عبد الغفار شديد … أيقونة تشكيلية في جاليري الذكريات
بقلم الفنان التشكيلي والروائي عبد الرازق عكاشة، باريس

في عام 1993 جاء الدكتور عبدالغفار شديد من ألمانيا إلى باريس حاملًا أعماله لعرضها في المركز الثقافي المصري. كان ذلك عامي الأول هنا، ولم أكن أعلم أن القدَر سوف يضعني في مكانٍ أكبر من عمري آنذاك، لأكون شراع استقبال القادمين، مكمّلًا مشوار العظماء الذين فتحوا أبوابهم للآخرين: العظيم حامد عبدالله، والنبيل الكريم بهجوري.
لم أكن أعرف أن دوري قد حان لتحمّل المسؤولية، لكن هكذا أراد القدَر في باريس.
استقبلتُ الدكتور عبدالغفار شديد، وكان بصحبته صديقه الذي يدرس في باريس، الدكتور محمود كبيش، عميد كلية الحقوق بجامعة القاهرة (حتى وقت قريب).
بدأ الدكتور شديد تنظيم المعرض، ثم كنا نخرج يوميًا. رافقته إلى مكتب جريدة الأهرام لنشر مقال عن معرضه، ولقاء الأستاذ سعيد اللاوندي – رحمه الله – ذلك الرجل الرائع.
ظلّت الذكريات والمراسلات بين ألمانيا وباريس، وظلّت الأسرار التي حكاها لي عن أستاذه الفنان الكبير حامد ندا، وعن آخرين.
ومرت الأيام، ثم في عام 2017 – على ما أظن – جاءت السيدة عبير اللبنانية لحضور ندوتي حول روايتي الشرابية في ساقية الصاوي. تعارفنا، ثم أخبرتني أنها ستزور الدكتور عبدالغفار، وأنه يريد أن يلتقي بي.
ذهبنا، وكان يومًا جميلًا، مليئًا بالذكريات والضحك والعلم، والحديث عن ألمانيا وعن الفنانين التعبيريين الألمان German Expressionists، وعن الفنان العملاق جورج بازليتز Georg Baselitz.
كان يومًا مبهِرًا، وعرض عليّ الدكتور عبدالغفار أن آخذ لوحة هدية، لتكون ضمن متحفي المتخيَّل في ذلك الوقت، إذ كنت أحلم ببنائه. ومن نبل أخلاقي رفضتُ؛ فكيف آخذ لوحة ومتحفي لا يزال فكرةً في خيالي؟
ثم تجدد اللقاء في معرض “إعمار”، وكان بصحبتنا الدكتور مصطفى الفقي، والدكتور حسن عبدالفتاح، والدكتور أحمد عبدالوهاب، وبهجوري.
والله على ما أقول شهيد: كان يهرب من كثير من الناس، ونحتمي في عقول بعضنا، ويقول لي:
“يا عكاشة… من زمان ما اتكلمت فن وثقافة. خلّينا بعيد عن ناس الكلية وناس ما عندهمش موقف في الحياة… خلّينا نستمتع بحوار بعض.”
وفي لحظة الوداع قال:
“ارجع مرسمي في شارع القصر العيني وخُد اللوحة هدية.”
ورفضت.
نزلت من السيارة، أدخلته المصعد، ثم هربت…
هربت من الهدية، ربما لأنها ليست حقًا لي، أو ربما خشيت أن يكون إهداؤه اللوحة ردًّا لدين كرمٍ باريسي قديم… فرفضت بعزة وكرامة.
وفي فجر اليوم التالي سمعت خبر رحيل الأستاذ الدكتور المثقف عبدالغفار شديد.
وتكرر المشهد نفسه الذي حدث من قبل مع الراحل المثقف القدير أحمد فؤاد سليم—نسخة طبق الأصل.
وقرأت الخبر ودموعي تنزل، لكن ما أوجع قلبي حقًا هو ما كتبه المبدع الجميل، الإنسان، الفنان، الأخ الكبير ثروت البحر Sarwat El Bahr.
كان رثاءً قصيرًا، لكنه أوجعني.
رحمك الله يا دكتور عبدالغفار… كلّنا ذاهبون.
المهم هو من يترك ذكرى بصدقه، وشجاعته، ونضاله.
الأرض – يا صديقي المرحوم – تحمل تراب المحبّين.
الأرض جحيم الخائفين، لكنها تتعطّر برائحة المحبين والمناضلين والشرفاء، وفي مقدمتهم الشهداء.
اللهم حقّق لنا حُلم الشهادة،
ونحن واقفون على رصيف العزة والكرامة، رافعين الرأس.
رحمك الله يا د. شديد… فنانًا، وعالِم آثار، ومفكرًا مبدعًا من الطراز الرفيع.



