زحمة كلام
الشاعر في بيت الشاعر
بقلم إيهاب حفني
أول أمس كانت رحلتنا بعد أن أنهينا العمل التليفزيوني مجبرين على الخروج من حالات كثيرة من الضغط والصداقة مع زميلنا الذي يود الذهاب إلى شارع المعز لدين الله الفاطمي خروجًا عن المألوف. يوم الخميس ذهبنا ثلاثتنا د. إيهاب الشاعر وأنا وصديقنا العزيز الغالي في رحلة إلى التاريخ، حيث كان لي هناك حكايات لا تنتهي في شارع المعز.
ركبنا مترو الأنفاق من ماسبيرو إلى باب الشعرية وخرجنا إلى شارع قائد الجيوش. أتأمل كل خطوة وذكرياتي من عام 2006 حيث كانت لي تجربة مع الرائع والمحفز وصانع النجوم د. جمال الشاعر رئيس القناة الثقافية آنذاك. فقد جلس على مكتبه ذات صباح باحثًا عني، وقد أجبته، فكان طاقة من نور فجأة، خارج المألوف، بأنه قد رأى مكانًا بشارع المعز وسط لب الشاعر فيه شقة تطل على السلطان قلاوون. قال لي: “نفسي أعمل فيها مؤسسة ثقافية باسمي وأسميها بيت الشاعر”. وهذا أخذ منا مجهودًا فاق الستة شهور حتى وصلنا لاسمها واعتمدت ضمن منظومة العمل الأهلي التطوعي في مصر.
سألني أن أذهب لأراها، ولأني أعرفه جيدًا، عندما يخط في دماغه شيئًا لا يتراجع، ذهبت. رأيت ما يذهل: عمارة وسط مشروع تطوير شارع المعز آنذاك. من الخارج شكلها رائع، وعند دخولي إلى مدخل البيت من الجانب، لا يمكن أن يراه أحد… منزل قديم، سلالم مكسورة، وحتى عدادات الكهرباء معلقة بشكل غريب، والحيطة… ربنا ما يوريكم.

جلسنا سويًا لأنني لم أستطع أن أدخل الشقة فبها نزاع قانوني، وأننا يجب أن ندخل في صراع إداري للحصول عليها. ودخلنا معركة غير متكافئة، ولكننا كنا مصرين ومستميتين على الفوز مهما كلفنا ذلك. استمرت المعركة عامًا كاملًا، أحدنا ييأس والثاني يدفع، وأُعلنت النتيجة وجاء الفوز لنا.
ذهبنا سويًا لاستلام حلمنا، وما إن وقفت اللجنة تفتح الباب حتى سقط الباب أرضًا معلنًا أننا في صحراء أخرى. الشقة مهدمة، وكأنها مغارة. ما كان منا نحن الاثنين إلا الصمت الرهيب. وكان مشرف اللجنة مهذبًا فاختارني، وبصوت يشبه الهمس قال: “اتفضل المفتاح”. نظرتُ للباب الملقى على الأرض، وهذا المفتاح، وأنظر إلى الشاعر جمال الشاعر… صمت مع ريح باردة في شهر أغسطس ورائحة لا تُطاق. خرجنا تاركين حلمًا مزعجًا خلفنا، ولم نتحدث ذلك اليوم، وكأننا ولأول مرة متخاصمان. لم أنم ليلتي… وهو أيضًا.
وفي صباح اليوم التالي، وكعادته، اتصال في العاشرة صباحًا. قال لي: “هو إحنا خدنا مقلب عمرنا؟” جملة كفيلة بأن تعيد لي أسطورة يونانية قديمة… إلا أن معي مفتاحًا، إن دخل في مكانه سيفتح لنا طاقة نور جديدة. وهنا أغلق التليفون.
وقفت إلى مكتبي وكانت تلك سبيل النجاة. بدأنا إعادة ترميم المنزل بالكامل، والشقة أعدنا بناءها من الداخل وبنفس المواد الأصلية، مع التأكيد بيننا بأن ما نقوم به سر حتى على منازلنا والمحيطين بنا. استمر العمل ما يقارب شهرين حتى أتممناها كما يجب.
وكانت المفاجأة أننا زرعنا شجرة في صحراء المعرفة. فكانت انطلاقة “بيت الشاعر” كفيلة بأن نكون أول من دخل وسط مشروع التاريخ. وجذبنا كل البسطاء في الجمالية الذين كانوا يشاركون في صناعة الأحداث. كل حيطة في البيت، كل شباك، كل نجفة، كرسي، سجادة، سلم… له معي ذكرى.
انطلقت المؤسسة في العمل بصدق وأفكار وليدة المكتبة وقبة السلطان قلاوون. وكل حدث تمَّ كان فيه مشقة، لكننا كنا نحب ما نعمل. صدح جمال الشاعر بأشعاره على باب خشبي قديم، وكتب قصائده على حوائط المنزل بنجفة نحاسية على حروف الكلام. كان الشارع بالنسبة لي وله استوديو مفتوح وضيوفنا من صناعة المكان.
كانت أفكارنا هي المحرك، وكانت لها وقع الساحر داخل كتاب التاريخ الإسلامي في أقدم مكان حفظ تاريخنا الإسلامي.
والآن… بعد طغيان مقاهٍ ليس لها أي صفة داخل الشارع: أبو العربي، سطوح المعز، واللورد، وحتى كافيه بيت السحيمي… كلها تمييع للعقل ومحفز للدخان والشيشة والشاي ليغيب الفكر والشعر والرسم والموسيقى.
بعد رحلتي إلى بيت الشاعر الآن، أرجو من الدولة أن تستبدل هذه المقاهي بمقاهٍ ثقافية، وببيناليات فنية، لا بالألوان الحمراء والزرقاء والخضراء التي لا تستقطب أي صورة ولا تعكس روح المكان. حتى الآثار هناك قد نفرت من هذه المظاهر التي لا تمت لصفحات كتاب التاريخ الإسلامي بصلة.
وأضيف هنا:
أرجو أن نفتتح مطاعم للعقول والعيون بدلاً من مطاعم البطون.
ويعود الشاعر إلى بيت الشاعر…
وتعود بلكونة بيت الشاعر يغني فيها علي الحجار والشيخ ياسين…
وتعود فرقة المولوية لترقص في شارع بيت القاضي…
ويعود احتفال الرسم كل يوم جمعة…
وتعود فرقة “الليلة الكبيرة” العرائس لتعرض على مسرح بيت الشاعر…
فرت مني دمعة غصب عني الآن… وأتمنى أن نعود لصناعة ثقافة الأدمغة، وننهي ثقافة الشيشة في قلب التاريخ.
فلتعد أيها الشاعر إلى بيت الشاعر.
شكرًا من عزّني ودعاني وأجبرني أن أذهب إلى شارع المعز يوم الخميس.
شكرًا د. إيهاب الشاعر.




