتبنَ ويُشيعنَ قوانين سلوكيّة تخصّ الآخرين، بينما يتخذنها هنّ زينةً للعرض. وحين يُلغي الرجل ذاته، وتستمر المرأة في شططها، معكوسة الدور كوحشٍ تجيد تمثيله، ثم تتظاهر بأنّها ضحيةُ ما صنعت بيديها، فلن يكون هناك مستقبل للبريء. لن تكون هناك انتصارات، وفي نبوءة غير بعيدة، ستُكتب حتى الوردة الأخيرة لهزيمة الإنسان بالموت. سنشهد الفجر يحتضر، بينما في الصمت، يمدّ الموت لكلٍّ منا كأس لبنه.

ملاحظة
“تبدو لي قصائد ليوتسو وكأنها تسرد حكاية الروح المسحوقة والمُلغاة تحت وطأة الحياة الوجوديّة. ولو كان هذا كلَّ شيء، لما كنتُ اليوم هنا، لأحيي صوتًا ليس شعريًا رفيعًا وحسب، بل رؤيويًّا ونبويًّا أيضًا. فإذا كان تسعةُ أعشار النصوص صيحةَ إدانة مروّعة لحيوات البشر، تاريخًا وحاضرًا، فإن العُشر المتبقي يهبنا الأمل، والإيمان، والنعمة، ونحن نشارك في اللامتناهي، المقدّس، الإلهي… خطاب ليوتزو يبدو وكأنه يتحرّك في وقتٍ واحد، وبشكلٍ لا ينفصل، على ثلاثة مستويات: الجسد، والنفس، والروح. وهذا ما سيكون عقبةً شبه مستعصية للعقل المنطقي الصرف، لكنه للعقل المتخيّل، الحدسي، الكليّ الشامل، سيكون منبعًا للطاقة والرؤيا، بل للبهجة أيضًا…”

ولنقتبس الفيلسوف الإسباني خوسيه برغامين: “كان للشعر ــ حين شاء ــ أكثر من إرادةِ معرفة، معرفةٌ لم تُردْ: وذلك هو طعم الشعر / أيتها الحكمة العاقلة! تذوّق اللاوجود…” وهذه الحكمة العاقلة التي تعبّر عنها ماريا تيريزا ليوتسو بلغة شعرية سامية تجذبني وتفتنني، يمكن مقارنتها بذلك الفصل البديع السابع عشر من سفر الحكمة لسليمان الذي يتناول “أسرى الظلمات” (الذين نحن هم).

ــ بيتر راسل
ريجّو كالابريا، 18 نوفمبر 1993
مسرح بلدية “ف. تشيليا”
مناسبة تقديم مجموعة Apeiron لماريا تيريزا ليوتسو

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى