أدبشخصيات

تأملات في طفولة أحمد التوفيق بإماريغن (الجزء الأول)

الذاكرة والكينونة في سفح الظل

د. حمزة مولخنيف. المغرب

بقلم: د. حمزة مولخنيف. المغرب

تشكل رواية والد وما ولد -طفولة في سفح الظل- مدخلًا فريدًا لفهم مشروع أحمد التوفيق السردي، فهي ليست مجرد استعادة لطفولة بعيدة في قرية منسية على أطراف إماريغن، بل هي إعادة بناء معرفية وفلسفية لمرحلة التكوّن الأولى للذات، في علاقتها بالزمان والمكان، بالآخرين وبالذاكرة، وبالكون الروحي والاجتماعي الذي يحيط بها. يتعامل التوفيق مع الطفولة هنا باعتبارها عمقًا إنسانيًا لا يستنفد، وحقلًا للتحولات العميقة التي تُشكّل الإنسان وهو ما يزال في طور الاكتشاف، ولا يكتب الرواية كمن يسترجع ذكريات، بل كمن يعيد تأويلها بمنظار المعرفة المتأخرة، ليُظهر كيف تتشابك بواكير التجارب مع جذور الهوية وملامح الكينونة.

منذ الصفحات الأولى، يجد القارئ نفسه داخل عالم قروي نابض بالتفاصيل، عالم يتجاوز الحدود الجغرافية ليصبح بنية معرفية ونفسية وروحية. القرية في إماريغن ليست مجرد فضاء خارجي، بل هي معمل لتشكّل الذات. كل بيت وكل شجرة وكل حجر، كل عادة وطقس، لهم دور في تشكيل شخصية الطفل الراوي. القرية تتجلى كنسيج حي يضم البشر والطبيعة والأشياء والعادات، وتتحرك فيه الشخصيات ضمن شبكة من العلاقات التي تمثل خلاصة الثقافة القروية المغربية في منتصف القرن العشرين.

يكتب التوفيق قريته كما تُكتب العناصر الأساسية في حياة الإنسان: بعمق وبحميمية وببحث دائم عن المعنى. فالطفل الذي يعيش طفولته في سفح الظل لا يتفاعل فقط مع الواقع المحيط به، بل هو كائن يمرّن وعيه على قراءة العلامات، على سماع الأصوات القادمة من المجهول، وعلى إدراك المعاني المختبئة خلف تفاصيل الحياة اليومية. لذلك، يصبح العالم الطفولي الذي يقدمه التوفيق أكثر من مجرد سيرة شخصية؛ إنه مرآة لمجتمع كامل في لحظة انتقال هادئة ولكنها حاسمة بين زمنين.

تتخذ اللغة في الرواية موقعًا محوريًا، فهي ليست أداة للسرد فقط، بل هي إطار لفهم العلاقات بين الماضي والحاضر، وبين التجربة والذاكرة، وبين الذات والعالم. يتلاعب التوفيق باللغة ليجمع بين السرد الواقعي والتأمل الفلسفي، بين الحس التصويري والنبرة الروحية. في كثير من المواضع، تتحول اللغة إلى أداة لكشف البعد الوجودي للطبيعة وللأحداث، إذ يستطيع الكاتب أن يجعل من لحظة صغيرة حدثًا محمّلاً بالدلالات.

فالطفل الذي يراقب تغير الفصول، أو يسمع حكايات الجدّ، أو يشارك في عمل زراعي بسيط، هو في الحقيقة كائن ينمو معرفيًا وروحيًا. كل صورة تصف الطفل وهو يجلس على عتبة البيت أو يتأمل الطريق أو يستمع للأذان تتحول إلى لحظة وعي بالكينونة. ولأن الرواية مكتوبة بوعي الراشد، فإن صوت السارد يقدم قراءة مضاعفة للحدث، إذ يراه بعين الطفل وبعين البالغ في الوقت نفسه، وهو ما يمنح الكتابة عمقًا فلسفيًا ويجعلها مشبعة بظلال الزمن.

تمثل العائلة حجر الأساس في تكوين الطفل. الأب بصلابته الأخلاقية ومعرفته الدينية وموقعه الاجتماعي، يمثل رمز السلطة الروحية والموجه الأول لقيم الطفل. الأب في الرواية ليس قاسيًا، ولكنه ليس لينًا أيضًا؛ هو مرآة المجتمع الذي ينتمي إليه: يحمي ويعلّم ويوبّخ ويرشد، ولكنه يترك مساحة للطفل كي يختبر العالم بطريقته الخاصة. هذا التوتر بين الحماية والاختبار يخلق لدى الطفل حسًا مبكرًا بالمسؤولية والحرية، ويضعه أمام سؤال داخلي حول معنى الطاعة وحدود الاستقلال.

أما الأم فهي مركز الحنان والانتماء. حضورها يخفف قسوة العالم الخارجي، ويمنح الطفل استقرارًا شعوريًا يجعله قادرًا على التفاعل مع الحياة دون خوف. الأم في الرواية ليست مجرد شخصية ثانوية، بل هي بنية عاطفية وروحية، تُمثل الطمأنينة وذاكرة الدفء في عالم تزداد تعقيداته. وجودها في حياة الطفل لا يقتصر على الرعاية البيولوجية، بل يمتد إلى بناء الحس الأخلاقي الأولي القائم على اللطف والتعاطف.

الأخوات والجيران والأصدقاء يشكّلون شبكة العلاقات الاجتماعية التي يتعلم منها الطفل العالم، ويكتشف عبرها قيم التعاون واللعب والغيرة والتضامن والاختلاف. كل شخصية -وإن بدت بسيطة- تمثل جزءًا من منظومة تربوية غير رسمية، تتشكل من خلال السلوك اليومي والحكايات والعادات، ونظرة المجتمع إلى السلوك المقبول والمرفوض.

يمثل الفضاء القروي في الرواية أكثر من مجرد مسرح للأحداث، فهو بنية رمزية ودلالية. الجبال التي تحتضن القرية، الحقول، الوديان، الطرق الترابية، كلها عناصر تسهم في تشكيل الحس الجمالي لدى الطفل. هذه الطبيعة ليست صامتة؛ إنها كائن يتفاعل مع الطفل، يعلمه معنى الزمن من خلال تغير الفصول، ومعنى الصبر من خلال انتظار المواسم، ومعنى الغياب والحضور من خلال دورة الحياة النباتية والحيوانية. في بعض المقاطع، تتحول الطبيعة إلى معلم روحي يُنصت الطفل إليه بعفوية، ويشعر أمامه بشيء يشبه القداسة.

من الناحية الأنثروبولوجية، تقدم الرواية نموذجًا حيًا لثقافة الريف المغربي، بما فيها من طقوس وعادات ومناسبات وأشكال تواصل. فالاحتفالات الدينية والأسواق الأسبوعية وموسم الحصاد وجلسات السمر الليلي وحلقات الذكر، وحتى الممارسات الشعبية المرتبطة بالمرض والشفاء والحماية، كلها تدخل ضمن بناء النص الروائي. التوفيق لا يقدّم هذه العناصر كمتواليات فلكلورية، بل يعرضها كأجزاء عضوية من تجربة الطفل وجزءًا أساسيًا من المعرفة الجمعية التي ينتقل بها المجتمع من جيل إلى جيل.

اللعب الطفولي في الرواية ليس نشاطًا عابرًا، بل هو البوابة التي يدخل منها الطفل إلى العالم الاجتماعي. من خلال اللعب، يتعلم قواعد التعاون ومفهوم المنافسة والانتصار والفشل والخيال والابتكار. الألعاب الشعبية التي يذكرها التوفيق—بالرغم من بساطتها—تعمل كرموز ثقافية تشير إلى الطبيعة التلقائية للمعرفة وإلى كيفية اكتساب الطفل للمهارات الاجتماعية الأولى دون تدخّل مباشر من الكبار.

يعطي الجانب الروحي في الرواية بعدًا وجوديًا عميقًا. فالطفل يتعامل مع الدين لا بوصفه مجموعة من الفرائض، بل باعتباره أفقًا للسكينة، ومصدرًا للمعنى. حضور القرآن والمسجد والدروس والأدعية اليومية يكوّن لديه علاقة حية بالروحانية. ينجذب الطفل إلى الأصوات: صوت المؤذن وصوت المقرئ وصوت الجدّ وهو يحكي قصص الأولياء، وكلها أصوات تشكّل ذاكرة سمعية ترتبط بالمكان وما يجري فيه. تظهر الروحانية في الرواية كحالة هدوء وتأمل، وليست كتقليد اجتماعي فقط.

ويتجلى البعد الفلسفي للرواية في الطريقة التي يعيد بها السارد قراءة طفولته. الزمن في الرواية ليس متسلسلًا، بل دائرة تتداخل فيها الذكريات والانطباعات والأسئلة والتأويلات. الطفل يعيش الحدث، والكاتب يقرأه من جديد، فيخلق طبقتين من الوعي: وعيًا أوليا بريئا، ووعيا ثانيا مكتسبا. هذه البنية المزدوجة تجعل الرواية نصّاً فلسفيا قبل أن تكون نصًا سرديًا، لأنها تناقش معنى الهوية ومعنى النشأة ومعنى التعلم، والكيفية التي يتشكل بها الإنسان من خلال تجاربه الأولى.

ومن حيث البناء الفني، يستخدم التوفيق أسلوبًا سرديًا غنيًا بالتنويع: وصف دقيق وحوار وسرد استرجاعي وتأمل وتعليق فلسفي، وتلميحات ثقافية وتاريخية. هذا الأسلوب يسمح بخلق نص متعدد الطبقات، بحيث يمكن قراءته على مستوى سيرة ذاتية، أو دراسة اجتماعية، أو نص فلسفي، أو حتى وثيقة إثنوغرافية للريف المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى