جاليريشخصيات

قراءة في لوحة الفنانة التشكيلية اللبنانية جومانا مطر

الزهور المائية كعلامات على سطح اللوحة


الزهور المائية كعلامات على سطح اللوحة… قراءة في لوحة الفنانة التشكيلية اللبنانية جومانا مطر

بقلم صلاح راشد، كاتب من ليبيا

اللوحة التي تقدمها لنا الفنانة التشكيلية اللبنانية جومانا مطر تبدو وكأنها فسيفساء من ماء وحلم ، مساحة تنبض بانسكاب الألوان ، حيث الأزرق يتحول إلى مرآة للغياب والحضور ، وإلى نهر يفتح احتمالات الرؤية على عوالم داخلية أكثر مما يفتحها على المشهد الخارجي . نحن أمام عمل لا يكتفي بالتمثيل البصري ، يذهب إلى إعادة اختراع الماء بوصفه ذاكرة متحركة ، وفضاءً تتقاطع فيه السيولة مع الضوء والظلال ، والأزرق هنا ليس مجرد لون ، إنما هو صوت داخلي ، همس موجة ، وخفقان سرّي يتراءى على سطح اللوحة . تتخلله ضربات بيضاء متقطعة أشبه بطيور صغيرة أو أشرعة ضائعة في الأفق ، تحاول أن تجد اتزانها في بحر لا يهدأ . هناك نزعة رومانسية تتوارى خلف الطبقات المتعددة للون ، لكنّها رومانسية مغموسة في قلق وجودي ، حيث يظل المشهد مشدودا بين حركة التيار وغواية السكون .
في الأسفل ، تتوزع بقع البنفسجي والأصفر والأحمر وكأنها زهور مائية أو كائنات تنبت من باطن الماء ، لتخلق جسورا بين العمق والسطح ، بين الحياة التي تتنفس في الظلال والحلم الذي يصعد في الضوء . هذه العناصر الصغيرة تضيف بعدا سرديا للوحة ، إذ تعطي إحساسا بأن المكان ليس فراغا مائيا خالصا ، حديقة سرية تختبئ بين الموجات .. فاللمسات العريضة للفرشاة ، وتراكم الطبقات اللونية ، تجعل من اللوحة ذات طبيعة شبه موسيقية ، حيث تتردد الإيقاعات البصرية كأنها مقاطع لحنية تتجاوب مع بعضها البعض . ويمكن أن نشعر أن العين لا تقرأ اللوحة دفعة واحدة ، بل تغوص فيها مثلما يغوص السمع في مقطوعة متعرجة ، تتبدل نبراتها بين القوة والهمس .
ما تفعله الفنانة جومانا مطر هو تحويل المشهد إلى نص مفتوح : النص هنا لا يقول شيئا محددا ، يفتح احتمالات كثيرة للرؤية ؛ إنه يترك للمتلقي حرية أن يرى في هذه الألوان بحرا ، أو سماء ، أو نهرا من الذكريات . كل خط ، كل ضربة لونية ، كل تسرب للضوء ، هو جملة غير مكتملة في رواية أوسع من اللوحة نفسها .
العمل يضعنا أمام جماليات الانسياب ، أمام علاقة اللون بالذاكرة ، وأمام طاقة الحلم حين تتحول إلى أثر بصري نابض . ولعلّ قوة اللوحة تكمن في أنها لا تفرض معنى ، إنما تمنحنا فسحة للتأويل ، تجعلنا نتأمل كأننا أمام مرآة لداخلنا ، حيث الأزرق يصير مرادفاً للروح ، والزهور المائية تتحول إلى علامات خفية على احتمالات الحياة المتجددة في أحلك الأعماق .
وإذا ما حاولنا مقاربة هذا العمل في سياق تاريخ الفن العربي والغربي، فإننا نجد أصداء متقاطعة تتجاوب مع عوالم تشكيلية عديدة . فهي من جهة تذكّرنا ببعض جماليات حسن جوني اللبناني الذي انشغل بتحويل الماء والذاكرة إلى مادة تشكيلية تعكس هموم الشرق ودهشته.
وفي سياق عربي أوسع ، نجد بأن هذه الانسيابية المائية في أعمال جومانا مطر تحاور تجربة شفيق عبود في بحثه عن الضوء ككيان مستقل ، وتجربة ضياء العزاوي حين يغوص في البنية اللونية ليجعلها نصا مفتوحا على التأويل . كما يمكن أن نقارن حضور الزهور المائية المتناثرة بلمسات إيتيل عدنان التي حولت الطبيعة إلى قصيدة تشكيلية تختزن الحلم والاغتراب معا .
في المقابل ، لا يمكن قراءة هذا العمل دون استدعاء الذاكرة الغربية ، وبخاصة أعمال كلود مونيه في لوحات ( زنابق الماء ) والتي جعلت من سطح البركة فضاء كونيا للضوء والانعكاس ، لكن الفرق أن جومانا مطر تضيف إلى المائي لمسة شرقية ، تحول فيها الألوان إلى شظايا وجدانية لا إلى مشهد طبيعي صرف . كذلك تذكّرنا بفيضانية فان غوخ في ضربات الفرشاة ، حيث الحركة اللونية تعادل انفعال الروح ، وببحث فاسيلي كاندينسكي عن روحانية اللون ، حيث الأزرق تحديدا يرمز إلى البعد الداخلي واللانهائي .
هكذا تصبح لوحة جومانا مطر جسرا بصريا بين ذاكرة الفن الغربي الذي احتفى بالانطباعية والتجريد الروحي ، وذاكرة الفن العربي الذي سعى دوما إلى جعل اللون صدى للتجربة الوجودية والذاكرة الجماعية . إنها لوحة لا تقف عند حدود الزمن والمكان ، بل تتجاوزهما لتصير كتابة كونية بلغة الماء والضوء .
تشرفت أن أحط رحالي في مرسمها المنزلي بمدينة بعقلين لبنان ، ذلك الركح الذي يفوح منه عبق الجبل ورائحة الصنوبر ، حيث تتنفس اللوحات كما لو كانت كائنات من نور وماء .. هناك رأيت كيف تتحول الجدران إلى نوافذ على سموات داخلية ، وكيف تتزين القلوب قبل العيون بلقاء الألوان ، فتغمر الزائر دفء خفي أشبه بيد حانية تربت على الروح . كان المرسم أشبه بحديقة سرية تسكنها الألوان وكل لوحة فيه تنبض كأنها قلب مفتوح يوزع على الداخلين نصيبه من السكينة والدهشة .
تشرفت أن أحط رحالي في مرسمها المنزلي بمدينة بعقلين لبنان ، ذلك الركح الذي يفوح منه عبق الجبل ورائحة الصنوبر ، حيث تتنفس اللوحات كما لو كانت كائنات من نور وماء .. هناك رأيت كيف تتحول الجدران إلى نوافذ على سموات داخلية ، وكيف تتزين القلوب قبل العيون بلقاء الألوان ، فتغمر الزائر دفء خفي أشبه بيد حانية تربت على الروح . كان المرسم أشبه بحديقة سرية تسكنها الألوان وكل لوحة فيه تنبض كأنها قلب مفتوح يوزع على الداخلين نصيبه من السكينة والدهشة .
في النهاية ، ليست لوحات جومانا مطر سوى مرايا تعكس روح الشاعرة بداخلها . هي تكتب بالفرشاة ما يضج به القلب ، وترسم باللون ما يفيض به الوجدان . كل عمل فني هو قصيدة مرئية ، تحرر الألوان من صمتها ، وتطلق العنان للون ليعبر عن أعمق المشاعر . لذلك ، لا نشاهد في لوحاتها مجرد أشكال ، بل نقرأ فيها حكايات تتنفس وتتكلم ، فيغدو اللون شعراً ، ويصبح الشعر فناً تشكيلياً .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى