جاليري

المعنى كحدث: الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا ومآلات الفهم الإنساني

المعنى كحدث

الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا ومآلات الفهم الإنساني

‏حمزة مولخنيف

د. حمزة مولخنيف. المغرب

من الصعب الحديث عن الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا دون الإحساس بأننا نقف عند جذرين من الجذور التي أعادت تشكيل الوعي الفلسفي في القرن العشرين، وأعادت معه صياغة السؤال الفلسفي ذاته. فليس الأمر مجرد تقنيتين أو منهجين، بل مسارا تاريخيا كثيفا من التحوّلات التي طالت نظرتنا للعالم وللوجود وللوعي وللمعنى. إنهما بهذا المعنى من أكثر المدارس الفلسفية قدرة على الجمع بين الدقّة العلمية والبصيرة الوجودية، وبين الطموح نحو تأسيس منهج شامل والرغبة في تحرير التجربة الإنسانية من كلّ أشكال التشييء. ولذلك كان من الطبيعي أن يتحوّلا إلى إحدى أعمدة الفكر الفلسفي المعاصر، تتقاطع معهما كلّ المسارات الأخرى، من الوجودية إلى البنيوية، ومن التحليل النفسي إلى فلسفات اللغة.

حين قال إدموند هوسرل إنّ “العودة إلى الأشياء ذاتها” هي مهمة الفلسفة، لم يكن يشير إلى الأشياء بوصفها موجودات خارجية متعينة، بل إلى الأشياء كما تُعطى في الوعي، أي كما تتجلى وتنكشف وتظهر. لقد كان مشروعه محاولة جذرية لإنقاذ الفلسفة من النزعة الوضعية التي حولت العقل إلى أداة حسابية، ومن النزعة السيكولوجية التي اختزلت الوعي إلى وقائع نفسية. كان يسعى إلى تأسيس علم للظواهر، علم لا ينطلق من افتراضات ميتافيزيقية، ولا من نماذج علمية جاهزة، بل من التجربة الحية كما تُعاش وتُدرك. ولذلك فإن الفينومينولوجيا منذ بداياتها، لم تكن مجرد نظرية بل حركة لتحرير الفكر.

ولكي يفهم القارئ طبيعة هذا التحرير، لا بد من استحضار المناخ الفلسفي في نهاية القرن التاسع عشر، حيث بدا أن الفلسفة قد فقدت دورها التقليدي في توجيه المعرفة. فالعلم الطبيعي حقق تقدما مذهلاً، والفكر السيكولوجي برز بوصفه علما للوعي، والاتجاهات الوضعية بشّرت بإمكان تفسير العالم من خلال الوقائع القابلة للقياس فقط. هنا جاء هوسرل ليقول إن كلّ هذا التقدم العلمي مهما بلغ، لا يجيب عن السؤال الأساسي: كيف تُعطى لنا الظواهر في الوعي؟ وكيف يمكن أن يكون المعنى ممكنا؟ وكيف يمكن للعالم أن يكون مفهوما أصلاً؟

إنه بهذا المعنى يعيدنا إلى نقطة تأسيسية: العلاقة بين الذات والعالم. فالفينومينولوجيا ليست نظرية في الوعي بالمعنى التقليدي، بل محاولة لفهم كيف ينكشف العالم للإنسان قبل كلّ تنظير وقبل كلّ لغة، أي في “ما قبل-الانعكاس”، حيث التجربة الحية تسبق المفاهيم. وهذا ما جعلها قريبة من تيارات روحية وأخلاقية ـ دون أن تكون دينية ـ وقريبة من ممارسات تأملية عرفتها حضارات مختلفة، لكنها تحوّلت مع هوسرل، إلى منهج دقيق مستخدما مصطلحات مثل “القصدية”، “الردّ الفينومينولوجي”، “الحدس العياني”، و“الأفق الدلالي”.

غير أنّ الفينومينولوجيا الهوسرلية لم تبق على حالها، بل سرعان ما تحولت إلى شيء آخر مع تلامذة هوسرل، وعلى رأسهم مارتن هايدغر، الذي رأى أن الفينومينولوجيا كما صاغها أستاذه بقيت أسيرة تصور “وعياني” للوجود. بالنسبة لهايدغر، ليست المسألة كيف تظهر الأشياء للوعي، بل كيف يكون الوجود نفسه ممكنا، وكيف يوجد الإنسان في العالم قبل كلّ وعي. ولذلك أطلق عبارته الشهيرة: “الفينومينولوجيا هي منهج الأنطولوجيا”، أي أنها الطريق التي تقود إلى الكشف عن معنى الكينونة. تحول مركز الثقل إذن من الوعي إلى الوجود، ومن التجربة الإدراكية إلى الوجود -في- العالم. وهنا صار الإنسان ليس ذاتا تعرف موضوعات، بل كائنا منفتحا على العالم منخرطا فيه، يسكنه ويشكّل معه وحدة. فالعالم ليس شيئا خارج الذات، ولا الذات شيء خارج العالم؛ كلاهما ينتمي إلى “شبكة انفتاح” أصيلة.

هذه النقلة الوجودية فتحت الباب على مصراعيه أمام تحول آخر لا يقل أهمية: الانتقال من الفينومينولوجيا إلى الهرمنيوطيقا. فإذا كان هوسرل يسعى إلى “عودة للأشياء ذاتها”، وكان هايدغر يدعو إلى “سؤال الكينونة”، فإن تلامذة هايدغر، وعلى رأسهم هانس-غيورغ غادامر، رأوا أن كلّ ظهور وكلّ تجربة وكلّ فهم هو في الحقيقة تأويل. الإنسان لا يقف أمام العالم مباشرة، بل يعيشه من خلال تاريخ ولغة وتقاليد وانتماء رمزي وثقافي. المعنى ليس معطى جاهزا، بل يُبنى في فعل الفهم نفسه. وهكذا أصبحت الهرمنيوطيقا، التي كانت في الماضي مجرد تقنية لتفسير النصوص المقدسة، فلسفة للفهم الإنساني ذاته.

إن غادامر في عمله الضخم “الحقيقة والمنهج”، لا يكتفي بتطوير منهج للتأويل، بل يعيد تعريف علاقة الإنسان بالعالم. فالإنسان بالنسبة له كائن تاريخي لغوي، لا يمكن فصله عن لغته ولا عن تقاليده. من هنا يستعير عبارة هيدغر القائلة: “اللغة بيت الوجود”. ليس المقصود أن الإنسان يعيش في اللغة فقط، بل أن الوجود ذاته ينكشف لنا عبر اللغة، وأن اللغة ليست وسيلة بل أفقا. ولذلك فإن كلّ فهم هو اندماج لآفاق: أفق القارئ وأفق النص وأفق التاريخ، وأفق التقاليد التي ينتمي إليها الطرفان. وعلى خلاف النزعات الوضعية والعلموية، التي كانت تبحث عن منهج “موضوعي” يضع الذات خارج موضوعها، يرى غادامر أن الفهم لا يمكن أن يكون بلا مشاركة؛ وأن الموضوعية ليست غيابا للذات، بل حضورا منفتحا ومتفاعلا.

غير أن أهم ما يجب التأكيد عليه في هذا السياق، هو أن الهرمنيوطيقا لا تُلغي الفينومينولوجيا بل تبني عليها. فالتأويل قبل أن يكون عملية عقلية، هو تجربة وجودية أساسها الانكشاف والظهور.

يمكن القول إن الفينومينولوجيا هي العمق الوجودي الذي يمنح الهرمنيوطيقا مشروعيتها، بينما الهرمنيوطيقا هي البعد التاريخي اللغوي الذي يمنح الفينومينولوجيا واقعية ومعنى. إنها علاقة جدلية لا انفصال فيها: الفينومينولوجيا تحرّر التجربة من التشييء، والهرمنيوطيقا تحرّر المعنى من الجمود.

هذا التشابك بين المنهجين لم يكن مجرد ترف فلسفي، بل استجابة تاريخية لأزمة الحداثة نفسها. فالفكر الحديث، منذ ديكارت انطلق من ثنائية قاسية: الذات في جهة، والعالم في جهة ثانية. ثم جاءت العلوم الحديثة، فعمّقت هذا الانفصال، حين تعاملت مع العالم بوصفه موضوعا قابلاً للقياس، ومع الإنسان بوصفه كائنا يمكن اختزاله إلى بيانات. هنا كان لا بد من فلسفة تعيد الوحدة الأصلية بين الإنسان والعالم. حيث قدمت الفينومينولوجيا هذه الوحدة من خلال تجربة القصدية: كلّ وعي هو وعي بشيء. وقدمت الهرمنيوطيقا الوحدة نفسها من خلال فكرة الانتماء: كلّ فهم هو حدث تاريخي لغوي.

إنّ هذا التحول لم يبق في حدود التأمل الفلسفي، بل أثّر في ميادين واسعة: في الدراسات الدينية، حيث لم يعد النص المقدس مجرد خطاب منغلق، بل جزءا من تاريخ ممتد من التأويل. وفي علم الاجتماع، حيث ظهرت اتجاهات ترفض تفسير السلوك الإنساني عبر السببية وحدها، وتؤكد ضرورة الفهم والتأويل. وفي الفلسفة السياسية، حيث أعيد التفكير في مفاهيم السلطة والشرعية والصراع، باعتبارها أحداثا لغوية ورمزية. وفي الفنون والآداب، حيث لم يعد العمل الفني موضوعا جمالياً جاهزا، بل تجربة مفتوحة تتشكل في تفاعلها مع المتلقي.

ومع ذلك ظلّ السؤال الجوهري مطروحاً: ما المعنى؟ وكيف ينكشف؟ وما الذي يجعل الفهم ممكناً؟ أسئلة كهذه رافقت التحولات الكبرى من الفينومينولوجيا إلى الهرمنيوطيقا، وكشفت عن اختلافات عميقة بين تياراتها المتعددة. ومن خلال العودة إلى نصوص دلتاي وريكور وشلايرماخر وليفيناس، يتضح كيف تشكّل مفهوم الفهم وتطوّر عبر مسار طويل في الفكر الفلسفي الحديث، حيث تداخلت التجربة والتأويل، وتصارعت الرؤى حول طبيعة الوعي والدلالة، ليغدو الفهم نفسه حدثاً تاريخياً يتكوّن في قلب هذا الحوار الفلسفي المستمر.  

حين ننفذ عميقا في البنية الداخلية للفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا، كما ذكرنا سابقا، يظهر أن المسألة لا تتعلق فقط بانتقال تاريخي من هوسرل إلى هايدغر، ثم من الفينومينولوجيا إلى الهرمنيوطيقا، بل بتبدّل جذري في ماهية الفلسفة نفسها. لقد كانت الفلسفة منذ نشأتها اليونانية، تسعى إلى إقامة علاقة يقينية بالعالم، سواء عبر العقل المجرد كما في التراث الأفلاطوني والعقلاني، أو عبر التجربة كما في النزعات التجريبية. غير أن القرن العشرين كشف حدود هذا الطموح، حين برز السؤال: ماذا لو كان الفهم الإنساني نفسه مشروطا بأنماط وجودية وتاريخية ولغوية لا يمكن تجاوزها؟ هنا، لم تعد الفلسفة بحثا عن يقين مطلق، بل مسارا للكشف عن الشروط التي تجعل الظهور والفهم ممكنين. وهذا هو السياق الذي يُدرِك فيه القارئ لماذا أصبحت الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا ركيزتين لإعادة بناء الفلسفة المعاصرة.

لقد حاول هوسرل عبر مشروعه الضخم، أن يؤسس “علما صارما” للظواهر، لكنه لاحظ تدريجيا أن عملية الردّ الفينومينولوجي، التي تهدف إلى تعليق كلّ أحكام الوجود لفائدة وصف تجلّيات التجربة، تقود إلى اكتشاف “الأفق”. وهنا يكمن أحد المفاتيح المركزية لفهم جوهر الفينومينولوجيا: فليس هناك تجربة بلا أفق، ولا معنى بلا سياق. كان هوسرل يريد أن يصل إلى “ما هو قبلي”، إلى بنية الوعي في صفائها، لكن كلما تعمّق في التحليل، كلما ظهر له أن التجربة الإنسانية ليست مجرد معطى حدسي، بل بنية معقدة من التلاقيات والتوقعات والانتماءات. إننا لا نرى الأشياء كما هي، بل كما تفتح نفسها لنا ضمن أفق معين. وهذا “الأفق” ما سيلتقطه هايدغر لاحقا ليقيم عليه بناءا أنطولوجيا، ثم سيحوّله غادامر إلى مبدأ لغوي-تاريخي في الهرمنيوطيقا.

تبيّن الفينومينولوجيا أن الوعي ليس جوهراً منغلقاً على ذاته، بل هو حركة قصدية تتفتح من خلالها الموجودات. غير أنّ ما ظلّ هوسرل يومئ إليه دون أن يصرّح به هو أنّ هذه الحركة لا يمكن فهمها إلا انطلاقاً من وجودٍ سابق للذات في العالم. وهنا يتقدم هايدغر ليجعل الفهم شرطاً أنطولوجياً لوجود الإنسان، لا مجرّد ملكة معرفية تضاف إليه. فالإنسان لا يفهم لأنه يمتلك قدرة خاصة، بل لأنه منفتح بطبيعته على الوجود، مفتوح عليه قبل كل تفكير. ومن ثمّ يغدو الوجود نفسه، قبل أن يكون معطى للوعي، انكشافاً وتجلّياً، وتغدو مهمة التحليل الفلسفي تتجاوز وصف ظهور الأشياء إلى تفكيك الكيفية التي ينفتح بها الوجود ذاته.

ومن هذه النقطة الأنطولوجية سينبثق التحول الهرمنيوطيقي. فالفهم كما صاغه غادامر، ليس فعلاً عقليا محضا، ولا مجرد تفسير لعلامات لغوية، بل هو حدث يُكمِل تاريخ العالم. عندما أقرأ نصا أو أقف أمام قطعة فنية أو أستمع إلى حكاية، فإن ما يحدث ليس استعادة لمعنى ثابت كان موجودا في الماضي، بل توليد لمعنى جديد. وهكذا يصبح الفهم ليس مجرد عملية معرفية، بل “حدثا وجوديا”. ومن هنا جاءت عبارته الشهيرة: “الوجود الذي يمكن فهمه هو لغة”. وهذه العبارة التي قد تبدو شعرية، تحمل ثقلا فلسفيا عميقا، لأنها تجعل اللغة ليست وسيطا بين الذات والعالم، بل المكان الذي ينكشف فيه العالم.

ولعل أهم ما يميز الهرمنيوطيقا الغداميرية هو هذا الربط بين الظهور واللغة. فإذا كانت الفينومينولوجيا تبحث عن كيفية ظهور الأشياء في الوعي، فإن الهرمنيوطيقا تبحث عن كيفية ظهور المعنى في اللغة. وهنا يلتقي التاريخ بالوعي، والتقليد بالتجربة، والذات بالعالم. ولذلك يؤكد غادامر أن كلّ فهم هو “اندماج لآفاق”، حيث يلتقي أفق الماضي والحاضر. والمعنى ليس شيئا في النص ولا شيئا في القارئ، بل في هذا الاندماج. ومن هنا نفهم عمق اعتراض غادامر على نموذج المنهج العلمي الذي يبحث عن الحياد والموضوعية: فالفهم ليس موضوعيا بهذا المعنى، لأنه لا يمكن فصل المفسّر عن موضوعه. إن التفسير مهما بدا علميا، هو في نهاية الأمر حدوث لقاء بين عالمين.

وهذه الفكرة ستتطور لاحقا مع بول ريكور، الذي حاول أن يحرّر الهرمنيوطيقا من بعض التبسيطات الغداميرية، عبر إدخال بعد جديد: “الذات المُشتتة”. فالإنسان من منظور ريكور، لا يمكنه الوصول إلى ذاته مباشرة، بل من خلال سلسلة من الوسائط: اللغة والرمز والحكاية. ولذلك يؤكد ريكور أن الذات ليست معطى جاهزا، بل مسارا تأويليا. ونجد هذا المعنى في قوله: “الذات لا تُفهم إلا عبر العلامات التي تعبّر بها عن نفسها”. وهكذا يصبح التأويل ليس فقط طريقة لفهم النصوص، بل طريقة لفهم الإنسان ذاته. وهذه النقلة فتحت بابا فلسفيا جديدا: الإنسان ليس جوهرا ثابتا، بل كينونة سردية تتشكل من خلال السرديات التي تحيط بها وتُكوِّن تجربتها الداخلية.

وهنا نعود إلى الصلة مع الفينومينولوجيا: لقد كانت القصدية الهوسرلية تقول إن الوعي دائما “وعي بشيء”، لكن ريكور سيقول ضمنا: الوعي دائما “وعي مؤوَّل”. الإنسان لا يعيش التجربة مباشرة، بل يعيشها من خلال حكايات ورموز ووسائط لغوية. وهنا يتكامل البعد الأنطولوجي (هايدغر) مع البعد اللغوي (غادامر) مع البعد السردي (ريكور). هذا التكامل هو ما يجعل الهرمنيوطيقا ليست مجرد مدرسة من مدارس الفلسفة، بل أفقا جديدا لإعادة فهم الإنسان.

ولعل من أهم الفلسفات التي أثرت في هذا المسار، ولم يتسع المجال لذكرها بداية هي فلسفة دلتاي، الذي حاول أن يؤسس للعلوم الإنسانية عبر مبدأ الفهم، مقابل مبدأ التفسير في العلوم الطبيعية. ورغم أن دلتاي لا ينتمي للفينومينولوجيا بالمعنى التقني، فإن مشروعه يمهّد الطريق للهرمنيوطيقا الحديثة. وقد قال عبارته الشهيرة: “إننا نفهم الحياة من الداخل”. لكنه لم يحدد بدقة كيف يمكن أن يكون هذا الفهم ممكنا، ولا كيف يمكن تجاوزه لحدود الذاتية. هنا جاءت الفينومينولوجيا لتؤسس وصفا دقيقا للتجربة، وجاءت الهرمنيوطيقا لتمنح هذا الفهم أفقا لغويا وتاريخيا.

وبينما كانت الفينومينولوجيا تركز على بنية التجربة، كانت الهرمنيوطيقا الحديثة تركز على بنية الفهم. ومن هنا ظهرت سجالات فلسفية عميقة، خصوصا بين غادامر وهابرماس. فهابرماس رأى أن الفهم لا يمكن أن يكون مجرد اندماج آفاق، لأن العلاقات الاجتماعية مشبعة بالهيمنة. ولذلك دعا إلى “هرمنيوطيقا نقدية” تبحث عن شروط التواصل الحر. غير أن غادامر ردّ قائلاً إن الفهم لا يمكن أن ينفصل عن التاريخ، وإن كلّ نقد ينطلق هو نفسه من أفق ما. ومن هذا السجال تولّد اتجاه هرمنيوطيقي جديد يربط الفهم بالنقد، ويجمع بين التاريخ والتواصل. وهكذا صارت الهرمنيوطيقا ليست فقط فلسفة للفهم، بل أساسا لفلسفة اجتماعية وسياسية.

ومع ذلك، فإن الفلسفات اللاحقة ستعيد مساءلة الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا من جديد. ومن أبرز هؤلاء إيمانويل ليفيناس، الذي رأى أن الفينومينولوجيا رغم قوتها، بقيت أسيرة “أنطولوجيا الذات”، وأن الهرمنيوطيقا بقيت أسيرة “أنطولوجيا الفهم”. بالنسبة لليفيناس، هناك شيء يسبق كلّ فهم وكلّ انكشاف: وجه الآخر. “إنه يدعوني قبل أن أفهمه”، كما قال. وهذا النداء الأخلاقي يجعل العلاقة بالآخر ليست علاقة معرفة ولا علاقة تفسير، بل علاقة مسؤولية. وهكذا يدخل البعد الأخلاقي إلى قلب النقاش، ويفتح الطريق أمام هرمنيوطيقا جديدة، ليست فقط للفهم أو للغة، بل للغيرية الأخلاقية.

ومن هذا المنظور، يتضح أن التاريخ الفلسفي للفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا لم يكن مجرد بناء تدريجي، بل حركة متشابكة من الأسئلة التي تتقاطع وتتجاوز بعضها بعضا:

كيف تنكشف الأشياء للوعي؟ (هوسرل) كيف يكون الوجود ممكنا؟ (هايدغر) كيف يفهم الإنسان نفسه والعالم؟ (غادامر)

كيف تتشكل الذات عبر الرموز والسرد؟ (ريكور) كيف يسبق الآخر كلّ فهم وكلّ تأويل؟ (ليفيناس).

وهذه الأسئلة رغم اختلافها الظاهري، تشترك في شيء واحد: أنّ المعنى ليس معطى جاهزا، بل حدث. فالوعي حدث، والوجود حدث، والفهم حدث، واللقاء الأخلاقي مع الآخر حدث. وهنا تكمن عظمة هذا التحول الفلسفي: لقد جعل الفلسفة أقرب إلى الحياة، وأقرب إلى اللغة، وأقرب إلى الإنسان.

وننبه إلى أن الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا رغم اختلافهما النظري، تشتركان في رفض الاختزال: لا اختزال الإنسان إلى معادلات، ولا التجربة إلى وقائع نفسية، ولا المعنى إلى مفاهيم مسبقة. إنهما تستعيدان “العالَم المَعِيش”، بتعبير هوسرل، وتعيدان قيمته الوجودية والمعرفية. وهذا ما يجعل تأثيرهما يتجاوز الفلسفة إلى الأنثروبولوجيا، علم النفس والنقد الأدبي والدراسات الدينية والفكر السياسي، وحتى الفنون.

ولنا أن نتساءل الآن: ما الذي يبقى من كلّ هذا؟ وما الذي يجعل الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا لا تزالان رغم مرور أكثر من قرن، من أهم مداخل الفلسفة المعاصرة؟ الجواب في عمقه، هو أن الإنسان لا يزال لغزا. وكلما حاولت العلوم تفسيره، ازداد تعقيدا. وهنا تأتي الفلسفة لتقول: إن الفهم ممكن، لكن ليس كيقين؛ بل كحوار. ليس كاكتشاف لمعنى ثابت؛ بل كخلق مستمر للمعنى.

إذا كانت الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا تُطرَحان لا كمنهجين فحسب بل كحدثٍ فلسفي يعيد تشكيل مفهوم الفهم ذاته، فإنّ تتبّع مآلات هذا التحوّل يكشف اللحظة التي تغدو فيها الفلسفة أفقاً لقراءة العالم المعاصر في اضطراباته وتوتراته وأسئلته الأخلاقية والأنطولوجية. فالمسار الممتد من هوسرل إلى هايدغر، ومنهما إلى غادامر وريكور ولفيناس، لا يمثل انتقالاً بين مفاهيم متتابعة، بل تنقّلاً بين أنماط تفكير مختلفة، ونضجاً لوعي فلسفي جديد يجاوز حدود مساءلة المعرفة ليصبح مساءلةً للوجود الإنساني في شموليته.

كنا قد رأينا أنّ الوعي من منظور الفينومينولوجيا ليس معطى جاهزا، وأن الفهم في الهرمنيوطيقا حدث تاريخي لغوي. غير أنّ هذا الفهم رغم عمقه، لا يكتمل إلا إذا وُضع في مواجهة التحديات التي أفرزها العالم الحديث. فالعصر الذي نعيشه ليس مجرد امتداد للعصور السابقة، بل زمن تتسارع فيه التقنية، وتنتشر فيه أشكال جديدة من الهيمنة، وتُعاد فيه صياغة علاقة الإنسان بالعالم، حتى كاد المعنى أن يتحول إلى شيء هشّ أو متشظٍّ. هنا، تصير الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا قوتين مقاومتين، تحاولان إعادة الإنسان إلى مركز تجربته، وتحرير المعنى من التبسيط والتشييء.

ولعلّ أول ما ينبغي تأمله في هذا السياق هو النقد الذي توجهه الفينومينولوجيا للحداثة التقنية. فقد لاحظ هايدغر في نصوصه المتأخرة، أن التقنية ليست فقط أدوات، بل نمطا للوجود. إنها تجعل العالم “مخزونًا” في خدمة الإنتاج، والإنسان نفسه يتحول إلى مورد. وهذا التحليل الهايدغري، الذي يبدو لأول وهلة متشائما، يحمل في عمقه جذورا فينومينولوجية: إنه يكشف عن كيفية ظهور العالم في وعينا حين نصبح مسيطرين عليه عبر التقنية. لكن هذه السيطرة بشكل متناقض، تجعل العالم ينغلق بدل أن ينكشف. وهنا يأخذ مشروع الفينومينولوجيا معنى جديدا: العودة إلى الظواهر ليست فقط منهجا فلسفيا، بل مقاومة لعنف التجريد التقني الذي يختزل الوجود إلى معادلات.

وفي الوقت نفسه، تعيد الهرمنيوطيقا تشكيل دور الإنسان داخل هذه الحداثة. فاللغة التي كانت عند غادامر بيت الوجود، تصبح اليوم ساحة صراع: خطاب سياسي وإعلامي واستهلاكي علمي. كلّها تتنافس على تشكيل المعنى وتوجيهه. وفي هذا المشهد، تصبح الهرمنيوطيقا نقدا جذريا لأوهام الوضوح: فليس هناك خطاب محايد. إنّ كلّ معنى مشروط بتاريخ، له جذور في تقليد ما، ويحمل سلطة ما. وهكذا تستعيد الهرمنيوطيقا بعدها النقدي، ليس ضد المنهج العلمي كما كان في الماضي، بل ضد أشكال الهيمنة الجديدة التي تتخفّى خلف شعار “الشفافية”.

نفهم لاحقا لماذا رأى هابرماس أن الهرمنيوطيقا، كما صاغها غادامر، تحتاج إلى استكمال نقدي. ففهم العالم ليس فقط اندماجا لآفاق، بل أيضا قدرة على كشف البنى التي تمنع الحوار الحقيقي. غير أن غادامر سيردّ قائلاً إن كلّ نقد ينطلق هو نفسه من أفق، ولا يمكن أن يتحرر من التاريخ. هذا السجال يكشف شيئا أساسيا: الهرمنيوطيقا ليست مدرسة منتهية، بل حركة مفتوحة، تتسع للنقد وتعيد إنتاج نفسها باستمرار. وقد كان ريكور أحد أبرز ممثلي هذا الانفتاح، حين قدم هرمنيوطيقا “الشك والثقة” معا، ويمكننا أن نثق بالنصوص لأنها تفتح معنى جديدا، لكن يجب أيضا أن نشكّ فيها لأنها تخفي قوى وسلطات.

يأتي السؤال الحاسم: ما الذي يجعل الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا قادرتين على فهم العالم المعاصر أكثر من غيرهما؟ الجواب يكمن في فكرة بسيطة، لكنها عميقة: إنه عالم فقد فيه الإنسان علاقته الطبيعية بالمعنى. فالسرعة والتقنيةوالاستهلاك، كلّها عوامل جعلت التجربة الإنسانية سطحية. وهنا تأتي الفينومينولوجيا لتقول: أبطئ. عد إلى التجربة. صفّها من الضجيج. واترك العالم يظهر كما هو، لا كما تفرضه الشاشات والمخططات والمقاييس. كلّ ظاهرة ـ مهما بدت بسيطة ـ تحمل معنى وجوديا. وهذا بالضبط ما تحتاجه الإنسانية اليوم: القدرة على الإنصات.

أما الهرمنيوطيقا، فتمسك الطرف الثاني من الخيط: الإنسان اليوم يعيش داخل شبكات لغوية كثيفة، فيها النصوص الرقمية، والخطابات الافتراضية، والصور والشعارات. وكلها تُنتج معاني متداخلة. ومن دون منهج يفكك هذه المعاني ويعيد ربطها بتاريخها، يصبح الإنسان ضحية لفيضٍ دلالي بلا مرجع ولا أساس. وهنا تصبح الهرمنيوطيقا أداة ضرورية: فهي تعلمنا كيف نفهم وكيف نقرأ وكيف نصغي، وكيف نعيد المعنى إلى جذوره. وليست هذه ممارسة ثقافية فقط، بل ممارسة وجودية: فالإنسان يفقد ذاته حين يفقد قدرته على التأويل.

وهكذا يتبين أن الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا ليستا فقط فلسفتين للظهور والفهم، بل فلسفتان للمقاومة. مقاومة التشييء، مقاومة النسيان، مقاومة اختزال الإنسان إلى بيانات. وفي هذا المعنى، يمكن أن نفهم لماذا رأى ليفيناس في وجه الآخر ما يتجاوز كلّ أنطولوجيا. فالآخر ليس مجرد ظاهرة، ولا مجرد معنى في أفق لغوي، بل هو استدعاء أخلاقي، يوقظ الذات من انغلاقها. إنّ الفينومينولوجيا تكشف ظهور الآخر، والهرمنيوطيقا تكشف لغته، لكن الأخلاق تكشف واجبه. وهذا الثالوث ـ الظهور واللغة والأخلاق ـ هو ما تحتاجه الفلسفة اليوم لتعيد تأسيس دورها في عالم مضطرب.

وهكذا يبرز المعنى العميق للربط بين الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا: فهاتان المقاربتان لا تنتميان إلى تاريخٍ مضى، بل تشكّلان أفقاً حيّاً يتقدّم نحو المستقبل. فالفلسفة، إذا أرادت أن تظل وفية لجوهرها، مطالَبة بأن تستعيد قدرتها على طرح الأسئلة التي تتجاوز حدود العلم والتقنية، وتلامس ما يجعل الوجود الإنساني ممكناً ومفتوحاً. وفي هذا السياق تظهر الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا كطريقين لإحياء هذا الدور، إذ تمنحان الفلسفة إمكانية العودة إلى جوهر السؤال، وإلى الإصغاء لنداء الوجود في عالم يزداد غموضاً وتعقيداً.

ولعلّ أهم درس يمكن استخلاصه هو أن الإنسان مهما تطورت معارفه، لا يستطيع أن يتحرر من حاجته إلى الفهم. إنّ الوجود لا يُعاش بالقياس، والمعنى لا يُقاس بالمعلومات، والآخر لا يُختزل إلى صورة. وهذه البديهيات التي تبدو اليوم مهددة، تعيد الفلسفة إلى أصلها: الإنصات لما يظهر، وتأويل ما يختبئ. وربما لهذا قال غادامر: “الفهم ليس فعلا نقوم به، بل شيء يحدث لنا”. وهذا “الحدوث” هو بيت الفلسفة، وهو أيضا بيت الإنسان.

وبذلك، يمكن القول إن الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا في مآلاتهما الراهنة، ليستا مجرد لحظة في تاريخ الفكر، بل حركة متصلة تعيد للإنسان قدرته على السكن في العالم، وعلى العيش داخل معنى لا يُفرض عليه من الخارج، بل يولد من تجربته ومن لغته ومن علاقته بالآخرين. إنها فلسفات تُذكّر بأنّ العالم لا يقدم نفسه إلا لمن ينفتح عليه، وأنّ الإنسان لا يفهم إلا إذا كان مستعدا لأن يُفهم، وأن الوجود نفسه ليس سرا لمعرفة عقلية، بل نداء لحوار لا ينتهي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى