جاليري

جوستاف كليمت … بين قُبلة المعلّم الكبير والنحّات رودان

باريس: للفنان والناقد التشكيلي عبد الرازق عكاشة

وقفت طفلة على مشارف العاشرة من عمرها؛ ملامحها تتوارى في محراب زمانها القادم، ولم يظهر من أنوثتها حتى الآن سوى الخجل. كانت تقف أمام لوحة كليمت “القبلة” المعلّقة على تسعين في المائة من حافلات النقل العام في باريس؛ هكذا تكون الدعاية للمعارض، وهكذا يُعمَّم الوعي البصري وتُنشَر ثقافة السلام والمحبة.
انبهر سائق أوتوبيس رقم 72 بالطفلة الواقفة أمامه. هذه الحافلة التي تربط بين ميدان شتالية وسط العاصمة باريس ومتحف الفن الحديث بالقرب من برج إيفل على نهر السين.

طفلة يختبئ جسدها النحيل في قطعة قماش صفراء، فستان بسيط، صندل جلدي خفيف، وضفائر تتطاير تغازل الهواء الحر. استأذن السائق الركاب أن ينتظر قليلاً في المحطة لأن هناك بنتًا مع أمّها تقفان مباشرة أمام الحافلة. نزل السائق، فوجد الطفلة تشرح لأمها لوحة “القبلة” — وقالت خطأً إنها لرودان — آسف، كان الخطأ مقصودًا: إنها لوحة القبلة لكليمت. البنت مبهورة باللون، مسحورة بالجمال.

ضحك السائق وانتظر حتى أنهت الطفلة شرحها. قدّمت الأم اعتذارًا للركاب، ثم انطلقت الحافلة. كانت الطفلة تعبر الإشارة، وحلمها يسبقها، يغازل الخطوط البيضاء الفاصلة بين الأرصفة، يحلّق أمامها مع روح الأم التي ربّتها في حضن الحب. صفق الركاب؛ لا أعرف إن كان التصفيق للأم التي احتضنت الإبداع، أم للطفلة درويشية اللون، صوفية المشاعر. وربما صفق الجميع دون إدراك: للمجتمع؟ للحضانة؟ للمدرسة؟ لوعي السائق؟ أم لآليات الحياة؟

لكن رجلًا واحدًا، أبيض اللون، كثيف الشارب، أعرض من ربطة العنق، يتدلّى كرشه معترضًا حزام وسطه، كان ينفخ ضجرًا بسبب الحر. لم يتابع ما حدث، فسأل بلكنته: “هل انتهت الحادثة؟”
نظرتُ في وجهه وتساءلتُ: كم أنت عبدٌ؟
فالعبيد لا يعرفون الحرية. والحرية هي الإبداع. ورغم احمرار وجهك وشعرك الأصفر، فالعبودية لا لون لها: ليست سوداء ولا بنية، لا بيضاء ولا حمراء.
العبيد هم الكارهون للفن، للحرية، هم الجواسيس، كتّاب التقارير الذين لا يعرفون ثمن الحياة.

هكذا كان كليمت ينظر إلى معظم أساتذة الأكاديمية الحاقدين عليه في كلية الفنون في فيينا؛ عبيد الأكاديمية الذين التفّت حول أعناقهم الخطوط الكلاسيكية وفنون الطبقة البرجوازية، من لصوص اللحظات الحيّة كما يسمَّون اليوم “النوفو ريش” — الأغنياء الجدد — فاختنقت لوحاتهم.
عبيد لأنهم كانوا يكتبون عنه التقارير لقتل الحرية الإبداعية.
عبيد لأنهم سجنوا صديقه شيلي ستة أشهر في قضية الدفاع عن حرية رسم الجسد العاري.


كليمت بين ضفتين: الأب والأستاذ

سُئل يومًا: من معلمك يا كليمت؟
كل هذا الزخم، كل هذا الإبداع، عشق اللون، إتقان الزخرفة، طيّ الحديد، الترميم، السِّراميك (الخزف)، معرفة حرارة الفرن وحرارة الجسد…
فقال: الأب، وهو الجزء الأول من السيرة الذاتية. أمّا الجزء الثاني، الذي أبدأ به تكملة حديث الحلقة الماضية، فهو رودان.
تمثال “القبلة” الذي أبهر كليمت بعد زيارته باريس. تمثال العشق بين نحّات القرن وحبيبة عمره النحّاتة الأهم كامي كلوديل، التي أضع أسفل المقال رابط فيلمها الشهير الذي لعبت بطولته الممثلة الفرنسية من أصل جزائري إيزابيل أدجاني.

لقد غيّر هذا التمثال حياة كليمت بعد الخمسين؛ في آخر ثمانية أعوام من عمره. اعتمد على نفس التشريح وقوة البناء، حتى لمسات البرونز الحيّة، طعم ومذاق اللمسة في حدقة العين، وضربات الإزميل في حجر النسخة الأصلية.
حوّل كليمت كل ذلك إلى ألوان؛ إلى طاقة داخلية، تتلوّن فيها ضربات النحّات إلى طاقة حب أثناء العمل.
سيكولوجية الحالة، فلسفة الروح، الكتلة بوصفها عملًا، وغياب الفراغ لصالح الفضاء الخارجي.

استوعب كليمت كل ذلك، محوّلًا الحالة كاملة عبر ألوان المصوّر الباحث الأفانغاردي (الطلائعي).
نعم، لم أخطئ حين قلتُ “لوحة القبلة لرودان”. انظر — كعزيزي المتلقي — ببراءة الطفلة، وستكتشف الرابط الذي أشرت إليه أمام أوتوبيس 72: روابط إنسانية بين عشّاق الفن وجمال الحياة.

رودان، المولود في 12 نوفمبر 1840 في باريس، صاحب تمثال “القبلة” (1882)، توفي في 17 نوفمبر 1917 عن 77 عامًا.
كوربيه، والابن التلميذ المتمرّد سيزان، ومصور القرن العشرين جوستاف كليمت، المولود عام 1862 والمتوفى عام 1918، وصاحب لوحة “القبلة” (1907–1908)، وما أحدثته من تجديد في مناحي الإبداع من حوله…
كلّها علاقات حسية لا يدركها إلا عاشق.

باريس
عبد الرازق عكاشة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى