
معنى أن تجلس مع الموت على طاولة واحدة
22 أكتوبر 2025
في عالم يضج بتقلبات للأحداث الشخصية والجماعية، تزداد تناقضات المشاعر، وتتغير أساليب تعبيرنا عما نشعر به، حتى تتغير قواميس كلماتنا، وتتوسع دوائرنا بشكل مستمر..
في هذا السياق، تبدو مجموعة الشاعرة المصرية إيمان جبل “قلبي الذي لم يأمن غدر البيوت” (104 صفحات من القطع المتوسط، دار مرفأ، 2025)، وكأنها محاولة لاستجلاء النفس البشرية المتجددة..
ليس فقط من خلال الحب والخيانة، ولكن عبر التصدي للغموض الوجودي الذي يحيط بنا جميعًا.
قارب متحرك
في مجموعتها، لا يُقرأ الشعر بهدوء قارب ثابت، ولا تمضي القدم في ذلك الطريق بألفة معتادة، لكن هنالك على الجانبين نوافذ محيرة، تصفع بصراحتها، وتحفر في العمق الإنساني مشاهد من الصعب تمريرها.
نجد في المجموعة استكشافًا حذرًا ومتأملًا للذاكرة، العاطفة، والزمن، حيث تتقاطع التفاصيل اليومية مع التساؤلات الكبرى عن الحياة والموت والهوية.
تناقش المجموعة ماهية الموت، ظروفه وتقلباته والإنسان. ومع المضي في قصائد جبل، من البديهي أن يتبادر إلى الذهن سؤال: هل للموت ذاكرة؟ كيف لا، والشاعرة تضع شرطًا، أو أمنية شعرية: “على الموت أن ينساني”. هنا، الموت ليس حدثًا خارجيًا، بل فعلٌ داخلي يُستدعى في كل لحظة تأمل..
الجملة تحمل هشاشة الذات وقلقها أمام الانتهاء الساحق، لكنها أيضًا تحمل نوعًا من التحدي الهادئ: التطلع لأن يمر الزمن من دون أن يمحو الذكريات أو الحب أو الفقد.
في هذا السياق، الموت يصبح ليس مجرد نهاية، بل عنصرًا فلسفيًا يفرض على الشاعرة تفرعات ملزمة بمواجهة معنى الوجود والوعي الذاتي. هذه المواجهة هي أساس التجربة الشعرية في المجموعة؛ حيث تتحول الصور والمفردات إلى مرايا ذاتية، يمكن أن تتكسر في لحظة واحدة.

طين يعجن ويصاغ
تبرز في المجموعة استعارات متجددة تلتقي عند محور الزمان والتحول الشخصي، كما في الجملة: “لأتشكل عجينة في كف الزمن”. هنا، الزمن ليس مجرد مؤشر إلى مرور الأيام، بل هو عامل فعال يُعيد تشكيل الذات، مماثل للطين الذي يُعجن ويُصاغ. الاستعارة تحمل بعدًا وجوديًا: الإنسان ليس ثابتًا، ولا حتى عواطفه، فهي متحولة، قابلة للتمدد والتمزيق، متأثرة بالقوى الداخلية والخارجية على حد سواء. كما يبرز في هذه الصورة الحس الجمالي المتجدد الذي يربط بين الطابع الشخصي للتجربة الشعرية وبين النظرة الفلسفية الشاملة للعالم.
“يمكن تسويغ الشعر في قالب نقد اجتماعي ضمني، حيث يُنظر إلى المحيط الحضري بوصفه مساحة هشّة، لا تثق الشاعرة في قيمه أو في قدرته على استيعاب الإنسان”
إيمان جبل أيضًا تعيد النظر في طبيعة الموت والخسارة أيضًا، “ربما الموت فعل/ سلوك عادي وتافه، ونحن فقط من ضخمناه”. هذا القول يكسر عادة التضخيم الرمزي للموت في الشعر، ويعيده إلى كونه مجرد حدث طبيعي، وهو ما يجعل القارئ يعيد التفكير في الطقوس والتمثيلات التي خلقناها حول النهاية والرحيل.
الشعر هنا يعمل كأداة لإعادة الاعتبار للفهم الإنساني: الحياة والموت ليسا متناقضين، بل يندمجان في دائرة التجربة نفسها. كما يجرد المعنى من الذيول التي تعلق به.
طريق القلق
المعاناة الذاتية، والوعي بعدم القدرة على نيل الراحة المحققة- هذا طريق القلق الذي تتبعه الشاعرة في تصريف اللغة. “وأنا لم أعرف يومًا كيف أكون بخير”. هذه الصراحة الشعرية تعكس شعورًا عالميًا يجسد الغربة الداخلية التي تصاحب الإنسان في حياته اليومية، والانفصال عن الرضى عن الذات، والخسارة المستمرة لعلاقات تجلس على أرجوحة تطل على الحب والفقدان.
حيث ترفع الشاعرة التغليف عن الصراعات الداخلية بطريقة تجعل القارئ يشعر بأن هذا النص ليس مجرد شعور شخصي، بل انعكاس لمسألة بشرية عامة.
إن القرار الإنساني هو منتصف العالم، وعلى ذلك يتحدد السلم أو الحرب. لكن في اللغة دومًا حرب، مهما اختار المرء الطريق الناعم، وكذلك في الشعر.
حياد وانسحاب
توظف إيمان جبل اليد البشرية لينمو صراع أكبر، “يد عادية لا تريد أن تمسك سيفًا”، بأن يعاد التأمل في الرموز التقليدية للقوة والسيطرة. اليد، رمز الفعل والقدرة، تختار الامتناع، كأن الفعل العدواني أو السيطرة العنيفة بقيمة صفر كبير. يحل محلها الحياد أو الانسحاب. تلك القدرة على مقاومة العالم لا تأتي دائمًا من القوة، بل أحيانًا من الامتناع أو من رفض المشاركة في العنف الذي يفرضه الواقع.
المكان، أو ما يسمى بالمدينة، يتعرّض للتشكيك في شعر إيمان جبل: “ما من مدينة تؤخذ على محمل الجد”. المدينة، رمز الانتماء والمجتمع، تفقد مكانتها كمأوى أو كرمز للمأساة أو السعادة. هنا يمكن تسويغ الشعر في قالب نقد اجتماعي ضمني، حيث يُنظر إلى المحيط الحضري بوصفه مساحة هشّة، لا تثق الشاعرة في قيمه أو في قدرته على استيعاب الإنسان. هذا الرفض يعكس نظرة فلسفية عميقة للتفكك الاجتماعي، والخذلان الذي يرافق التجربة البشرية.
“ليس عليك أن تُصفّيني، الحزن وحده سيتكفل بذلك”- هو انعكاس آخر للتأمل في العلاقات الإنسانية والفقد. هذا القول يضع الحزن كعنصر مركزي يحكم التجربة، وليس أفعال الآخرين أو آراؤهم. هنا، الفقدان والخسارة لم يعودا أحداثًا بسيطة، وإنما تحوّلا إلى عناصر فاعلة في بناء الذات وإعادة تشكيلها، وهو ما يعطي الشعرية بعدًا نفسيًا عميقًا. الحزن يصبح كيانًا حيًا يحرّك القرارات ويعيد تشكيل المشاعر.
ما نحاول فهمه
المجموعة أيضًا تبحث في العلاقة بين اللغة والتجربة الداخلية: “اللغة لم تعد تشعل نارًا”. هذه العبارة تحمل إحساسًا بالاغتراب عن القدرة التعبيرية، فالكلمات، مهما كانت صادقة أو مبدعة، فقد تعجز أحيانًا عن التعبير عن الألم أو الفرح العميق. وهنا تكمن الصعوبة في الكتابة الشعرية: كيف يمكن للغة، كأداة/ كصورة، أن تنقل التجربة الإنسانية من دون أن تُفقد شيئًا من عمقها أو صدقها؟
إذا جمعنا هذه الصور، نرى أن المجموعة الشعرية لجبل تمثل رحلة وجودية متشابكة، حيث الحب، الخيانة، الفقد، والموت تتشابك مع التأمل في الزمن، المكان، واللغة. الشعر عندها لا يأتي كوسيلة للتعبير عن المشاعر، ولكن كأداة تحليلية لإعادة التفكير في كل ما نحاول أن نفهمه عن أنفسنا والعالم، وكأننا حينما نغلق الباب على السؤال، فإننا نقوم بغلقه على إصبع اليد، ألمٌ يتبعه ألمٌ. كل جملة، حتى لو بدت قصيرة أو مجرد عبارة عابرة، تعمل على تقويض الافتراضات المسبقة حول الحب والحياة والموت، وتحفز نحو مواجهة الواقع بوعي أكبر.
في السياق العام، يخلق النص تجربة شعورية متجددة، حيث تتكرر الصور والمعاني في صياغات مختلفة، كما لو أن العاطفة نفسها دائرية، تتجدد في كل مرة نقرأ فيها البيت الشعري. هذا الطابع الدوري للعاطفة والوعي يجعل النص قريبًا من التجربة البشرية الشاملة، من الحب والخسارة إلى البحث عن الذات والتصالح مع الوجود. فلا تكف جبل عن استخدام الشعر كمساحة للتجربة، حيث يكون التأمل الوجودي مرتبطًا بالحياة اليومية، والتفاصيل الصغيرة جدًا، وعبر تطبيق عملي، وليس مجرد فكرة نظرية.
“قلبي الذي لم يأمن غدر البيوت” عمل شعري يطرح ويشاكس بالاستعلامات والاستفهامات، أكثر مما يقدم إجابات، حيث يصبح الشعر تجربة لاكتشاف المخفي، عبر النبش والتشويش، وطرق الأواني ببعضها. تلك تجربة شاعرية مفتوحة للقارئ ليعيشها ويعيد تفسيرها. الصور فيها متشابكة فلسفيًا وعاطفيًا، والاستعارات العميقة.
في نصوص إيمان جبل، هنالك حزن بطيء الخطى خلف كل جملة، يمكن اعتباره موسيقى تصويرية لمشهد سينما جنائزي، وهو ما يفرد مساحة الصوت الشعري، ليتحول إلى تجربة متكاملة، تبحث عن ذات لا تنكر الموت والقسوة والخيانة والفقد والحروب، وإنما تجلس معها على نفس الطاولة، لتعرف ماهيتها.
“قلبي الذي لم يأمن غدر البيوت” مجموعة شعرية محاطة بسلك شائك، شاهدتها وأنا خارج من محيطها، مستمرة في إحراق المراكب الممددة على الشاطئ داخل ذوات كل من حدّثتهم عنها.
..


