بقلم د. حمزة مولخنيف. المغرب
يمثل الجزء الثاني من رواية أحمد التوفيق والد وما ولد -الطريق إلى المدينة-، امتدادًا لمشروع سردي عميق بدأه الكاتب في الجزء الأول بـ:طفولة في سفح الظل، لكنه يأخذ القراء هذه المرة في رحلة أكثر تعقيدًا في مسار تكوين الذات وتطور الوعي البشري. ففي هذا الجزء يتحول التركيز من الطفولة وعالم القرية المحدود إلى فضاء المدينة الرحب، وهو فضاء ليس مجرد مكان جغرافي، بل هو حقل تجريبي للوعي، ومسرح لاختبار القيم والمبادئ وتشكّل الهوية الفردية في مواجهة الواقع الاجتماعي والتاريخي والثقافي. إن الرحلة إلى المدينة تمثل لحظة فارقة في حياة البطل، إذ يتكامل فيها الماضي مع الحاضر، وتتداخل الذكريات الأولى مع الخبرات الجديدة، ليصبح النص سجلاً دقيقًا لانتقال الإنسان من حالة البراءة والانغلاق إلى حالة الفهم النقدي والمساءلة المستمرة.
الرواية في هذا الجزء تركز على مفهوم التحوّل كأفق أساسي لتجربة الإنسان، وتستثمر في هذا التحوّل البعد النفسي والاجتماعي والفلسفي. فالبطل الذي كان مشدودًا في الطفولة إلى علاقاته الأسرية وجذوره القروية، يجد نفسه في المدينة أمام صراعات مختلفة تمامًا؛ صراعات القيم، والصراعات الطبقية، والتباينات الثقافية، وأيضًا صراع الذات مع الرغبات الجديدة والانبهار بالحداثة، بما يجعل من المدينة اختبارًا للهوية ومختبرًا لفهم الذات في علاقتها بالآخرين.
يتجلى بوضوح في الرواية براعة التوفيق في استخدام اللغة كأداة لخلق طبقات من المعنى، فالنص ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو فضاء للتأمل في تجارب النفس، وتحليل التحولات المعنوية التي تصاحب الانتقال من الطفولة إلى الشباب المبكر. وتصبح اللغة هنا امتدادًا للوعي الذاتي، وأداة لاستكشاف الشخصيات، وكشف التوترات الداخلية التي تعكس الصراع بين الجذور والانفتاح على الجديد، بين المألوف والطارئ، وبين الطمأنينة والقلق.
المدينة في الرواية ليست مجرد مكان للعيش، بل هي رمز للتحديات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تواجه الإنسان في رحلته نحو النضج. فالشخصية الرئيسية على الرغم من كونها مألوفة للقرية، تجد نفسها مضطرة للتكيف مع قواعد المدينة، حيث تختلف الأدوار الاجتماعية، وتتعدد الأصوات والتجارب، ويصبح التعلم من خلال الاحتكاك بالمجتمع ضرورة لنجاة الذات وفهم العالم المحيط. وهذا التباين بين القرية والمدينة يعكس بعمق الرؤية النقدية للكاتب حول العلاقة بين البيئة والثقافة وتشكّل الوعي الإنساني، ويجعل من النص دراسة نفسية واجتماعية للمجتمع المغربي في مرحلة انتقالية بين التقليد والحداثة.
ويظهر جانب آخر مهم في الرواية من خلال تصوير العلاقات الإنسانية في المدينة. فالتوفيق لا يكتفي بوصف التحولات المكانية، بل يركز على التحولات العاطفية والاجتماعية، حيث تتداخل الصداقات الأولى مع التجارب الجديدة، وتبرز النزاعات بين القيم القديمة والجديدة، ويصبح التوازن النفسي للبطل رهينًا بقدرته على استيعاب هذا العالم المعقد. وهنا تتجلى عبقرية الكاتب في خلق توازن بين الواقعية الاجتماعية والدقة النفسية، حيث تتوافق التفاصيل اليومية مع التأملات العميقة في الهوية والوجود.
فمن الناحية الفلسفية، يمكن قراءة الرواية كرحلة تأملية في مفهوم الحرية والاختيار والمصير. فالرحلة إلى المدينة ليست مجرد فعل خارجي، بل هي رحلة داخلية تتعلق بالقدرة على اتخاذ القرار، وفهم العواقب، ومساءلة الذات أمام التغيرات الجديدة. إن البطل بمروره بتجارب متعددة، يواجه أسئلة وجودية حول معنى الحياة والهدف من الوجود، وهو ما يجعل النص نصًا فلسفيًا ضمنيًا، يعكس التأملات العميقة للكاتب في علاقة الفرد بالزمان والمكان والآخر.
بالإضافة إلى ذلك، تكشف الرواية عن حس تاريخي واجتماعي دقيق، إذ تعرض التغييرات التي يشهدها المجتمع المغربي في تلك الفترة، من انتقال من البادية إلى المدينة، ومن تقاليد محلية إلى متغيرات الحداثة، ومن أزمات اقتصادية واجتماعية إلى صراعات قيمية وثقافية. كل هذه العناصر تجعل من الرواية دراسة متعددة الأبعاد، حيث تتقاطع التجربة الفردية مع السياق التاريخي والاجتماعي، ويصبح النص لوحة متكاملة لتاريخ النفس والمجتمع معًا.
وهكذا، فإن «الطريق إلى المدينة» يتجاوز كونها مجرد رواية عن الانتقال المكاني، لتصبح نصًا يعكس التحولات النفسية والاجتماعية والفلسفية، ويقدم رؤية نقدية متعمقة للعلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الجذور والانفتاح، وبين الطفولة والنضج.
يمثل الجزء الثاني من رواية أحمد التوفيق والد وما ولد -الطريق إلى المدينة-، امتدادًا لمشروع سردي عميق بدأه الكاتب في الجزء الأول بـ:طفولة في سفح الظل، لكنه يأخذ القراء هذه المرة في رحلة أكثر تعقيدًا في مسار تكوين الذات وتطور الوعي البشري. ففي هذا الجزء يتحول التركيز من الطفولة وعالم القرية المحدود إلى فضاء المدينة الرحب، وهو فضاء ليس مجرد مكان جغرافي، بل هو حقل تجريبي للوعي، ومسرح لاختبار القيم والمبادئ وتشكّل الهوية الفردية في مواجهة الواقع الاجتماعي والتاريخي والثقافي. إن الرحلة إلى المدينة تمثل لحظة فارقة في حياة البطل، إذ يتكامل فيها الماضي مع الحاضر، وتتداخل الذكريات الأولى مع الخبرات الجديدة، ليصبح النص سجلاً دقيقًا لانتقال الإنسان من حالة البراءة والانغلاق إلى حالة الفهم النقدي والمساءلة المستمرة.

