
لم أكن أقف أمام مبنى من حجر وزجاج، بل أمام ذاكرة حيّةٍ للبشرية، تُحدّثك عن الحضارة كما يُحدّثك البحر عن أسراره.
ليست مكتبة فحسب، بل روح من الضوء تواصل ما بدأه الإنسان منذ أن كتب أول حرفٍ على الطين، وجعل من الكلمة طريقًا إلى الخلود.
حين أُعيد بناء مكتبة الاسكندريك الحديثة في مطلع الألفية الجديدة، لم يكن الهدف إعادة بناء جدرانٍ، بل إحياء فكرةٍ خالدةٍ. فقد أرادت مصر أن تقول للعالم: إن النار قد تحرق الورق، لكنها لا تحرق الفكر، وإن المكتبة — وإن غابت قرونًا — يمكن أن تعود لتُعلن ولادة جديدة للنور… كأنما هي عروس البحر خرجت من شاطئ الاسكندرية لتُعطي الأرض قُبلة الحياة.
بهندستها الفريدة التي تميل نحو البحر كعينٍ تتطلّع إلى الأفق، صارت المكتبة رمزًا للعطاء الثقافي، ومختبرًا للعلوم والآداب والفنون، ومركزًا تتقاطع فيه طرق الحضارات.
تضم المكتبة اليوم ملايين الكتب والمخطوطات، ومراكز بحثية متخصصة، ومتاحف وقاعات ومعارض، ولكن جوهرها الحقيقي ليس ما تحتويه من مقتنيات، بل ما تبثّه من وعيٍ وإنسانيةٍ.
إنها المكان الذي يُعيد تعريف علاقة الإنسان بالمعرفة، ويذكّره أن القراءة ليست ترفًا، بل شرطًا للبقاء، وأن الأمم لا تُقاس بعدد أبراجها، بل بعدد عقولها.
لمكتبة الإسكندرية مكانة خاصة في الوجدان العربي، فهي جسر بين الشرق والغرب، ومرآةٌ لروح المتوسط التي جمعت على ضفافها الفلاسفة والعلماء والشعراء.
وفيها يجد الزائر العربي نفسه أمام تاريخٍ يخصّه، وثقافةٍ تتحدث بلغته، وكتابٍ يذكّره أن المعرفة كانت دومًا أقدر من السيف على حفظ الوجود.
هذه الأفكار راودتني وحاورتُ فيها ذاتي منذ دخلتُ مكتبة الإسكندرية في صباح الأربعاء الماضي 28 اكتوبر، فشعرت أنني أمام أيقونة للمعرفة على هيئة صرح معماري بديع.
في ذلك اليوم جلستُ إلى جانب المفكر الدكتور عبدالحسين شعبان ضمن ندوة فكرية ، نتبادل الحديث عن الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، عن عنفوانه وشعره، وعن وفائه لعمود الشعر العربي رغم اجتياح الحداثة.
وقد بدأنا الحديث بطبيعة الوفاء عن الدكتورة سعاد الصباح، التي جمعتنا بها المحبة والفكر، فاستحضرنا مواقفها الداعمة للثقافة العربية، ومبادراتها في تكريم الأدباء والمبدعين، وتأسيسها للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في ليماسول عام 1983، وتبرّعها بمقرّها في القاهرة، وما تمثله من رمزٍ للوعي الإنساني العربي.
كانت ندوة فكرية عربية بهيّة أدارها المدير العام للمكتبة الأستاذ الدكتور أحمد زايد الذي تفضل بقراءة كلمة الدكتورة سعاد الصباح التي أبدعت قي صياغتها وهي تتحدث عن مصر حيث ولادتها الفكرية وعن الاسكندرية تحديدا حيث ولادة ابنتها الأولى (الشيخة أمنية عبدالله المبارك) ، وقد تألقت الندوة بحضور عدد من الرموز تقدمهم الرئيس اليمني الأسبق علي ناصر محمد، ووزير خارجية ليبيا الأسبق محمد الدايري، وعدد من المفكرين والأدباء من مصر والعراق واليمن ودول الخليج.
كانت النقاشات في تلك الندوة ثرية وعميقة، امتزجت فيها التجارب والرؤى، وتلاقى فيها صوت المشرق والمغرب والخليج في حضن البحر المتوسط، في مشهدٍ ثقافيٍّ يليق بمكتبةٍ خُلقت لتكون بيتًا للعقل العربي والإنساني معًا.


