يقدِّم كتاب قافلة حكايات مغربية للدكتور أشرف أبو اليزيد تجربة سردية ومعرفية فريدة تجمع بين الرحلة والتوثيق والحكاية، وتعيد الاعتبار لصوت الإنسان البسيط داخل جغرافيا المغرب المتعددة. ليس الكتاب تجميعًا بسيطًا لحكايات متناثرة، بل هو بناء سردي قائم على رؤية ثقافية عميقة، يتداخل فيه الذاتي بالموضوعي، واليومي بالأسطوري، والمحلي بالإنساني العام. ومنذ الصفحة الأولى يتبيّن أن المؤلف لا يتعامل مع المغرب بوصفه فضاء جغرافيًا فقط، بل بوصفه كيانًا ثقافيًا وتاريخيًا يمتدّ داخل الزمن ويشكّل هويّة سردية متراكبة يصعب اختزالها في قالب واحد. وهذا الوعي ينعكس على اللغة التي كتب بها الكتاب، لغة تجمع بين دفء الانطباع وحكمة الملاحظة وصرامة التوثيق.
المغرب بلدٌ يقطر جمالا حتى في أبسط جغرافياته. وهو في الجهة المقابلة لنا من القارة السمراء والتاريخ العريق كذلك. الصورة هنا التقطها الفنان الكويتي المصور رضا سالم من الاستوديو المفتوح الذي تولي له وجهها سينما العالم، بواحة ومدينة ورزازات حيث زرنا مواقع تصوير الأفلام العالمية
إن أول ما يلفت القارئ في هذا العمل هو أنه مكتوب بعين رحّالة يفهم أن الحكاية ليست مجرد نص بل هي أثر، وأن الذاكرة الشعبية لا تُقرأ عبر الحكايات نفسها فقط، بل عبر حياة الناس الذين يروونها. فالمؤلف يلتقط السياقات الحافة بالحكايات: الوجوه والروائح والأصوات، التفاصيل الصغيرة التي تُبنى داخلها الحكاية وتشكل بنيتها. هذا الحس بالأثر يجعل السرد داخل الكتاب ليس مجرد “نقل” بل إعادة بناء فنية ومعرفية لما يلتقطه الكاتب من الحياة المغربية اليومية. وهنا تظهر قدرته الواضحة على الانتقال بين مستويات لغوية مختلفة: فحين يوثق يعتمد جملة واضحة رزينة، وحين يروي يعتمد إيقاعًا قصصيًا، وحين يتأمل ينتقل إلى جملة فلسفية تنفتح على الأبعاد الرمزية للمعيش.
القارئ يلاحظ أن الكاتب لا ينطلق من فرضية أكاديمية جاهزة يريد إثباتها، بل من فضول معرفي أصيل تجاه الإنسان المغربي. هذا الفضول يجعله يقترب من التفاصيل الصغيرة باعتبارها مفاتيح كبرى لفهم الثقافة. فالحكاية التي تبدو بسيطة غالبًا ما يُخفي داخلها مجتمعٌ بأكمله طريقة تفكيره، وإيقاع حياته، ونظرته للخير والشر، وللسلطة والقيم والأسرة والخلاص. ولهذا لا يتعامل الكاتب مع الحكايات بوصفها مواد ترفيهية بل بوصفها “مجازات” ثقافية يمكن من خلالها قراءة البنية العميقة للوعي الجمعي المغربي. وهنا تظهر الخلفية الأنثروبولوجية للنص، ليس عبر استعمال مصطلحات جافة، بل عبر طريقة الملاحظة، وطريقة ربط التفاصيل بالسياقات.
تظهر براعة الكاتب الأدبية في قدرته على استحضار المكان المغربي كأن القارئ يسير معه فيه. فهناك وعي جغرافي جميل، يستحضر المدن والقرى والأسواق، الطرق الجبلية والساحات والريف والصحراء والمحيط، وكلها تظهر ليس بوصفها خلفية، بل بوصفها جزءًا من الذاكرة الحية التي تُنتج الحكايات. فالمكان –كما يبدو في الكتاب– ليس إطارًا للأحداث، بل هو فاعل ثقافي له جمالياته وله رمزيته وله طقوسه. كل مدينة يمرّ بها المؤلف تبدو كأنها تحمل طبقة خاصة من الحكي، طبقة لا يمكن فهمها دون فهم طابعها الاجتماعي والتاريخي. إن طريقة تصوير المكان تُظهر أن الكاتب لا ينظر إليه بعين السائح، بل بعين الباحث الذي يعرف أن المكان هو أول خيط في شبكة المعنى.
هذا التفاعل الجميل بين المكان والحكاية هو الذي يمنح الكتاب هويته السردية الخاصة. فالحكاية لا تُروى مجردة، بل محمولة على سياق مكتمل: من يروي؟ لماذا يروي؟ كيف ينظر الراوي إلى نفسه؟ كيف يتفاعل القارىء– السامع مع الحكاية؟ وما الذي يجعل هذه الحكاية بالذات ذات قيمة في ذلك المجتمع؟ هذه الأسئلة، رغم أن الكاتب لا يعلنها صراحة، تظهر مضمّنة في طريقة بنائه للسرد. وهنا تكمن قوة كتابته: فهو لا يفسّر بشكل مباشر، بل يترك للقارئ إمكانية اكتشاف ما وراء الكلمات عبر كثافة المشهد.
أشرف أبو اليريد
إن أسلوب الكاتب يشي بثقافة واسعة وقراءة ممتدة في التراث واللغة والرحلة والأدب العالمي. وهو يكتب بلغة سلسة لكنها رصينة، وبنبرة متأملة دون أن تفقد روح الحكي. وأهم ما يميز لغته قدرتها على تعديل إيقاعها تبعًا للّحظة السردية: ففي لحظات يكتب بجملة مرسلة خدمة للتوثيق، وفي لحظات أخرى يضع القارئ داخل الإيقاع الشفهي كما لو أن الحكاية تُروى في حلقة شعبية داخل ساحة جامع الفنا أو سوق من أسواق الجنوب المغربي. هذا الحضور للإيقاع الشفهي يمنح الكتاب صدقه الفني ويجعله وفيًّا للحكاية المغربية كما تُروى في الواقع.
د. حمزة مولخنيف٫ المغرب وحديث عن كتاب قافلة حكايات مغربية
وليس من المبالغة القول إن المؤلف يشتغل على الحكاية باعتبارها “نصا مفتوحًا” لا ينغلق على معنى واحد. فهو يعلم أن الحكاية الشعبية ليست نصا ثابتًا، بل كائن حيّ يتغيّر بتغيّر الراوي والسياق والزمن. ولذلك لا يسعى إلى تجميد الحكايات أو تقديمها كوثائق جامدة، بل يعرضها ضمن دينامية الحياة المغربية نفسها: دينامية التبدّل والانتقال والتشظّي وإعادة التشكل. وهكذا يتحوّل الكتاب إلى سجلّ حي للذاكرة المتحوّلة، لا للذاكرة الثابتة.
هذا الوعي بدينامية الحكاية يجعل العمل قريبًا من المدرسة الأنثروبولوجية الحديثة، التي ترى أن الثقافة لا تُحفظ بل يعاد إنتاجها باستمرار. ولذلك نجد أن الكاتب لا ينقل الحكايات وحدها، بل ينقل معها “طريقة الحكي”، و”نبرة الراوي”، و”حركة الجسد”، و”الإيماءة”، و”الانفعال”، أي أنه ينقل البعد الأدائي للحكاية الشعبية. هذا البعد مهم للغاية لأنه يذكّر بأن الحكاية ليست مجرد نصّ يُقرأ، بل أداءٌ اجتماعيّ حيّ.
وعلى مستوى المنهج، تبدو مقاربة أبو اليزيد مركّبة تجمع بين ثلاثة مستويات:
مستوى التوثيق، ومستوى التأمل، ومستوى إعادة السرد. وهذا المزج ليس عشوائيًا، بل يخضع لبنية فكرية واضحة: فهو يوثق كي يحفظ، ويتأمل كي يفهم، ويسرد كي يعيد الحياة للحكاية. وهذه الثلاثية تظهر في كل فصل من فصول الكتاب، وفي كل مشهد يرويه، وفي كل لقاء يجمعه مع حكاية أو راوٍ شعبي. ولذلك فبنية الكتاب رغم تعدد مواضيعه تبقى متماسكة لأنها مبنية على رؤية واحدة: رؤية الرحالة الذي يكتب، لا من أجل المتعة فقط، بل من أجل المعرفة.
ويلاحظ القارئ أن الكاتب يدرك تمامًا أن الحكاية الشعبية المغربية ليست نتاجًا للتاريخ فقط، بل نتاج للتجربة الوجودية اليومية. ولذلك لا يكتفي بالحكايات الكبرى، بل يمنح اهتمامًا للتفاصيل الصغيرة التي لا يُلتفت إليها عادة: حركة امرأة في السوق، وتعليق رجل مسن، وإشارة يد طفل، كلمة عامية لها أصل قديم، وصورة عابرة في طريق جبلي. هذه التفاصيل ليست زينة بل مفاتيح لفهم البنية الثقافية العامة. وهذا الحسّ بالتفاصيل يذكّر بأسلوب كبار الرحالة والمستكشفين، الذين كانوا يعرفون أن كل شيء في الحياة اليومية يحمل معنى، وأن المعنى لا يوجد فقط في الأشياء الكبيرة.
يبني الكاتب صورة المغرب ليس بوصفه بلدًا للمدن العتيقة فقط، بل بوصفه فضاءً للذاكرة الإنسانية المتعددة. إن الحكايات التي يوردها هي في جوهرها محاولة للإمساك بروح الإنسان المغربي في لحظته اليومية، في طريقه، في لغته، في بساطته، وفي طريقته في بناء المعنى من خلال القص. وهكذا يبدو المغرب في الكتاب ليس بلدًا يزوره رحّالة، بل عالماً يدخل إليه الكاتب بأدب وتواضع، ويخرج منه وقد حمل جزءًا من ذاكرته.
إلى حَفَدَةِ ابن بطوطة أشعرتني خطواتي في المملكة المغربية أنني برفقة خيط من الحرير يغزل صورا في بساط ريح تحلق أطرافه على شواطيء البحر وعند أقدام المحيط وفي قلب الصحراء وأعلى قمم الجبال، وكأنني في درب عجائبي يسمح للأسطورة والتاريخ أن يتآلفا ويستأنسا الحياة معا. الرحلات التي يتضمنها هذا الكتاب ثمرة سفرات دامت أسابيع على مدار سنوات، تبدأ بالاستعداد للسفر، وتُستهل بأشهر مدنها كازابلانكا؛ الدار البيضاء، وتحيا بالتنقل برا بين شمالها وجنوبها، في وثبات يخفق القلب معها حين يسطر القلم ما يراه، حيا يستذكر التاريخ، وحاضرا يستشرف المستقبل. رحلاتي في بلد أبي الرحالة العرب جميعا؛ ابن بطوطة، أقدمها مع باقة محبة إلى ذكرى الجد الأكبر لهذا الأدب العربي الفريد؛ أدب الرحلة، مثلما أهديها إلى حفدته، الذين وجدت عندهم صدرا رحبا أورثهم إياه الرجل الذي اتسع صدره للعالم، وأخص بالذكر محقق رحلاته العلامة الأكبر الدكتور عبد الهادي التازي. كما أنها باقة ورد أضعها عند عتبة بلد جميل، تدعم جسر المحبة بين المشارقة والمغاربة، وهو الجسر الذي نعتمد عليه ليكون رسالة تواصل بين التواريخ والأجيال والمستقبل المشترك. (الصور في الكويت، بعد تسجيل حوار متلفز مع العلامة الكبير، رحمه الله) أشرف أبو اليزيد صحبة التازي | مقدمة كتاب | #قافلة_حكايات_مغربية
يتّضح من خلال قراءتنا لكتاب قافلة حكايات مغربية أنّ المؤلف يبني رحلته السردية على رؤية معرفية تجعل من “الحكاية” مدخلًا لفهم المجتمع، ومن “الرحلة” وسيلة لتجديد العلاقة مع الذاكرة. فالكتاب لا يجمع بين الرحلة والحكاية بوصفهما شكلين أدبيين فقط، بل يجعلهما آليتين للإدراك: الرحلة لفهم المكان، والحكاية لفهم الإنسان. وهذا الوعي المزدوج يسمح للكاتب بالتحرك داخل النص بحريّة دون أن يفقد جديته، ويجعله قادرًا على بناء خط سردي واسع يضمّ تفاصيل صغيرة ومتباعدة لكنها تتكامل داخل بنية واحدة.
ولعلّ أهم ما يلاحظه القارئ في هذا المستوى هو أنّ الكاتب لا يقدّم المغرب كصورة جاهزة كما تفعل بعض الكتب السياحية أو الانطباعية، بل يقدّمه كبنية متشابكة من المعاني، تحتاج إلى الاقتراب الحذر وإلى الإصغاء العميق. فهو يعرض الأمكنة والأشخاص بوصفهم “نصوصًا حيّة” تستحق أن تُقرأ وتُفهم وتُؤوَّل. ولذلك فإن الرحلة عنده ليست حركة جسدية فقط، بل حركة فكرية ومجازية. وهذا ما يجعل الكتاب غنيًّا على مستوى التأويل، لأن كل مشهد فيه يحمل مستويين من القراءة: مستوى الانطباع الحسي المباشر، ومستوى الرؤية الفكرية التي تتجاوز الحدث.
يُشبه المؤلف في هذا المعنى، الرحّالة الصوفيين الذين كانوا يكتبون الرحلة بوصفها بحثًا عن المعنى. غير أنّه هنا لا يبحث عن المطلق، بل عن “هوية الحكاية المغربية” كما تظهر في وجدان الناس وفي لغتهم اليومية. وهذا البحث يذكّر بمقاربات الأنثروبولوجيين الكبار الذين كانوا يرون أن الحكاية الشعبية ليست مجرد ترفيه، بل هي “شكل من العقل”، أو “منطق ثقافي” يفسّر كيف يرى المجتمع نفسه والعالم. ولذلك يُظهر الكاتب وعيًا بأن الحكاية المغربية ليست نصًا بسيطًا، بل نصٌّ مركّب يتضمن إيقاعًا شفهيًا وأبعادًا رمزية مستمدة من طبقات تاريخية عميقة.
ويتميّز أسلوب المؤلف بقدرته على الاحتفاظ بالحكاية في صورتها الأصلية قدر الإمكان، مع أن يقدّم في الوقت نفسه قراءة لها من موقع المثقف. فالقارئ يشعر بأن الكاتب يحترم الحكاية ويحترم الراوي الشعبي، ويحترم اللغة الدارجة أو الأمازيغية أو العربية الكلاسيكية التي تخرج من أفواه الناس. هذا الاحترام يُظهر حسًّا أخلاقيًا مهمًا؛ فالكثير من الذين يكتبون عن الحكاية الشعبية يميلون إلى تهذيبها أو تلميعها أو إعادة تشكيلها لتناسب ذوق القارئ النخبوي. أما أبو اليزيد فيقدّم الحكاية كما هي، ويترك جمالية النص الشعبي تتجلى بذاتها. لكنه في الوقت نفسه يضيف إلى النص تفسيرًا ضمنيًا، من خلال طريقة عرضه، ومن خلال ارتباط الحكاية بسياقها الواقعي.
هذا المزيج بين الأمانة الأدبية والتحليل الثقافي يظهر خصوصًا في طريقة تعامله مع السرد الشفهي. فالسرد الشفهي في المغرب، كما هو في معظم الثقافات، مبني على “الإيقاع” وعلى “الذاكرة الحيّة”. الراوي الشعبي لا يقرأ من ورقة، بل يروي من ذاكرته، ويستعمل الجسد والصوت والإشارة والنبرة. وهذه العناصر ليست مجرد زوائد بل جزء من بنية النص. وهنا تظهر براعة الكاتب، لأنه يحاول أن ينقل للقارئ كل ذلك الإيقاع دون أن يفرّط في جمال اللغة المكتوبة. فهو يستحضر الوقفات والترديدات والصور البلاغية البسيطة، والاستعارات الشعبية، وحتى المبالغات التي يستخدمها الرواة المغاربة عادة. وهكذا يبقى النص وفيًّا لروح الحكاية، دون أن يفقد أدبيته.
ومما يميّز الكتاب كذلك قدرة الكاتب على الانتقال بين لغات مختلفة داخل الفضاء الثقافي المغربي. فهو لا يتعامل مع المغرب بوصفه مجتمعًا لغويًا واحدًا، بل مجتمعًا متعدد اللغات: العربية الفصيحة، الدارجة، الأمازيغية، الفرنسية، بل وحتى مستويات صوتية وإيقاعية تختلف من منطقة إلى أخرى. وهذه التعددية اللغوية ليست مجرد خلفية تقنية، بل هي جزء من البنية العميقة للهوية المغربية. والحكاية نفسها تتشكل عبر هذه التعددية: فهناك قصص تُروى بالدارجة المغربية، لكنها تحمل رموزًا أمازيغية، وهناك قصص تُروى بالعربية الفصحى، لكنها ولدت في عمق أمازيغي أو صحراوي. وهذه التداخلات يُظهرها المؤلف بدقة، دون أن يضخمها ودون أن يقلل من شأنها. إنه يعرضها كما هي، تاركًا القارئ يكتشف بنفسه كيف أن الهوية المغربية ليست شيئًا أحاديًا، بل فسيفساء معقّدة.
يقدّم الكاتب في كثير من المقاطع صورًا إنسانية مؤثرة، تظهر حسّه الصحفي والأدبي. فهو يلتقط الشخصيات التي يلتقيها، ليس بوصفها “وظائف” في الحكاية، بل بوصفها ذوات لها تاريخ ولها صورة ولها نبرة خاصة. فالمرأة العجوز التي تروي حكاية ليست مجرد راوية، بل هي جزء من الذاكرة الشعبية. والرجل الذي يحكي قصة عن طفولته ليس مجرد راوٍ، بل هو حامل لجروح خفية أو لطموحات مكبوتة. وهكذا تتحول الحكاية إلى نافذة على الذات الإنسانية، لا مجرد قصة تُروى.
ويلاحظ القارئ أن الكاتب يميل إلى التركيز على البعد الإنساني للحكايات، أكثر مما يركّز على عنصر العجائبية أو الخوارق التي توجد عادة في الحكايات الشعبية. فهو لا يسعى إلى إبراز الجانب التخييلي على حساب الواقع، بل يبحث عن العلاقة الدقيقة بين الواقع والخيال. وهذا ما يعطي للكتاب قيمته الفكرية؛ لأن الحكاية هنا لا تُفصل عن المجتمع، ولا تُرفع إلى مستوى الأسطورة، بل تبقى جزءًا من التجربة الإنسانية اليومية، حتى وإن كانت محاطة بعناصر من الخيال الشعبي.
ومن أهم جوانب القوة في الكتاب هو طريقة الكاتب في ربط الحكايات بالسياق التاريخي. فهو يذكّر بأن الحكاية ليست منفصلة عن التاريخ، بل هي طريقة للتعبير عنه في مستوى شعبي. فالكثير من الحكايات تحمل إشارات إلى الصراع الاجتماعي، أو إلى التحولات الاقتصادية، أو إلى أثر الاستعمار، أو إلى العلاقة بين السلطة والشعب، أو إلى الانقسامات الطبقية. هذا الربط بين الحكاية والتاريخ لا يتم بشكل مباشر، بل يظهر ضمنيًا من خلال السرد. وهذه الطريقة أكثر فاعلية من التفسير الأكاديمي المباشر لأنها تجعل القارئ يكتشف التاريخ وهو يعيش الحكاية.
ويبدو أن المؤلف يعي أن الحكاية الشعبية المغربية تحمل في داخلها “فلسفة خاصة”، فلسفة غير مكتوبة ولكنها موجودة في الوعي الجمعي. وهذه الفلسفة تظهر من خلال طريقة تصور الخير والشر، الحيلة والذكاء، القدر والجشع، العلاقة مع الآخر، والأنماط المتكررة القريبة مما يُسمّى في الأنثروبولوجيا ب :“البنية العميقة للحكايات”. ولذلك فإن قراءة الكاتب ليست مجرد قراءة وصفية، بل هي قراءة تفسيرية تجعل الحكاية نافذة على منظومة التفكير الشعبي المغربي.
وهناك جانب آخر مهم في الكتاب، وهو أن الكاتب يعرض نفسه داخل النص. فهو لا يختبئ وراء موضوع الكتاب، بل يظهر كذات تتفاعلوتتأمل وتستغرب، وتتعلّم وتطرح الأسئلة. وهذا الظهور ليس غطرسة سردية، بل جزء من بنية الكتاب. فالحكاية ليست “شيئًا خارجيًا” عن الكاتب، بل علاقة بينه وبين الأمكنة والناس. والكاتب ينجح في أن يجعل القارئ جزءًا من هذه العلاقة، لأنه يكتب بجملة صادقة وبنبرة إنسانية، وبأسلوب متوازن يقدّم ذاته دون أن يفرضها.
هذه الذات الكاتبة تشتغل داخل الكتاب باعتبارها “وسيطًا معرفيًا”. فهي تنقل النص الشعبي إلى نص مكتوب، لكنها لا تتعالى عليه. وهي تُعيد السرد، لكنها لا تغيّر جوهر الحكاية. وهي تُفسر الحكايات ضمنيًا، لكنها لا تصادر على القارئ معنى جاهزًا. وهذا التوازن بين السرد والذات والموضوع واحد من أجمل وأصعب ما في الكتاب.
يصير الكتاب ليس مجرد مجموعة حكايات، بل “حوار” بين المؤلف والمغرب، بين الرحالة والمكان، بين النص والذاكرة. وهذا الحوار هو الذي يعطي للكتاب قيمته الأدبية والمعرفية، لأنه يفتح مساحات واسعة للقارئ ليتأمل الصورة ويقرأ ما وراءها.
يستمرّ كتاب قافلة حكايات مغربية في تقديم المغرب كنسيج من السرديات الصغيرة التي تكوّن في مجموعها السردية الكبرى للذاكرة الوطنية، فلا يعود القارئ أمام مجرد متوالية من القصص، بل أمام بنية ثقافية حية تتشكّل من أصوات عديدة، ومن أعمار مختلفة، ومن مناطق تتداخل فيها الجغرافيا مع الهويات اللغوية والاجتماعية. هذا الامتلاء بالأصوات يمنح الكتاب طابعًا تعدديًّا واضحًا، أقرب ما يكون إلى “الكورال الحكائي” الذي يشتغل على مستويات متوازية: مستوى الصوت الشعبي، ومستوى صوت الكاتب، ومستوى صوت التاريخ. وهذا التعدّد لا يخلق تشويشًا في البنية السردية، بل يمنحها قوة وغنى، لأن الكتاب مبني أصلًا على فكرة أن الحكاية ليست مِلْكًا لصوت واحد، بل هي ملك جماعيّ، وأن العمل السردي الذي يسعى إلى حفظ الذاكرة لا بد له أن يفسح المجال لكلّ هذه الأصوات.
إن قدرة المؤلف على خلق هذا التعدد داخل بنية الكتاب ناتجة عن وعيه بالهويّة السردية المغربية نفسها. فالمغرب بلد متعدد الثقافات والألسن والطبقات، وحكاياته تنبع من هذا العمق المركّب. فهناك الحكاية الأمازيغية التي تحمل في داخلها إيقاع الجبال وصرامة الطبيعة، وهناك الحكاية العربية التي تتغذى من المشرق لكنها تصطبغ بطابع محليّ خاص، وهناك الحكاية الصحراوية التي تولد من الفضاء المفتوح ومن حياة الترحال، وهناك الحكاية الحضرية التي تحمل آثار الاحتكاك التاريخي بين المغرب وأوروبا. هذا التنوع لا يُقدَّم في الكتاب بوصفه اختلافًا، بل بوصفه ثراءً. والمهم أن الكاتب لا “يشرح” هذا التنوع، بل “يُجسّده” من خلال السرد نفسه، لأن كل حكاية تأتي من مكان مختلف ومن راوٍ مختلف ومن سياق اجتماعي خاص.
وما يلفت الانتباه في قراءة الكتاب هو أنّ المؤلف لا يكتب عن “المغرب” بوصفه موضوعًا خارجيًا يحتاج إلى تحليل، بل يكتب معه ومن داخله وإليه. إنه لا يتعامل مع الحكاية المغربية بوصفها مادة غريبة عنه، بل بوصفها موضوعًا إنسانيًاّ يمكن لأي قارئ أن يصله مهما كانت خلفيته. وهذا ما يجعل السرد في الكتاب سلسًا دون أن يفقد عمقه، وقريبًا دون أن يفقد صرامته. فهناك وعي واضح بأن الحكاية الشعبية المغربية –رغم محليتها– تحمل في داخلها أسئلة إنسانية كبرى: العدالة والمصير والغربة والحب والخوف والحكمة، الصراع بين الظلم والإنصاف. وهذه الأسئلة تجعل الحكاية قابلة للتأويل في سياقات متعددة، لأنها تعبر عن جوهر الوجود الإنساني.
إن الكاتب وهو ينقل الحكايات، يشتغل في الوقت نفسه على “تفكيك الصورة النمطية” التي غالبًا ما تُرسم عن المغرب في النصوص السياحية أو الإعلامية. فهو لا يبحث عن الغريب أو العجيب لشدّ انتباه القارئ، بل يبحث عن الحقيقي وعن الإنسان البسيط الذي يحمل داخله حكمة غير مدونة. ولهذا تخرج الحكاية من نطاق العجائبي إلى نطاق الواقعي، حتى وإن كانت مبنية على الخيال. فالعجيب في الكتاب ليس هو “ما فوق الواقع”، بل هو “العمق الإنساني” الذي يظهر من خلال الحكايات. وهذا ما يجعل القارئ يقترب من المغرب بوصفه عالمًا حيًاّ، لا بوصفه فضاءً غرائبيًا يُنظر إليه من بعيد.
ومن أهم المقومات التي تدعم قيمة الكتاب هي طريقة الكاتب في تشكيل الزمن السردي. فالزمن في الحكاية الشعبية المغربية زمن دائري، لا يسير من الماضي إلى الحاضر بشكل خطّي، بل يعود إلى الوراء ثم يقفز إلى الأمام ثم يعود مرة أخرى. هذا الزمن الدائري يُجسّد طريقة التفكير الشعبي، حيث تتكرر الأنماط والأحداث والدروس والعبر، وحيث يُعاد سرد الحكاية نفسها بطرق مختلفة. الكاتب يلتقط هذا الزمن ويدخله إلى نصّه المكتوب بطريقة ذكية، إذ يحافظ على روح الزمن الشفهي لكن في قالب أدبي. فهناك مقاطع تستعيد الماضي كما لو أنه حاضر، وهناك مقاطع تجعل الحكاية تبدو وكأنها حدثت بالأمس، وهناك مقاطع تختلط فيها الأزمنة لتؤكد أن الذاكرة الشعبية لا تعترف بالفواصل الزمنية الصارمة.
هذا التلاعب الزمني يمنح النص عمقه الفلسفي. فالزمن في الحكاية الشعبية ليس مجرد إطار للأحداث، بل هو عنصر من عناصر المعنى. والكاتب ينجح في أن يعرض هذا الزمن بطريقة تجعل القارئ يتساءل عن العلاقة بين الماضي والحاضر في تجربة الإنسان المغربي: هل الماضي زائر يعود باستمرار؟ هل الحاضر ابنٌ للحكاية القديمة؟ هل الزمن يتغير أم يعيد إنتاج نفسه؟ هذه الأسئلة لا تُطرح صراحة، لكنها تظهر من خلال بنية السرد، ولذلك فإن الكتاب لا يقدّم فقط محتوى حكائيًا، بل يقدّم رؤية فلسفية للزمن الشعبي.
ولعل أبرز تجليات الوعي الفلسفي في الكتاب هو اهتمام الكاتب بالعلاقة بين الإنسان والمكان. فهو يقدم المكان بوصفه إطارًا ماديًا من جهة، وبوصفه رمزًا من جهة أخرى. فالمكان المغربي ليس مجرد جغرافيا، بل هو حامل للذاكرة. وداخل هذا المكان تتشكّل الحكايات. ولذلك فإن الكاتب لا يكتفي بوصف المدن والقرى من حيث مبانيها ومظاهرها، بل يركز على الإحساس الذي يتركه المكان في النفس، وعلى الذكريات التي يثيرها، وعلى الطريقة التي يحدد بها سلوك الناس. وهذا ما يجعل المكان في الكتاب ليس مجرد ديكور بل شخصية قائمة بذاتها.
ومما يزيد الكتاب جمالاً هو أن الكاتب يكتب بعين عاشق للغة. فهو يختار مفرداته بدقة، ويوازن بين البساطة والعمق، ويستعمل تشبيهات واستعارات لا تطغى على النص ولكنها تضيف إليه نكهة أدبية خاصة. وهذا الأسلوب يكشف عن ثقافة لغوية واسعة وعن قدرة على جعل اللغة وسيلة للمعنى وليست غاية. فالنص لا يسعى إلى التزيين اللغوي، بل يسعى إلى خلق لغة قادرة على حمل صوت الراوي الشعبي وصوت الباحث وصوت الرحالة في الوقت نفسه.
ومع أن الكاتب يحافظ على حرارة الحكاية الشعبية، فإنه لا يتخلى عن المنهجية. فهو ينتقل في الكتاب من مرحلة الملاحظة إلى مرحلة التأمل، ومن مرحلة السرد إلى مرحلة التحليل، دون أن يكسر إيقاع النص. وهذا التوازن بين متطلبات المنهج ومتطلبات السرد هو ما يجعل الكتاب قابلاً للقراءة الأكاديمية وقابلاً للقراءة الجمالية في آن واحد. فالمؤلف يكتب بروح الباحث لكن بأسلوب الأديب، ويجمع بين التوثيق والدلالة دون أن يقع في فخّ الجفاف العلمي أو في فخّ المبالغة الأدبية.
كما أن القارئ يلاحظ أن الكاتب يمتلك حسًّا تاريخيًا واضحًا. فهو يدرك أن المغرب ليس مجرد مجموعة مناطق، بل هو تاريخ طويل من التفاعل بين الثقافات والحضارات. ولذلك تظهر في الكتاب إشارات ذكية إلى جذور الحكايات، وإلى الطريقة التي تشكّلت بها عبر القرون، وإلى العلاقة بين الحكاية والتاريخ السياسي والاجتماعي. وهذه الإشارات لا تأتي في شكل سرد تاريخي مباشر، بل تأتي في شكل وعي يوجّه طريقة الكاتب في تقديم المادة الحكائية. وهكذا يقرأ القارئ التاريخ وهو يقرأ الحكاية، ويشعر بأن الماضي لا يزال حيًا في الذاكرة الشعبية، وأن الحكاية الشعبية ليست مجرد أثر لغوي، بل هي وثيقة للمخيلة الجماعية.
ومن أهم النقاط التي تستحق الوقوف عندها هي براعة الكاتب في استخدام “المنظور السردي”. فهو لا يفرض منظوره على الحكاية، بل يتحرك داخلها بلطف، كأنه يفسح المجال للراوي الشعبي ليظهر، ثم يتراجع قليلاً ليضع ملاحظته الناعمة، ثم يقترب من جديد ليعرض موقفًا أو إحساسًا مرّ به خلال رحلته. وهذا التنويع في المسافة السردية يعطي للنص مرونة وعمقًا، ويجعل القارئ ينساب بين مستويات مختلفة من السرد دون أن يشعر بانقطاع.
وتظهر أيضًا قدرة المؤلف على خلق “جسر معرفي” بين الثقافة الشعبية والثقافة الكونية. فهو حين يروي حكاية مغربية، لا يغلقها داخل نطاقها المحلي، بل يجعلها تنفتح على التجربة الإنسانية الواسعة. وهذا الانفتاح لا يأتي من توظيف المصطلحات العالمية، بل من كشف البعد الإنساني داخل الحكاية. ولذلك يشعر القارئ بأن المغرب رغم خصوصيته، يحمل في قصصه شيئًا يشبه كل الشعوب: الشوق إلى العدالة، الحنين إلى الماضي، والصراع مع القدر، والخوف من المجهول، والأمل في المستقبل.
وهذا ما يجعل الكتاب ليس مجرد عمل عن “المغرب”، بل عملًا عن “الإنسان” كما يتجلى في المغرب. وهذه النقطة هي التي تمنح الكتاب عمقه وتجعله قادرًا على التواصل مع قراء مختلفين، سواء كانوا مغاربة أو عربًا أو من ثقافات أخرى.
يواصل كتاب قافلة حكايات مغربية تقديم الحكاية الشعبية المغربية بوصفها مظهرًا من مظاهر الوعي الجماعي، وبوصفها أداة لفهم الذات والمجتمع. وفي هذا الجزء من القراءة، يتّضح أكثر أن المؤلف لا ينشغل بالحكايات في ذاتها فقط، بل ينشغل بما يمكن للحكاية أن تقوله عن الإنسان والمكان والزمن. وتبرز هنا منهجيته التي تقوم على النظر إلى الحكاية باعتبارها “وثيقة سردية” تكشف البنية الداخلية للمجتمع المغربي، سواء في تمثّلاته الرمزية أو في عاداته اليومية أو في رؤيته للقيم والسلطة والعدالة.
إن أهم ما يظهر في القراءة المتأنية للكتاب هو أن الكاتب يدرك تمامًا موقع الحكاية الشعبية داخل المجتمع المغربي المعاصر، وكيف أنّ هذا المجتمع –وإن عاش التحولات الكبرى المرتبطة بالحداثة الرقمية– ما زال يحتفظ بذاكرة شفوية قوية تشقّ طريقها داخل الحياة اليومية. فالحكاية ليست فقط جزءًا من الماضي، بل هي عنصر فعّال في تشكيل الوعي الحاضر. وما يقوم به الكاتب في هذا العمل، هو في جانب كبير منه إعادة الاعتبار لهذه الذاكرة التي تهددها السرعة الحديثة، وإعادة إدخالها في صلب النقاش الثقافي. إنه ينظر إلى الحكاية الشعبية كجسر بين الأجيال، وكأداة لربط الماضي بالحاضر، وكوسيلة لفهم التحولات التي يعيشها المجتمع.
ومما يميز الكتاب أن الكاتب لا يسقط في النوستالجيا، ولا يتعامل مع الحكاية الشعبية المغربية بوصفها تراثًا جامدًا يستحق البكاء عليه، بل يعرضها ككائن حيّ ما زال يتنفس ويقاوم الاندثار. وهذا مهم للغاية، لأن الكثير من الأعمال التي تتناول الحكاية الشعبية تسقط في تمجيد الماضي على حساب فهم الحاضر. أما أبو اليزيد فيتجنب هذا الفخّ بذكاء، لأنه يفهم أنّ الحكاية ليست بقايا زمن قديم، بل هي أداة للتعبير عن التوترات الحديثة أيضًا. وهنا تظهر قيمة القراءة الأنثروبولوجية التي يقدمها؛ فهي لم تعد قراءة “فولكلورية” تهتم بالغرابة، بل صارت قراءة ثقافية تهتم بالمعنى.
ويرصد الكاتب من خلال الحكايات ملامح شخصية الإنسان المغربي: طريقة تفكيره ورؤيته للقيم، وعلاقته بالقضاء والقدر وتصوره للذكاء والحيلة، وتمثلاته للخير والشر، ونظرته للسلطة. ففي الكثير من الحكايات يظهر ذكاء الشخصية الشعبية ليس باعتباره ذكاءً أكاديميًا، بل باعتباره قدرة على النجاة في عالم قاسٍ. هذا الذكاء ليس فقط وسيلة للخلاص، بل هو نقدٌ اجتماعيّ غير مكتوب. إذ إن الحكاية المغربية غالبًا ما تجعل البطل من الطبقات الدنيا، لكنها تمنحه ذكاءً يُمكّنه من الانتصار على الظلم أو على أصحاب السلطة. وهذا يعكس موقفًا شعبيًا متجذرًا من علاقة الإنسان بالسلطة، ومن العدالة التي لا تتحقق إلا بالحيلة والدهاء أحيانًا.
ويظهر في الكتاب أيضًا الوجه الأخلاقي للحكاية المغربية. فالحكاية ليست فقط وسيلة للتسلية، بل هي وسيلة لبناء نظام قيمي داخل المجتمع. ولهذا نجد أن الحكاية غالبًا ما تنتهي بعبرة أو درس، سواء كان صريحًا أو ضمنيًا. هذا “البعد التعليمي” ليس نتيجة وعي مباشر من الراوي الشعبي، بل هو نتيجة تراكم تاريخي داخل الذاكرة الجماعية. والحكاية بهذا المعنى، تتحول إلى نوع من “الميثاق الأخلاقي” غير المكتوب الذي يتوارثه الناس جيلاً بعد جيل. والكاتب يلتقط هذا المستوى بذكاء، ويجعله جزءًا من القراءة دون أن يفسد روح السرد.
ومما يمنح الكتاب قيمته الأدبية هو أن الكاتب لا يعرض الحكايات مجردة، بل يدمجها داخل “مشاهد سردية” واسعة. فهو يصف المكان قبل أن يروي الحكاية، ويصف الراوي قبل أن ينقل الكلام، ويصف اللحظة التي ولدت فيها الحكاية. وهذا الأسلوب يجعل النص حيويًا، ويعيد خلق المشهد كما لو أن القارئ يحضره في الزمن نفسه. فالحكاية لا تأتي كجسم بارد، بل تأتي محمّلة بحرارة اللقاء، وحرارة الصوت، وحرارة المكان. وهذا ما يثبت قدرة الكاتب على تحويل المادة الأنثروبولوجية إلى نص أدبي ممتع.
ويبدو أن الكاتب يمتلك حسا عميقًا بالاستعارة. فهو يرى الحكاية كبنية رمزية، وليس مجرد قصة. ولذلك فهو يعيد تأويل العناصر البسيطة ليكشف عمقها. فإذا تحدث الراوي الشعبي عن ساحر، فإن الكاتب يفهم أن هذا السحر هو رمز للقوة غير المرئية داخل المجتمع. وإذا تحدّث الراوي عن الحيوان، فهم المؤلف أن الحيوان في الحكاية الشعبية يمثل نموذجًا أخلاقيًا أو رمزًا لصفة بشرية. وإذا تحدث الراوي عن الصراع بين شخصين، فهم المؤلف أن الحكاية تحمل رمزية أوسع تتعلق بالصراع بين الطبقات أو بين الرغبات أو بين القيم. هذا الوعي بالرمز يمنح القراءة عمقها، ويجعل الكتاب أكثر من مجرد تدوين للحكايات.
ويشتغل المؤلف كذلك على “بلاغة الجسد” داخل الحكاية الشعبية. وهذه نقطة دقيقة جدًا، لأن الراوي الشعبي لا ينقل الحكاية بصوته فقط، بل بجسده أيضًا. يقول بيده كما يقول بلسانه، ويرفع حاجبه كما يرفع صوته. ولذلك فإن الحكاية الشعبية لا يمكن اختزالها في النص المكتوب. وهنا تظهر براعة الكاتب؛ إذ إنه يحاول أن ينقل القارئ إلى الجوّ الكامل للحكاية عبر وصفه لمشية الراوي، وطريقته في الجلوس، وطريقة تحريك يده، والنبرة التي يستخدمها. وهذا النقل ليس وصفًا سطحيًا، بل إدراك بأن النص الشعبي لا يكتمل إلا بالجسد.
ومن الجوانب التي تستوقف القارئ في الكتاب هو اهتمام المؤلف بالعلاقة بين الحكاية والخيال الشعبي. فالخيال المغربي، مثل كل الخيالات الشعبية، وافر وغني، لكنه ليس خيالاً هروبيًا. إنه خيال مُسَيّج بالواقعية، يحاول أن يفسر ما لا يمكن تفسيره عبر الصور والرموز. ولذلك فإن الحكاية المغربية تجمع بين الخيال والواقع دون أن تفصل بينهما بشكل قاطع. وهذا ما يجعل قصص السحر والجن والكرامات والرموز الحيوانية جزءًا من الحياة اليومية داخل السرد. والكاتب يلتقط هذا الخيال دون أن يسقط في عقلية الأسطرة، بل يعرضه كما هو: أداة لفهم العالم، لا هروبًا منه.
ومن الجوانب المهمة أيضًا أن الكاتب ينظر إلى الحكاية بوصفها وسيلة لبناء الهوية. فالمجتمع الذي يروي حكاياته يروي في الحقيقة صورته عن نفسه. ولذلك فإن الحكاية الشعبية ليست مجرد موروث، بل هي “خطاب” يحمل رؤية الجماعة لوجودها. والكاتب يقترب من هذا الخطاب بحسّ نقديّ واضح، فيسائل ما تقدمه الحكاية من قيم، وما تعكسه من تصورات، وما تخفيه من رغبات، وما تبرره أو تنتقده من مواقف. وهذا ما يجعل القراءة نقدية بحق، لأنها لا تكتفي بإعادة السرد، بل تكشف البنية العميقة التي تتحكم في هذه الحكايات.
وبين كل هذه العناصر، يحتفظ الكتاب بنبرة إنسانية دافئة. فالكاتب لا يكتب من أعلى، ولا يكتب بروح الباحث المتعالي، بل يكتب بروح من يجلس مع الناس، يسمع منهم، يبتسم لهم ويفهمهم. وهذه الإنسانية تمنح النص صدقه، وتجعل القارئ يشعر بأن الحكاية ليست مادة قابلة للدراسة فقط، بل هي قصة إنسانية تستحق الاحترام.
تتضح أكثر فأكثر المكانةُ التي يمنحها الكاتب للذاكرة الجماعية باعتبارها مرجعًا حيًا، وليست مجرد أرشيف تاريخي. فالكتاب قافلة حكايات مغربية يتحرك داخل ذاكرة واسعة، لا تُختزل في حكايات محددة، بل تمتد عبر طبقات من السرد الشفهي الذي تناقلته الأجيال. ومن خلال هذه الحكايات، يقدّم المؤلف رؤية عميقة للمجتمع المغربي، تتجاوز الظاهر إلى قراءة ما تختزنه الذاكرة من خوف ورغبة وحلم وتوقعات، ومن رؤى خاصة للعالم. ويبدو أن الكتاب لا يريد فقط أن يحفظ الحكاية، بل يريد أيضًا أن يحفظ “طريقة الوجود” التي تنتجها الحكاية في الوعي الشعبي.
وما يجعل الكتاب فريدًا في هذا الجانب هو أن الكاتب لا يتعامل مع الذاكرة الشعبية بوصفها مادة رومانسية، بل بوصفها نظامًا معرفيًا. فالذاكرة هنا ليست مخزنًا للحكايات، بل هي طريقة في التفكير. ولذلك يذهب المؤلف في كثير من المواضع إلى ما يشبه “التفكيك الهادئ” لطرق تشكّل هذه الذاكرة، من خلال رصد تكرار بعض البنيات السردية، أو استمرار بعض الرموز، أو حضور بعض الأنماط الأخلاقية. فهو يلاحظ، مثلاً، كيف يتكرر دور المرأة الحكيمة في الحكاية المغربية، وكيف تتحول الأم أو الجدة إلى مصدر للمعرفة والحدس. وهذا التكرار ليس اعتباطيًا، بل يعكس الدور الحقيقي للمرأة داخل البنية العائلية المغربية، حيث تكون الحافظة للتقاليد والحكايات.
ومن النقاط اللافتة التي يلتقطها الكاتب أن الحكاية المغربية لا تفصل بين الحياة اليومية وبين الماورائي. إنها تجعل الجن والإنس في عالم واحد، وتجعل الخارق جزءًا من العادي. هذا الاندماج بين المستويين يعكس رؤية شعبية متجذّرة ترى أن العالم أكبر من أن يُحَدّ بالمنطق وحده. ولذلك فإن الحكاية الشعبية تفتح أبوابًا واسعة لتخييل ميتافيزيقي، لكن هذا التخييل ليس تعبيرًا عن انفصال عن الواقع، بل هو تعبير عن طريقة في مقاومة قسوة الحياة. فالإنسان المغربي حين يحكي عن الجن أو عن السحر لا يهرب من الواقع، بل يعيد ترتيب الواقع، ويخلق مساحة للتعبير عن مخاوفه وأحلامه.
ويظهر في الكتاب أيضًا وعي الكاتب بالعلاقة بين الحكاية والسلطة. فالكثير من الحكايات التي ينقلها –وإن بدت بسيطة– تحمل نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا غير مباشر. وهذا النقد يتجلى في السخرية من الظلم، وفي جعل الضعيف ينتصر على القوي، وفي تصوير القاضي إما حكيمًا أو فاسدًا، وفي تمجيد الذكاء الشعبي. وهذه الحكايات، وإن جاءت بشكل رمزي، تمثل وسيلة لتصريف الموقف الشعبي من السلطة. فالراوي الشعبي لا يستطيع مواجهة السلطة مباشرة، لكنه يستطيع أن يفعل ذلك من خلال الحكاية. وهذا ما يسميه بعض الباحثين بـ “السياسة الرمزية”، حيث يتحول السرد إلى وسيلة للمقاومة.
ولا يخفي الكاتب هذا البعد، بل يُظهر أنه يفهمه جيدًا. ولذلك يتعامل مع الحكاية باعتبارها “حكاية مقاومة”، لا مجرد تسلية. إنه يقدم الحكاية كصورة للصراع من أجل الكرامة، وكساحة تتواجه فيها رؤية الشعب مع رؤية المتسلّط، ولو في مستوى رمزي. وهذا التفسير يجعل الكتاب غنيا من الناحية النقدية، لأنه يفتح أمام القارئ إمكانيات واسعة لقراءة البناء الاجتماعي داخل الحكايات.
وما يجعل هذه القراءة أكثر قوة هو قدرة الكاتب على التقاط “اللغة العاطفية” في الحكاية. فالحكاية الشعبية ليست نصًا محايدًا، بل نصٌّ قائم على العاطفة: الخوف، والفرح والحنين والأسى والغضب والسخرية. وهذه العواطف لا تظهر فقط في النص، بل في طريقة الأداء الشفهي نفسها. في بعض المقاطع التي ينقلها الكاتب، يشعر القارئ بالارتجاف في صوت الراوي، أو بالضحكة التي تأتي في غير محلها، أو بالدهشة التي تظهر على وجهه. وهذه التفاصيل ليست صدفًا، بل جزء من البنية السردية للذاكرة الشعبية.
وقد نجح المؤلف في ترجمة هذه العواطف إلى نص مكتوب دون أن يفقد النص صدقه. وهذا أمر صعب للغاية، لأن النص الشفهي قائم على الأداء، بينما النص المكتوب قائم على اللغة. ومع ذلك، ينجح الكاتب في الجمع بينهما عبر أسلوبه السلس وعبر حرصه على الحفاظ على نبرة الراوي. فهو لا يكتب بدلاً عن الراوي، بل يترك الراوي يتكلم، ثم ينسحب خطوة إلى الوراء ليترك للقارئ فرصة الإصغاء. وهذه التقنية تشير إلى وعي سردي مرهف.
ومن الجوانب المثيرة أيضًا في الكتاب هو “البعد الأخلاقي للجغرافيا”. فكل منطقة في المغرب تحمل معها نوعًا من الحكايات، ونوعًا من القيم. فالقرى الجبلية تميل إلى الحكايات التي تمجد القوة والصبر والاعتماد على الذات، بينما تميل الحكايات الصحراوية إلى تمجيد الشجاعة والكرم، وتميل الحكايات الحضرية إلى إبراز الحيلة والدهاء. وهذا التنوع الجغرافي للأخلاق يلتقطه الكاتب دون أن يصرّح به، بل عبر الطريقة التي يعرض بها القصص. فالقارئ يشعر بأن لكل منطقة روحًا خاصة، وأن الحكاية جزء من هذه الروح.
ويبدو واضحًا أن الكاتب يمتلك أيضًا معرفة عميقة بأساليب الرحالة الكلاسيكيين، وبالتحديد أولئك الذين كانوا يتعاملون مع المكان باعتباره نصًا مفتوحًا للقراءة. ولذلك فإن الكتاب يحمل في طياته “تقاليد أدب الرحلة”، حيث لا تكون الرحلة مجرد انتقال مكاني، بل انتقال فكري وروحي. فالمؤلف لا يتحرك من مدينة إلى أخرى فقط، بل يتحرك من معنى إلى آخر، من سؤال إلى سؤال، ومن تجربة إلى تجربة. وهذا التنقل يجعل الكتاب رحلة داخل الذاكرة، وليس داخل الجغرافيا فقط.
ويُلاحظ أيضًا أن الكاتب لا يقدّم نفسه بوصفه “الخبير” الذي يمتلك المعرفة الكاملة. بل يظهر في الكتاب كمتعلم، كمن يدخل إلى عالم جديد ويستمع بتواضع، ويتعلم من الناس. وهذا التواضع السردي مهم جدًا، لأنه يجنّب الكتاب الوقوع في خطاب التمثيل الاستشراقي أو النخبوي. فالكاتب ليس متفرجًا، بل مشاركًا، ليس محلّلًا خارجيًا، بل طرفًا في الحوار. وهكذا تكون الحكاية فرصة للتبادل المعرفي لا للاستهلاك الثقافي.
كما يظهر في الكتاب بوضوح أن المؤلف يمتلك خلفية فلسفية تجعله قادرًا على قراءة الحكاية قراءة رمزية تتجاوز حدود النص. فهناك لحظات يتأمل فيها “الوجود المغربي” ذاته: العلاقة مع الزمن، مع الموت، مع الطفولة، ومع الذاكرة، مع العمل ومع الحب. وهذا التأمل يأتي ضمنيًا، من خلال السرد، وليس في شكل خطاب تنظيري. فالمؤلف لا يفرض فلسفته على النص، بل يستنبطها من تفاصيل الحياة التي يراها. وهذا ما يعطي الكتاب عمقه الحقيقي، لأنه يقدم الحكاية الشعبية كجزء من “الفلسفة اليومية” التي يمارسها الناس دون وعي.
ويظهر الجانب الفلسفي أيضًا من خلال الطريقة التي يتعامل بها الكاتب مع فكرة “الحقيقة”. فالحكاية الشعبية لا تقدم الحقيقة كما هي، بل تقدم “نسختها الخاصة” من الحقيقة، وهي نسخة رمزية معقدة، تحمل الكثير من التأويل. والكاتب يفهم أن هذه الحقيقة ليست خطأً أو وهمًا، بل هي تعبير عن تجربة الحياة نفسها. ولذلك فهو يعرض الحكايات لا ليفضح خطأها أو سذاجتها، بل ليكشف حكمتها. وهذه الحكمة لا تنبع من دقة الوقائع، بل من دقة النظرة التي تحملها الحكاية إلى الحياة.
وبهذا المعنى، يصبح الكتاب ليس مجرد تدوين للحكايات، بل “فلسفة سردية” لفهم الإنسان المغربي. فالحكاية ليست جملة تُروى، بل سؤالًا عن الوجود. وكل قصة تحمل داخلها رؤية معينة للعالم، قد تكون بسيطة لكنها صادقة. وهذه الصدق هو الذي يجعل الكتاب ممتلئًا بالحياة.
يبلغ الكتاب في هذا المستوى من قراءتنا ذروة نضجه السردي والمعرفي، إذ تتكشّف أكثر فلسفة المؤلف في التعامل مع الحكاية المغربية، ويتضح أن المشروع الذي يقوم به ليس مجرد جمع للقصص، بل بناء “خريطة حسّاسة” للوعي الشعبي المغربي، عبر رصد المناطق الخفية في المخيال الجمعي، والبحث عن جذور الصور والقيم والرموز التي تنتقل شفهيًا من جيل إلى جيل. ففي كل حكاية مهما بدت بسيطة، يفتح المؤلف نافذة على عالم أعمق من ظاهرها، عالم تتداخل فيه القيم والتجارب والمعاني والدلالات، وتشتغل فيه الذاكرة كشكل من أشكال المقاومة ضد النسيان وضد تسطيح الهوية.
ويبرز هنا وعي الكاتب بالعلاقة بين “السرد” و“الوجود”. فمن الواضح أن المؤلف يرى أن الإنسان لا يمكن أن يعيش دون حكاية، وأن الحكاية هي أحد أشكال التعبير عن معنى الوجود. وهذا الوعي يحضر في الطريقة التي يعرض بها الحكايات، وفي الطريقة التي يفسر بها سياقاتها، وفي الطريقة التي يقرأ بها البنية الرمزية داخل النصوص الشعبية. فالحكاية ليست مجرد مادة للمتعة، بل هي سؤال وجودي، يطرح على لسان شخصيات بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة في دلالاتها. ولذلك نجد أن الحكايات التي ينقلها المؤلف تحتوي على صراع دائم بين الإنسان ومصيره، بين المعرفة والجهل، بين الخير والشر، بين السلطة والضعف، وبين الأمل واليأس. وهذه الثنائيات ليست جديدة، لكنها تظهر في الكتاب بشكل جديد من خلال الطريقة التي يعيد بها الكاتب بناءها داخل سياق مغربي خاص.
الكاتب الرحالة في سجلماسة
ومن الجوانب المهمة التي تتجلى في هذا الجزء من القراءة قدرة الكاتب على قراءة “الأنساق الرمزية” التي تحكم الحكاية المغربية. فمن المعروف في الدراسات الأنثروبولوجية أن الحكاية الشعبية ليست مجرد نص، بل هي نسق من الرموز. وكل عنصر داخل الحكاية يحمل دلالة، سواء كان مكانًا أو شخصية أو حيوانًا أو فعلًا أو حدثًا. والكاتب يظهر وعيًا عميقًا بهذا النسق، إذ يلتقط الرموز الصغيرة التي قد تمرّ دون انتباه، ويحوّلها إلى مفاتيح لفهم البنية العميقة للحكاية. فعلى سبيل المثال، حين تكرّر الحكاية الشعبية صورة الطريق الطويل، فإن الكاتب يفهم أن الطريق هنا ليست مجرد مسافة، بل هي رمز للبحث، للعبور، للانتقال من حال إلى حال، وربما للبلوغ الروحي. وحين تتكرر صورة البحر، فإنه يدرك أن البحر ليس فقط فضاءً طبيعيًا، بل هو رمز للغموض والخطر والفرصة في آن واحد. وحين يظهر الحيوان الناطق، فإنه يدرك أن الحيوان هنا هو استعارة للصفات الإنسانية التي يرغب المجتمع في نقدها أو تمجيدها.
وهذا البعد الرمزي يجعل القراءة تتجاوز حدود المادة الحكائية لتصل إلى مستوى أكثر عمقًا، حيث تصبح الحكاية مرآة للوعي الجمعي، لا مجرد تعبير عنه. ويبدو أن الكاتب يدرك هذا تمام الإدراك، ولذلك فهو لا يكتفي بنقل الحكاية، بل يعيد ترتيب عناصرها بطريقة تجعل المعنى أكثر وضوحًا وأكثر قابلية للمباشرة الفكرية دون الإخلال بمتعة السرد. وهو هنا يقترب من تقنية “القراءة التأويلية” التي تمزج بين المتعة والفهم، بين النص والعقل، وبين الخيال والتحليل.
وقد نجح المؤلف أيضًا في تقديم “أخلاق الحكاية المغربية”. فكل مجتمع يحمل في حكاياته مجموعة من القيم التي يريد أن ينقلها للأجيال. وفي المغرب، تظهر هذه القيم في عدة مستويات: قيمة الصبر، قيمة الشجاعة والحكمة، وقيمة التضحية، وقيمة الذكاء الشعبي. لكن هذه القيم لا تأتي في شكل مباشر، بل تأتي عبر القصص، وعبر الشخصيات التي تمثل الخير والشر، وعبر النهايات التي تكرّس نوعًا من “العدالة الشعبية”. والكاتب يعرض هذه الأخلاق دون أن يحوّل الكتاب إلى درس أخلاقي، بل يجعل الأخلاق جزءًا من بنية الحكاية نفسها، كما هي في الحياة الشعبية. ولعل هذا ما يمنح الكتاب صدقه وواقعيته، لأنه لا يفرض القيم على القارئ، بل يجعل القارئ يكتشفها داخل النصوص.
وفي الكثير من المقاطع، تتجلّى مهارة الكاتب الأسلوبية من خلال قدرته على خلق لغة تجمع بين البساطة والعمق. فالجملة عنده واضحة، لكنها ليست سطحية. والصورة الأدبية خفيفة، لكنها ليست فقيرة. واللغة الشعبية حاضرة، لكن داخل تركيبة لغوية فصيحة لا تتصادم معها. وهذه القدرة على المزج بين مستويات اللغة هي إحدى علامات الثقافة الواسعة لدى المؤلف، الذي يمتلك حسا لغويًا يسمح له بأن يلتقط جماليات اللغة الشفوية دون أن يضيع في الارتجال، وأن يحتفظ بصرامة اللغة الفصيحة دون أن يفقد دفء السرد الشعبي.
وقد برع الكاتب أيضًا في استخدام تقنية “المشهدية”، وهي تقنية تجعل السرد يصنع مشاهد، لا مجرد أفكار. ففي كثير من المقاطع، يشعر القارئ أنه لا يقرأ نصًا، بل يشاهد فيلمًا بصريًا: يرى المكان ويسمع الأصوات، يشم الروائح ويشعر بالجوّ. وهذا النوع من الكتابة يتطلب حسا بالتصوير وبناء المشاهد، وهي مهارة تندر في الكتابة الأنثروبولوجية عادة، لأنها غالبًا تنشغل بالوصف العلمي دون أن تعطي للمشهد حقه الجمالي. ولكن هنا، تنسجم القيمة المعرفية مع القيمة الجمالية، لأن الكاتب يعي أن الحكاية الشعبية لا يمكن أن تُقرأ بمعزل عن البيئة التي نشأت فيها.
في الراشدية
ومن العناصر التي تكشف عن نضج الكتاب قدرة المؤلف على ربط الحكايات المتفرّقة بخيط سردي واحد. فالكتاب يبدو للوهلة الأولى مجموعة حكايات منفصلة، لكنه في الحقيقة عمل متماسك، لأن المؤلف يجمع هذه الحكايات داخل “رؤية سردية كبرى”، تجعل كل قصة جزءًا من صورة أوسع للمغرب. وهذه القدرة على خلق رؤية شمولية من خلال قصص صغيرة هي علامة على براعة في التخطيط وفي البناء الفني. فالكاتب يدرك أن كل حكاية تمثّل نافذة صغيرة، لكنه من خلال ترتيبها داخل الكتاب يحوّل النوافذ الصغيرة إلى لوحة فسيفسائية واسعة، تُظهر للقارئ وجه المغرب في تنوعه وفي عمقه.
ويظهر البعد الفلسفي أيضًا في الطريقة التي يعالج بها الكتاب مفهوم “الحقيقة”. فالحكاية الشعبية ليست حقيقة تاريخية، لكنها تحمل نوعا آخر من الحقيقة: الحقيقة الوجدانية. فحين يقول الراوي إن الجن خرجوا من البئر، فهو لا يقصد أن الجن خرجوا بالفعل، بل يقصد التعبير عن خوف معين، أو عن تجربة غريبة عاشها الناس، أو عن محاولة لتفسير ما لا يمكن تفسيره. والكاتب لا يسخر من هذا النوع من الحقائق، بل يقدّره ويعطيه قيمته. وهذا التقدير للحقيقة الوجدانية هو ما يعطي الكتاب عمقه الإنساني، لأنه يعترف بأن الحقيقة ليست نوعًا واحدًا، وأن الإنسان يعيش عبر مستويات متعددة من الفهم.
أما على المستوى الأنثروبولوجي، فيقدّم الكتاب مادة غاية في الغنى للباحثين. فهو يقدم الحكاية داخل سياقها الاجتماعي، ويظهر العلاقة بين السرد والاقتصاد، والسرد والعائلة، والسرد والجندر، والسرد والسلطة، والسرد والهجرة، والسرد والتعليم. وهكذا يصبح الكتاب ليس فقط مادةً أدبية، بل أيضا وثيقة ثقافية يمكن للباحثين في العلوم الاجتماعية أن يبنوا عليها دراسات أعمق. إنه يقدم المادة الخام، لكنه يقدمها بطريقة واعية، تجعل النص صالحا للقراءة الأكاديمية وللقراءة العامة معًا.
ومن النقاط التي تستحق التوقف عندها هو أن الكاتب يحرص على أن يظل “الإنسان” في مركز الاهتمام. فالحكايات لا قيمة لها من دون الإنسان الذي يرويها. وهذا الحضور الإنساني واضح في كل صفحات الكتاب. فكل راوي يظهر ليس كشخص مجهول، بل كإنسان له صوت وله وجه وله قصة حياته. وهذا ما يعطي الكتاب جمالا إنسانيا نادرا، لأنه يعيد الاعتبار للمهمّشين وللعاديين، وللناس الذين لا يظهرون عادة في النصوص الأدبية.
وبهذا، يصبح الكتاب احتفاءً بالمغربي العادي، الذي يكد ويكافح، ويحلم ويحكي، ويحمل في داخله ذاكرة أوسع من حياته الفردية. والمثير أن الكاتب لا يتعامل مع هؤلاء الناس بوصفهم “مصدرًا للمادة”، بل بوصفهم “شركاء في السرد”. وهذا ما يمنح الكتاب قيمته الأخلاقية؛ فهو لا يستغل الحكايات، بل يكرّمها.
كلما تقدّم القارئ في صفحات قافلة حكايات مغربية يتّضح أن الكتاب ليس مجرد رحلة داخل الحكاية الشعبية، بل هو أيضًا رحلة داخل الخطاب الثقافي المغربي في أبعاده المتعددة. فالكاتب يُظهر وعيًا شديدًا بأن الحكاية ليست منفصلة عن الواقع الاجتماعي، بل هي جزء من “منطق العالم” الذي يعيشه الناس، وأن درسها لا يُفضي فقط إلى معرفة القصص، بل إلى فهم المجتمع. ومع أنّ الكتاب مكتوب بلغة سردية سلسة، فإن خلفه يقف مشروع معرفيّ واضح المعالم، يطمح إلى إعادة قراءة الذاكرة الشعبية بوصفها “رأسمالاً ثقافيًا” خامًا، يحتاج إلى تفكيك وتأويل وإعادة بناء.
ويبرز هذا المشروع في الطريقة التي يقدّم بها الكاتب الحكايات كـ “حقول للمعنى”، حيث لا تكون الحكاية مجرد قصة ممتعة، بل مساحة لطرح الأسئلة. وهذا التوجّه يجعل الكتاب قريبًا من منهج “الأنثروبولوجيا التأويلية” التي رافق روّادها مثل كليفورد غيرتز، الذي دعا إلى فهم الثقافة بوصفها “نسيجًا من المعاني” ينسجه الناس بأنفسهم. ويمكن القول إن أبو اليزيد، دون أن يذكر ذلك صراحة، يشتغل وفق هذا المنظور. فهو لا ينقل الحكاية من أجل المتعة وحدها، بل يبحث عن الرموز، والعلامات والسياق، والعلاقات الاجتماعية التي تحكم السرد. وهذا ما يجعل الكتاب نصا قابلاً للقراءة على مستويات مختلفة: سرديّة وجمالية وأنثروبولوجية وفلسفية.
إن البنية التي يقترحها المؤلف في كتابه قد تبدو مفتوحة وغير مقيدة بقواعد أكاديمية صارمة، لكنها في الواقع تمتلك صرامة داخلية، لأنها مبنية على منطق “الرحلة”. والرحلة في هذا الكتاب ليست مجرد حركة في المكان، بل هي حركة في المعرفة. فكل انتقال من منطقة إلى أخرى، ومن راوٍ إلى آخر، ومن قصة إلى أخرى، يمثل انتقالاً من معنى إلى معنى، ومن طبقة ثقافية إلى طبقة أخرى. وبذلك تتحول الحكايات إلى علامات على طريق طويل، يقطعه الكاتب كما يقطعه القارئ، مما يجعل عملية القراءة نفسها تجربة.
ومن خلال هذا البناء، يتضح أن المؤلف يرفض أن يغلق الحكاية في قالب واحد أو أن يجردها من تعدديتها، وهذا الرفض نفسه يعكس رؤيته للهويّة المغربية: هويّة متعددة، مرنة، قابلة لأن تحمل تناقضاتها دون أن تتفكك. وهذا ما يجعل الكتاب شهادة قوية على التعدد الثقافي المغربي. ففي الحكايات التي ينقلها المؤلف نجد أصوات المزارع والصانع والحكواتي والمرأة المسنّة والطفل والأمازيغي والعربي والصحراوي والجبلي. وهذه الأصوات لا تبرز بوصفها جزراً منفصلة، بل بوصفها فروعًا لشجرة واحدة. وهكذا تظهر الهوية المغربية لا كصراع بين الانتماءات، بل كتعايش بينها.
ومن العناصر التي تستوقف القارئ في هذا المستوى من القراءة هو طريقة الكاتب في التعامل مع “اللغة”. فاللغة هنا ليست وسيلة للتواصل فقط، بل هي “فضاء ثقافي” كامل. والكاتب يدرك أن اللغة الشعبية المغربية –بما فيها من تنويعات لهجية وأمازيغية– تحمل داخلها ذاكرةً لا يمكن لأي لغة أخرى أن تنقلها. ولذلك فهو يكتب بلغة عربية فصيحة، لكنه يُضَمِّنها لمسات من الدارجة، ويعطي للغة الشعبية حقها في الظهور دون أن يثقل القراءة. وهذا التوازن بين الفصحى والدارجة والأمازيغية يدل على وعي لغويّ عميق، لأن الكاتب لا يعرض اللغة بوصفها أداة، بل بوصفها “بيت الذاكرة”.
وهنا يبرز جانب آخر مثير في الكتاب: وهو أن المؤلف يدرك أن الحكاية لا يمكن فصلها عن “الصوت”. والصوت في النص الشفهي يحمل معنى إضافيا يفوق الكلمات نفسها. فطريقة الوقف، وطريقة الرفع والخفض، وطريقة الضحك أو التأثر، كلها عناصر تكمّل النص. ولذلك يحرص الكاتب في أكثر من موضع على الإشارة إلى نبرة الراوي، أو إلى طريقة الضحك، أو إلى تبادل النظرات أثناء سرد الحكاية. وهذا كله جزء من “النص الأدائي” performance الذي يشكل جوهر الحكاية الشعبية. ويمكن القول إن المؤلف نجح في نقل هذا الأداء إلى النص المكتوب بمهارة نادرة.
أما من حيث “البنية اللغوية”، فإن الكتاب يقدّم نصا يتراوح بين البساطة والعمق، وبين الوصف والتحليل، وبين الموضوعية والذاتية، دون أن يفقد توازنه. فالكاتب يمتلك قدرة واضحة على تحويل الأفكار المجردة إلى صور حسية، وعلى تحويل الصور الحسية إلى معانٍ فلسفية. وهذا الأسلوب يجعله قريبا من المدرسة الأدبية التي تمزج بين الرحلة والتأمل، وهي مدرسة عريقة في الأدب العربي، ظهرت عند رحالة مثل ابن بطوطة والعبدري والعياشي والغجدامي، ثم عند كتّاب حديثين مثل الطاهر بنجلون، لكنها عند أبو اليزيد تأتي بطابعها الخاص الذي يقوم على الوصف الهادئ، والتحليل العميق، والرؤية الإنسانية.
كما أن المؤلف يشتغل على “الزمن” باعتباره عنصرا أساسيًا في السرد. والزمن في الحكاية الشعبية المغربية، كما سبقت الإشارة ليس زمنًا خطّيا، بل زمن دائري. وهذا الزمن الدائري ينعكس في الطريقة التي تُروى بها الحكاية: العودة المتكررة إلى البداية، وإعادة التذكير بالأحداث، والتعليق الجانبي والاستطراد، والقفز بين الماضي والحاضر. وقد نجح الكاتب في الإمساك بهذا الزمن الشعبي، لكنه أعاد صياغته في زمن أدبيّ يسمح للقراءة أن تبقى ممتعة دون أن تفقد روحها الشفهية.
ويتضح كذلك من خلال قراءتنا أن الكتاب يقدم “نقدًا ضمنيًا للحداثة السطحية”. فالكثير من الحكايات التي ينقلها المؤلف تكشف عن صراع بين القيم التقليدية والقيم الحديثة، وعن تحولات في المجتمع المغربي التي قد تهدد –ولو جزئيًا– هذا التراث الشفهي. لكن الكاتب لا يقدّم هذا الصراع بوصفه مأساة، بل بوصفه حقيقة. ويبدو أنه يرى أن الحداثة يمكن أن تتعايش مع التراث، إذا تمّ التعامل معها بوعي. ولذلك يقدم الكتاب نوعًا من “الوعي الانتقائي”، الذي يحافظ على روح الحكاية، ويجعلها قادرة على العيش في زمن السرعة، من خلال إعادة تدوينها ومنحها فضاء مكتوبًا يضمن استمراريتها.
وعلى المستوى الثقافي، يكشف الكتاب عن عمق “النظرة المغربية للعالم”. وهذه النظرة تتجلى في الحكايات من خلال عدة عناصر: مركزية الأسرة، وتقديس الأم واحترام الكبير، وتمجيد الذكاء الطبيعي، والاعتراف بقسوة الحياة، والإيمان بأن الخير ينتصر لكن ليس دائمًا بسهولة، والسخرية من الظلم، والاحتفاء بالمغامرة. وهذه العناصر تشكل ما يشبه “المعجم القيمي” للوعي الشعبي. والكاتب يلتقط هذا المعجم دون تدخل مباشر، بل يترك الحكايات تتكلم عن نفسها، ويتيح للقارئ أن يستخرج القيم كما لو أنه يعيش داخل المجتمع الذي أنتجها.
ومن أهم الجوانب النقدية التي تستحق الوقوف عندها هو قدرة الكاتب على تحويل الكتاب من مجرد “نقل” إلى “خلق”. فهو لا يعيد إنتاج الحكايات فقط، بل يعيد خلق سياقها، وإعادة تأويلها، وإعادة صياغة علاقتها بهوية المكان. وبذلك يصبح الكتاب ليس مجرد مرآة تعكس الحكاية الشعبية، بل يصبح فضاءً جديدًا للحكاية، فضاءً يعيد تشكيل العلاقة بين الذاكرة النصية والذاكرة الشفوية.
وقد نجح المؤلف في تحقيق هذا التحوّل من خلال اعتماده على ما يمكن أن يُسمى “السرد الرحلي التأويلي”، وهو السرد الذي يجمع بين الحركة في المكان، والحركة في الوعي. وهذه الحركة تجعل القراءة رحلة داخلية أيضًا، لأن القارئ يجد نفسه مضطرًا لإعادة التفكير في معنى الحكاية الشعبية، وفي علاقتها بالهوية وبالفكر وبالحياة اليومية.
ويبدو أن الكاتب يعي أن الحكاية الشعبية المغربية تمتلك قدرة على التعبير عن “المسكوت عنه”. فما لا يستطيع الناس قوله مباشرة –سواء بسبب الخوف أو الأعراف أو السلطة– يظهر في الحكاية. وهذا الوعي يجعل الكتاب عملاً نقديًا بامتياز، لأنه يكشف البنية الخفية للمجتمع من خلال الحكايات. فالحكاية قد تبدو بريئة، لكنها في الحقيقة تفضح العلاقات الاجتماعية، وتحلل البنية الاقتصادية، وتكشف عن التوترات الثقافية.
بهذا المستوى والكم يصير الكتاب صالحًا لأن يكون مرجعا مهما للباحثين في الفكر المغربي وفي الهوية السردية للمجتمع، لأنه يقدم مادة أولية غنية، لكنه يقدمها داخل إطار تحليلي يجعلها قابلة للدراسة وللمقارنة.
يتّضح أن قافلة حكايات مغربية ليس مجرد نصّ يدوّن الحكايات، بل هو نصّ يعيد ترتيب علاقة القارئ بالحكاية، ويعيد ترتيب علاقة الحكاية بالمجتمع، ويعيد ترتيب علاقة المجتمع بذاته. إن الكتاب يقدم المغرب كـ :“نسيج روحي” أكثر منه كجغرافيا، وك :ـ “ذاكرة متحركة” أكثر منه كتراث ثابت. وهذا المنظور العميق يجعل من الكتاب عملاً يتجاوز حدود الأدب والأنثروبولوجيا إلى حدود الفكر الثقافي.
فحين نقول إن الكاتب يتعامل مع المغرب بوصفه نسيجا روحيا، فإننا نعني أنه ينظر إلى الحكاية الشعبية كتصوّر للعالم، لا كمتعة فقط. فالحكاية تُظهر كيف يفهم الناس الخير والشر، وكيف يتعاملون مع الزمن، وكيف ينظرون إلى الغيب، وكيف يتعاملون مع السلطة، وكيف يبنون مجتمعاتهم الصغيرة داخل القرى والمدن. وهذه التصورات ليست مجرد أفكار، بل هي “شعائر سردية”، تتكرر من جيل إلى جيل. والكاتب يتابع هذه الشعائر السردية بمنهج أقرب إلى “الظاهراتية”، حيث يحاول أن يفهم الظاهرة من داخلها، لا من خارجها.
ومن هذا المنظور، تصبح الحكاية أداة لفهم “الوعي المغربي”. وهذا الوعي، كما يعرضه الكتاب، بعيد عن الصور النمطية التي تقدمه تارة كوعي فولكلوريّ وتارة كوعي تقليدي جامد. بل يقدم الكتاب صورة مركّبة: وعيٌ قريب من الأرض، متصالح مع الطبيعة، متكيّف مع الصعوبات، حادّ في ملاحظته، ساخر حين يحتاج إلى السخرية، عميق حين يحتاج إلى الحكمة، واقعيّ دون أن يفقد قدرته على التخيل. وهذه الصفات ليست اختلاقات أدبية، بل تظهر في الحكايات نفسها: البطل الفقير الذي يواجه العالم بذكائه، المرأة الحكيمة التي تعرف أكثر مما تقوله، الطفل الذي يرى ما لا يراه الكبار، الحيوان الذي يتكلم بالحكمة الشعبية،والأرملة التي تواجه قسوة الحياة، والشاب الذي يبحث عن المعنى.
وهذه الشخصيات لا تظهر في الكتاب كأنماط جامدة، بل تظهر كذوات نابضة بالحياة. فالكاتب لا ينقل الحكايات كما لو أنها آثار متحفية، بل ينقلها كما لو أنها كائنات حية. وهذا الوعي هو ما يحفظ للحكاية الشعبية روحها. فالحكاية الشعبية تموت حين تُجرد من صوتها ومن جسدها ومن حركتها. والكاتب يعرف كيف يحافظ على هذه الحيوية من خلال الأسلوب، ومن خلال المشهدية، ومن خلال الحفاظ على الإيقاع الشفهي داخل النص المكتوب.
وما يجعل الكتاب عميقًا أيضًا هو طريقة الكاتب في التعامل مع “الزمن الثقافي”. فهناك فرق بين الزمن التاريخي والزمن الثقافي. الزمن التاريخي يتقدم إلى الأمام، بينما الزمن الثقافي يتكرر. والحكاية الشعبية تنتمي للزمن الثقافي، لأنها تُعاد وتُكرر وتُروى بصيغ مختلفة. والكاتب يلتقط هذا الزمن ويحوّله إلى طريقة في السرد: فهو يعود من الحاضر إلى الماضي، ويتحرك بين الأزمنة دون أن يشعر القارئ بالفجوة. وهذا ما يجعل النص أقرب إلى “التأمل الزمني”، وليس فقط إلى الحكي.
وهنا يمكن أن نقول إن المؤلف يشتغل على إعادة بناء “الإحساس المغربي بالزمن”. فالمغربي في الحكاية لا يعيش الزمن بشكل خط دراميّ يتحرك من البداية إلى النهاية، بل يعيش الزمن كدائرة، تعود الأحداث فيها إلى أصلها، وتتشابه القصص رغم اختلاف التفاصيل. وهذا الزمن الدائري يشبه طريقة عمل الذاكرة التي تحفظ الأنماط، لا التفاصيل. والكاتب يستثمر هذا الزمن في بناء كتابه، بحيث تبدو الحكايات منسوجة ضمن “نسيج زمني واحد”، رغم اختلافها.
ومن الجوانب التي تعطي الكتاب عمقه كذلك، أن المؤلف يشتغل على “الفلسفة الشعبية للعدل”. فالكثير من الحكايات التي يعرضها ترتبط بالعدل والظلم بالنصر، والهزيمة بالدهاء، والغباء بالشرف والخيانة. وهذه الثنائيات ليست مجرد عناصر حكائية، بل هي عناصر لفهم الوعي الأخلاقي للمجتمع. فالحكاية المغربية –كما يعرضها الكتاب– لا تقبل الظلم، لكنها لا تنتظر العدل من السلطة. بل ترى أن العدل يتحقق عبر “الحنكة”، وعبر “الصبر”، وعبر “الذكاء الشعبي”، وعبر “المواجهة الرمزية” التي يقدمها البطل. وهذا المنظور يُظهر أن الوعي الشعبي المغربي يحمل حسًّا عميقًا بالعدل، لكنه يعبّر عنه عبر الحكاية، لا عبر الخطاب السياسي.
ويظهر في كثير من الحكايات أن “البساطة” هي القيمة العليا. فالشخصيات الشعبية تظهر متصالحة مع فقرها، لكنها ليست مستسلمة. وهذا ما يجعل الحكاية الشعبية مساحة للتفاؤل القاسي: تفاؤل لا ينكر قسوة الحياة، لكنه يصر على إمكانية الانتصار. وهذه الفلسفة هي التي تجعل القارئ يشعر بأن الحكاية الشعبية المغربية ليست حزنًا فقط، ولا فرحًا فقط، بل هي توازن دقيق بين القبول والمقاومة.
كما أن الكتاب يقدّم نظرة عميقة للعلاقة بين “الإنسان والطبيعة”. ففي الحكايات، ترتبط الشخصيات بالماء وبالجبال وبالبحر وبالصحراء وبالحيوانات وبالأشجار. وهذه الطبيعة ليست مجرد خلفية، بل هي جزء من بناء المعنى. فالبحر يمثل المجهول، والجبال تمثل الثبات، والغابة تمثل الخطر، والبئر يمثل الغيب، والصحراء تمثل التنقل. والكاتب يلتقط هذه الرموز ويعرضها داخل سرد حيّ يجعل الطبيعة شريكًا في الحكاية. وهذا الفهم ينسجم مع الأنثروبولوجيا البيئية التي ترى أن البيئة الطبيعية ليست منفصلة عن الوعي الشعبي، بل هي جزء منه.
ومن الجوانب التي تكشف عمق رؤية المؤلف هو إدراكه أن الحكاية الشعبية ليست فقط حكاية تُروى، بل هي “طريقة للتعايش”. فالمغربي يجد في الحكاية ما يساعده على العيش، وعلى التعامل مع صعوبات الواقع وعلى فهم ذاته، وعلى تصريف انفعالاته. والحكاية هنا تصبح شكلاً من أشكال “العلاج الشعبي” و“الحكمة الشعبية” التي تساعد الفرد على تطمين نفسه وعلى تفسير ما يحدث حوله. وهذه النظرة الوجودية للحكاية واضحة في تحليل الكاتب، الذي يعرض القصص دون أن يحولها إلى مجرد نصوص جامدة، بل يجعلها جزءًا من “اقتصاد العاطفة” داخل المجتمع.
ويتأكد هذا المعنى أكثر حين نلاحظ أن الكاتب لا يتعامل مع الراوي الشعبي مجرد ناقلٍ للنص، بل يتعامل معه كـ “منتج للمعنى”. فالراوي في الكتاب، يمتلك معرفة حتى وإن كانت غير مكتوبة. وهذه المعرفة تظهر في طريقة السرد، في اختيار الكلمات، في طريقة تقديم الأحداث، في الإشارات التي يضيفها، في التعليقات التي يدمجها. والكاتب يحترم هذه المعرفة ولا يقلل من شأنها، بل يعرضها للقارئ بوصفها معرفة حقيقية. وهذا احترام للذاكرة الشعبية، واحترام للإنسان البسيط الذي كان أول “فيلسوف” للحياة اليومية.
وما يزيد الكتاب قوة كذلك هو “حسّ الرحلة” الذي يرافق النص من بدايته إلى نهايته. فالرحلة ليست مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هي بحث عن المعنى. وكل حكاية في الكتاب تمثل محطة من محطات هذا البحث. وهذا الأسلوب يذكّر بأدب الرحلة الكلاسيكي، لكنه هنا يأتي ضمن رؤية معاصرة، لأنه يربط الماضي بالحاضر، ويربط الحكاية بالتحوّلات التي يعيشها المغرب. فالكاتب يلتقط آثار العولمة والهجرةوالتحولات الاجتماعية، لكنه لا يسمح لهذه التحوّلات أن تخفي جمال الذاكرة الشعبية.
وفي هذا المستوى أيضًا، تظهر قدرة الكاتب على خلق “لغة صامتة” داخل النص. وهذه اللغة الصامتة هي ما يقوله الكاتب دون أن يعلن عنه. فهي تظهر في لحظات التأمل، في لحظات الصمت داخل الحكاية، في لحظات التوقف بين جملة وجملة، في نظرات الراوي، في اللحظات التي يكتفي فيها الكاتب بالوصف دون تعليق. وهذه اللغة الصامتة تعكس عمق النص، لأنها تُظهر أن الكاتب لا يريد فرض معنى، بل يريد فتح أبواب للتأويل.
ومن ثم، يتحول الكتاب إلى نصّ غني بالحياة، غني بالمعنى، غني بالإنسان. إنه ليس فقط كتابًا عن الحكايات، بل كتاب عن “كيفية فهم الحكاية”، وعن “كيفية فهم الذات من خلال الحكاية”، وعن “كيفية إعادة تشكيل الذاكرة”.
يبدو كتاب قافلة حكايات مغربية كأنه عالم كامل قائم بذاته، ينتقل فيه القارئ بين الأمكنة كما ينتقل بين الأزمنة، ويعبر عبر الأزمنة كما يعبر عبر مستويات الوعي. فالكتاب يشبه مشهداً بانوراميًا كبيرا للذاكرة المغربية، لكنه مشهد لا يُعرض بطريقة التسجيل الجاف، بل بطريقة الشهادة الحية. وفي كل صفحة من صفحاته، يشعر القارئ أنه أمام نصّ يشتغل على ثلاثة مستويات في آن واحد: مستوى الحكاية، ومستوى الواقع، ومستوى التأمل. وهذه المستويات الثلاثة تتفاعل داخل الكتاب كما تتفاعل عناصر الطبيعة داخل مشهد واحد: لا يمكن فصلها، ولا يمكن النظر إلى أحدها دون الآخر، لأن قوة النص تنشأ من هذا التداخل.
إن المؤلف لا يكتفي بنقل الحكايات كما هي، بل يخلق فضاءً سرديًا جديدًا يجعل الحكايات قابلة للقراءة الحديثة، دون أن يسلبها هويتها. وهذه العملية، في جوهرها، هي عملية “إحياء سردي”. فالحكاية الشعبية إذا انتقلت من الشفهي إلى المكتوب تفقد بعض عناصرها، وتكسب عناصر أخرى. وفنّ الكاتب هنا هو في ترتيب الخسائر والمكاسب بحيث لا يضيع الجوهر. وقد نجح أبو اليزيد في الإمساك بهذا الجوهر عبر لغة حيّة، وعبر فهم عميق لبنية الحكاية الشعبية، وعبر احترام حقيقي للراوي الشعبي.
ومن أبرز ملامح قوة الكتاب أنه يقدّم المغرب بعيون الناس أنفسهم، وليس بعيون الباحثين ولا بعيون الخطاب الرسمي. فالحكايات هنا ليست وسيلة لتمجيد أي وجه سياسي أو اجتماعي، بل هي نافذة على داخل المجتمع. ومن هذا الداخل تتكشّف الحقائق الصغيرة التي تُشكّل الحياة اليومية: الفقر الذي لا يتحول إلى مأساة مطلقة، الغنى الذي لا يتحول إلى استعلاء، الصبر الذي لا يُقدّم بوصفه ضعفًا، الشجاعة التي لا تُقدّم بوصفها بطولة خارقة، بل مجرد قدرة على العيش. وهذه الحقائق الصغيرة هي التي تمنح الكتاب صدقه، وتجعله شهادة أنثروبولوجية ذات قيمة.
وبتأمل عميق في المادة الحكائية، يمكن القول إن الكتاب ينقل “حكمة الضعفاء”، تلك الحكمة التي تنشأ من الاحتكاك المباشر بالحياة، لا من القراءة النظرية. فالشخصيات الشعبية التي تظهر في الحكايات تمتلك قدرة على اختصار العالم في جملة واحدة، أو في تعليق بسيط، أو في فعل صغير، وهذه القدرة تعكس فلسفة عميقة في النظر إلى الأشياء. وقد أحسن الكاتب التقاط هذه اللحظات وتقديمها للقارئ بدون تنميق زائد، وبدون اختزال مخل، لأن هذا التوازن هو ما يحفظ للحكاية روحها.
ومن الناحية النقدية، نجد أن الكتاب يقدم نموذجا مهما لكيفية كتابة التراث الشعبي في صيغة جديدة. فهو لا يقع في فخ التوثيق البارد، ولا يقع في فخ الفلكلرة السطحية، بل يمسك بالخيط الرقيق بينهما، وهو خيط “الاحترام الجمالي”. فالكاتب يحترم الحكاية بوصفها عملاً جماليًا لا يقل قيمة عن الأعمال الأدبية المكتوبة. وهذا الموقف النقدي يعطي للكتاب أهميته داخل النقاش المغربي المتعلق بالتراث الشفهي، لأن التعامل مع الحكاية بوصفها نصا أدبيا يرفع من قيمتها ويحرّرها من النظرة الدونية التي طالما رافقت الأدب الشعبي.
ويتبدّى داخل الكتاب كذلك أن المؤلف يمتلك معرفة واسعة وخبرة طويلة في فهم السياقات المجتمعية التي تحيط بالحكاية. فهو لا يكتفي بتسجيل السرد، بل يتوقف عند الإيماءات ويرصد الوجوه، وينتبه إلى الأصوات ويصف الأماكن، ويوثق أسماء الشخصيات المحلية، ويعيد تقديم البيئة المكانية والزمانية التي نشأت فيها الحكاية. وكل هذا يعطي للنص عمقه الأنثروبولوجي. فالحكاية لا يمكن فهمها دون فهم المكان الذي تنشأ فيه، والكاتب ينجح في تحويل المكان إلى جزء عضوي من السرد.
يظهر لنا جليا أن المؤلف يدرك أن الحكاية الشعبية المغربية ليست نصا بريئا، بل هي نصّ محمّل بالمواقف وبالرموز، وبالأسئلة التي تشغل الناس. ففي الحكايات نجد نقدا للسلطة والظلم والجبروت والخداع، وللشطح الروحي أحيانًا، وللأنانية أحيانًا أخرى. وهذه الرسائل ليست مباشرة، بل تتسرب عبر طبقات السرد، كما تتسرب المعاني العميقة عبر القصص الرمزية في التراث العالمي. والكاتب لا يفرض قراءة واحدة لهذه الرسائل، بل يترك الحكاية مفتوحة على التأويل، وهذا الموقف يمثل نضجا نقديا، لأن الحكاية الشفهية تقاوم التفسير النهائي.
كما أن الكتاب يكشف عن قوة “الهوية السردية المغربية”. فالحكايات التي يعرضها المؤلف متنوعة في مصادرها، لكنها تحمل روحا واحدة، هي روح المغرب. وهذه الروح تظهر في المزج بين الجدية والهزل، بين الحكمة والسخرية، بين الواقعي والعجائبي، بين الفردي والجماعي. وهذا المزج هو ما يعطي للنصوص أصالتها، ويجعلها قابلة للاستمرار عبر الزمن. فالهوية السردية ليست مجموع الحكايات، بل هي “القانون العميق” الذي ينظمها من الداخل. والكتاب يعطي للقارئ فرصة نادرة للاقتراب من هذا القانون.
ومن الجوانب الفنية التي تبرز قوة الكاتب هي قدرته على بناء “وحدة عضوية” رغم تناثر الحكايات. فالكتاب يبدو في ظاهره مجموعة من القصص، لكنه في باطنه نصّ واحد. وهذه الوحدة تنشأ من الرؤية المشتركة، ومن الأسلوب المتماسك، ومن الصوت السردي الذي يرافق القارئ من البداية إلى النهاية. إن صوت الكاتب في هذا الكتاب ليس صوتا سلطويا بل صوت الرفيق، أو صوت المسافر الذي يدعو القارئ ليشاركه الرحلة. وهذه الرفقة السردية هي ما يجعل القراءة لينة وشيّقة رغم ثقل المادة.
ولا يمكن إغفال أن الكتاب يقدّم إضافة نوعية لمفهوم “المعيش الثقافي”. فالكثير من الدراسات الأكاديمية تغفل الجانب المعاش، وتركّز على البنى النظرية. لكن أبو اليزيد يقدم العكس: يجعل “المعيش” هو المدخل لفهم “النظرية”. وهذا المنهج يعطي للكتاب قيمة مزدوجة: فهو مفيد للقراء العاديين لأنه يقدم وقائع ممتعة، وهو مفيد للباحثين لأنه يقدم مادة قابلة للتحليل العلمي. وبذلك يصبح الكتاب جسرا بين عالمين عادة ما يكونان متباعدين: عالم الأدب وعالم الثقافة الشعبية.
وفي المستوى الفلسفي، يظهر أن الكتاب يقدّم مفهومًا جديدًا لـ “الحقيقة السردية”. فالحقيقة في الحكاية الشعبية لا تُقاس بالوقائع، بل تُقاس بالمعنى. والكاتب يلتقط هذا الأمر بذكاء، لأنه لا يسعى إلى التحقق من صحة الأحداث، بل يسعى إلى فهم سبب روايتها. وهذا المنهج يجعل من الحكاية الشعبية نصًا فلسفيًا بامتياز، لأنه يطرح سؤال “لماذا نحكي؟” قبل سؤال “ماذا نحكي؟”. وهنا تظهر قوة الكتاب كبحث ضمني في الفلسفة الشعبية، تلك الفلسفة التي تتكون من التجربة اليومية، ومن الخوف والرجاء، ومن البساطة العميقة التي تمتلكها الشعوب في نظرتها إلى الوجود.
إن قافلة حكايات مغربية هو كتاب يتجاوز حدود التصنيف. إنه ليس أدبًا فقط، وليس أنثروبولوجيا فقط، وليس فلسفة فقط، وليس تاريخًا فقط. إنه نصّ يشتغل على الحدّ بين كل هذه المجالات، نصّ يلتقط النقطة التي تتقاطع فيها الذاكرة الشعبية مع الأدب، ويتقاطع فيها السرد مع التأمل، ويتقاطع فيها التراث مع الحداثة. والكاتب يقدم هذا كله بصوت هادئ وعين راصدة، ولغة شاعرية دون مبالغة، ومنهجية دقيقة دون جفاف.
ومن هنا، تبدو قيمة الكتاب ليست فقط في مادته الحكائية، بل في طريقة كتابته، وفي روحه، وفي احترامه للذاكرة. إنه نصّ ينتمي إلى المستقبل بقدر ما ينتمي إلى الماضي، لأنه يحفظ ما يمكن أن يضيع، ويعيد كتابته بطريقة تسمح له بأن يعيش من جديد. وهكذا يتحول الكتاب إلى “جسر سردي” بين الأجيال، وإلى “مرآة ثقافية” يرى القارئ فيها ذاته ومجتمعه، وإلى “وثيقة أدبية” تحمل جمال الحكاية المغربية بكل تفاصيلها، وإلى “درس في السرد” يمكن للدارسين أن يتعلموا منه معنى الكتابة عن التراث، ومعنى تحويل الحكاية من صوت عابر إلى نصّ خالد.