
زحمة كلام | الهدفبقلم: إيهاب حفني
في زحمة الأيام، وتداخل الأصوات، وتعدد الدروب التي تمتد أمام الإنسان حتى تُربكه أكثر مما تُرشده، يبقى “الهدف” هو العلامة الفارقة التي تمنح للحياة معناها، وللجهد قيمته، وللمسير اتجاهه. فالإنسان بلا هدف كالسفينة بلا بوصلة؛ قد تتحرك، وقد تقطع مسافات، لكنها تظل مهددة بأن تضلّ طريقها أو تصل إلى شاطئ لم تكن تقصده.
الهدف ليس فكرة عابرة تومض في لحظة حماس، ولا رغبة مؤقتة تتشكل بفعل ظرف طارئ. الهدف الحقيقي يولد من أعماق الوعي، من معرفة الإنسان بذاته، ومن إيمانه بقدراته، ومن قراره بأن يكون أفضل مما كان عليه بالأمس. إنه وعد يقطعه الإنسان على نفسه، لا لأجل الآخرين، بل لأجل روحه التي تبحث عن اكتمالها.
ولأن الهدف ليس مجرد أمنية تُقال، بل حدٌّ فاصلٌ وحقيقي بين من يعرف طريقه ومن يعيش في التيه، فإنه يبقى اختباراً لقدرة الإنسان على استثمار أدواته. فمن امتلك أدواته—علماً، أو خبرة، أو عزيمة، أو حتى إصراراً صامتاً—واستطاع أن يوظفها توظيفاً صحيحاً، كان هدفه قابلاً للتحقق، وكانت خطواته أقرب إلى الثبات منها إلى التردد. أما من ترك أدواته صدئة في زاوية منسية، فلا يلومنّ إلا نفسه إن بقي هدفه بعيداً كسراب.
وقد يحكي أحدهم أنه في إحدى المرات تعطلت سفينة تحمل جمعاً من الناس في عرض البحر. كان كل راكبٍ على متنها قد خرج في رحلة لها هدف محدد: أحدهم سافر بحثاً عن متعة، وآخر كان ذاهباً للعمل، وثالث أراد زيارة أقاربه. أهداف مختلفة، ووجوه مختلفة، ودروب لا يربط بينها شيء… حتى توقفت السفينة عن العمل وبدأت الأمواج تتقاذفها كأنها لعبة صغيرة في يد البحر.
هنا فقط، وفي تلك اللحظة الحرجة، ذابت كل الأهداف الصغيرة في هدف واحد أكبر، وارتفع فوق الجميع هدف جديد: إعادة السفينة للعمل وإنقاذ من عليها. نسي كل منهم هدفه الخاص، وتوحدوا جميعاً خلف الهدف الأعم. تعاونوا، وساعد بعضهم بعضاً، ولم يسأل أحدهم: هل هذا دوري أم ليس دوري؟ لقد أدركوا أن النجاة لا تأتي إلا حين تجتمع الطاقات، وتتحد الرغبات، ويتحول الجمع إلى يد واحدة.
وهكذا تفعل بنا الأيام؛ كثيراً ما تدفعنا الظروف إلى الاجتماع رغم اختلاف مشاربنا، وتضعنا أمام ضرورة أن نرى الصورة الأكبر، وأن نختار الهدف الأوسع الذي تتفرع منه أهدافنا الصغيرة. فإذا اضطرّتنا الحياة إلى التشارك، فلنضع أمامنا هدفاً أشمل، يضمّنا جميعاً ويقودنا إلى برّ الأمان.
غير أنّ الطريق نحو الهدف ليس سهلاً كما نتخيل. فبين الحلم وتحقيقه مساحة واسعة من العمل والصبر والتحديات. هناك لحظات قد نشعر فيها بأن الطريق أطول مما ينبغي، وأن الجهد أكبر مما نحتمل، وأن الظروف لا تساعد كما نريد. لكن تلك اللحظات هي التي تُشكّل الحقيقيين، وتُثبت من كان هدفه أصيلاً ممن كان هدفه مجرد نزوة.
ولعلّ أجمل ما في الهدف أنه يُعيد ترتيب الحياة كلها. فحين يعرف الإنسان ما الذي يريد الوصول إليه، يصبح كل شيء قابلاً للوزن: هل يقربني هذا الفعل من هدفي أم يبعدني؟ هل يستحق وقتي أم أنه مجرد تشتيت؟ ولعل هذا الوعي هو أولى الخطوات نحو النجاح.
لكن الهدف لا يكون هدفاً حقيقياً إلا إذا كان نابعاً من الإنسان نفسه، لا مما يفرضه المجتمع أو يزينه الآخرون. لكل إنسان طاقته، وميوله، وقيمه، وصورته الخاصة عن النجاح. من يسعى لتحقيق هدف لا يشبهه، سيصل – إن وصل – إلى نقطة لا يشعر فيها بأي انتصار.
في نهاية المطاف، الهدف ليس نهاية الطريق، بل هو بداية طريق جديد. وما إن يحققه الإنسان حتى يكتشف أن داخله قدرة على مزيد من العطاء، وعلى صياغة أهداف أخرى، ما دام القلب ينبض والعقل يحلم.
فاجعل لك هدفاً حقيقياً، واضحاً، يشبهك ويناسبك، ثم انطلق نحوه بثبات. فالحياة لا تكافئ من يتحرك كثيراً، بل من يتحرك في الاتجاه الصحيح.
ولنبدأ اليوم بهدف واحد: أن نكون كما نريد نحن… لا كما يريد الآخرون.





