

الأفرع العارية لأشجار المشمش والجو الصافي في عصاري بابة والسماء الزرقاء في نواحي البراشيم على فرع النيل المتجه لدمياط تمنحنا هذه الجولة شيئًا من الطاقة الإيجابية لمقاومة هموم حياتنا التي ترتسم على ملامحنا فنبدو في الواقع أكبر من أعمارنا المدونة في إثبات الشخصية، سلمنا عليه وجلسنا تحت ظل شجرة متعبة تصمغ جذعها ولم تسّاقط أوراقها الجافة بعد برغم اقتراب موسم الخريف من نهايته، أجاب على سؤال دار بخلدي ولم أتلفظ به “دي سجرة عيانة بس حبايتها حلوة وحمرا اسمها العسلية”، لم ينتظر مني تعليقًا وانتبه مركزًا في شايه الذي يفور.
لم أعتد أن أحل ضيفًا دون سابق إنذار لكن مستضيفنا لم يملك وسيلة اتصال كي نعلمه بمجيئنا، شايه الأسود المغلي على الراكية كان جاهزًا للصب. كل شيء حولنا كان بسيطًا وهادئًا، مثل حياة صاحب الراكية المفترش قدميه والفارش ملامح وجهه لاستضافتنا بالتبسم الطبيعي غير المصطنع فَرِحٌ بقدومنا، وقد كان شايه المليء بالدفء العجيب مازال ينفث بخارًا من أفواه الأكواب.
كنكة سوداء مكسورة اليد احترق جانبها من كثرة الاستخدام واستعيض عن يدها بسلك من الالمونيوم يلتف حول فوهتها، والأكواب الصاج التي تحمل بصمات السنين، وقصف خشب المشمش الصغير التي يستخدمه لإذابة السكر، وباكو الشاي الذي جمع في داخله بقايا عدة أنواع، وعلبة السكر المعدنية القديمة، والصينية المعدنية المبقعة بالصدأ والتي تتمايل قليلاً تحت ثقل الأكواب الممتلئة أعطانيها وقال: “خلي بالك الشاي تقيل” لم أفطن أنه يطلق استعارة مكنية، كلها كانت تفاصيل تكاد تنطق بروح هذا الذي يجلس مفترشًا كجلوسه للصلاة محتفيًا بالأساتذة المتعلمين وممتنًا لهم بزيارتهم المفاجئة.

أوجع دخان الراكية عيوننا فدمعت، ضحك وقال مواسيًا:
“دخان الشتاء ظَفَر”… وأوضح مفسرًا “يعني مغذيٍ، زي لحم البط!”
ضحكنا معه، ورشفنا الشاي الساخن الذي كان يشبهه؛ بسيطًا وغامقًا بلون طين الأرض، لكنه يملأ القلب دفئًا، تركت رشفات من الشاي في الكوب كنوع من أدب الضيافة فأعاده لي وقال: “عندنا بنات ولازم كوبايتك تفضى” لم أفهم ما دلالة طرحه غير أني طاوعته وارتشفت جزءًا مما تبقى من الشاي الغامق الثقيل وأعدته ومازال به رشفةً باقيةً.
ظللت أراقبه وصديقي يعرفه لي ويعرفني عليه، وعروقه النافرة تؤكد أنه بصحة جيدة.
في الليل، كان اسمه يلاحقني كطيفٍ عابرٍ. محاولا ترديد مكونات اسمه الثلاثة، وأحاول أن ألتقط صوته حين ناداه صاحبي. …….. لا فائدة لا تسعفني الذاكرة!
نام الجميع إلا أنا، أتساءل في داخلي: هل كان اسمه سيف الدين؟ أم علم الدين؟ ربما صلاح الدين؟ لكن لا تسعفني هذه الذاكرة الممتلئة بالأحداث والشخوص والنظريات، لم يكن أيًا من هؤلاء. اسمه ظل عالقًا على طرف لساني كأنه طفل يلهو ويهرب في الأزقة الضيقة لذاكرتي.
ظللت قلقًا أتقلب يمنة ويسرة، وعند الفجر صدح صوت عمك عبد العليم الزكي ونادى بصوت خاشع محشرج في القرية:
“كل نفسٍ ذائقةُ الموت… إنا لله وإنا إليه راجعون. توفي إلى رحمة الله تعالى اليوم إبراهيم شرف الدين.”
صحوت من غفوتي كمن أفاق من حلم غريب، كل جنبات الذاكرة نبشتها ونكشت فيها لعلي أتذكرك بيدك الخشنة وعروقك المنتفضة حاولت في مراجعتي للأسماء أن أتذكرك غير أني فشلت وصحت دون وعي:
“اسمك إذن إبراهيم!”
رحل إبراهيم، وترك وراءه غيط مشمش ناحية البراشيم، وراكية ما زالت تنفث أشرطة الدخان وحدها، وكنكة سوداء يدها من أسلاك الالمونيوم تفتقد يده، وكوب شاي لم تُشرب آخر رشفة منه سيتسبب في منع زواج البنات.