جاليريشخصيات

مقال الجمعة | القيم الإنسانية في فنون الشخبطة

باريس – عبدالرازق عكاشة

 هل الشخبطة مجرّد اهتزازات لونية لا يفهمها العابرون؟
أم هي لغة داخلية تفضح ما تعجز عنه الأشكال المصقولة؟

هذا المقال هو لقاء من رحلة السير مع أوسكار كوكوشكا،
باريس – عبدالرازق عكاشة


كوكوشكا والقيم الإنسانية في الرسم

وكيف نرسم المشاعر الإنسانية لا لوحات جميلة عقيمة تعتمد فقط على الحِرَفية والشطارة؟
كيف نرسم اهتزازات داخلية تصطاد الزمن وتثبّته عند لحظات نادرة من الإبداع، لا مرايا زائفة؟

الفنان الصادق، في رأيي، هو ذاك الذي ينحاز إلى الإنسان في معناه الواسع، إلى هوية أعماقه الإنسانية، لا إلى خياله وحده.
وهنا نقف أمام مشهد جوهري، أو قضية أخرى سأعود إليها لاحقًا:
لماذا عاشت “غرنيكا” لبيكاسو، وماتت أجمل اللوحات في الذاكرة الإنسانية؟

الفن ليس بحثًا عن الجمال فقط، ولا صناعة لوحة “حلوة” لفتاة على ضفة ترعة تثير الدلال وتملأ الفراغ.
الفن حالة اجتماعية ناهضة، حالة ثورة وتمرد وإصلاح، ومشاعر نابضة وطازجة.
فلماذا عاشت أعمال كوربيه، وسيزان، وبيكاسو، وماتيس، وتولوز لوتريك،
بينما وُئدت السريالية في المهد؟
أو لماذا تحوّلت لوحات دافيد وإنغر إلى أيقونات صامتة فقط؟

حديثي معكم اليوم ليس استراحة ناقد؛ فأنا لا أحب هذا اللقب ولا هذه المسميات.
أنا فقط محارب من أجل التجديد، أطالب برفع الحجاب وكشف التابوهات عن مناطق لم يقترب منها كثيرون ممن يدّعون النقد.


كوكوشكا ورسم الوجع… والاستغناء عن الجمال

على مدار شهرين كاملين، بحثت في عاصمة الفن، باريس، عن كتاب واحد لكوكوشكا.
لم أجد ورقة، ولا سطرين، إلا في كتب أصدقائه: كليمت وإيغون شيلي.
كنت قد فقدت كل ما جمعته سابقًا عنه في مكتبتي القديمة.

اتصلت بصديق في النمسا، بلد كوكوشكا، بحثًا عن كتبه… بلا جدوى.
تعرفون لماذا؟
لأن كوكوشكا كان فنانًا إنسانيًا قبل أن يكون مبدعًا،
صادقًا إلى حد الجنون،
اسمه مسجّل في دفتر الإنسانية.

هو اليهودي الذي رفض الحرب في فلسطين، وانحاز إلى السلام،
وحارب الظلم والطغيان.
فإلى جانب معركته الشرسة ضد النازية، كان موقفه مناصرًا للحق والعدل والقيم الإنسانية.

ستجد كتب كليمت وشيلي بكل اللغات، وبكل الأسعار، من ثلاثة يوروهات إلى ألف يورو،
لكن لن تجد كتابًا واحدًا عن كوكوشكا.
كان الأمر غريبًا فعلًا.

حتى التقيت، بمحض الصدفة، سيدة مسنّة تدير مكتبة كلية الفنون الجميلة في باريس،
عن طريق صديقي الفنان الفرنسي البارز اليوم ميشيل جامنيني،
رئيس أكاديمية خاصة لتدريس الفنون.

قالت لي مديرة المكتبة، وهي تسلّمني نسخة من كتاب نادر عُثر عليه مصادفة في بيت كوكوشكا نفسه:
“هذا كتاب نادر وغالٍ جدًا، والأعمال داخله غير منشورة من قبل… أنت محظوظ حقًا.”

وأنا بدوري أقول لأصدقاء الصفحة:
إن أردتم المعرفة، فشرف لي أن أشارككم هذا المختلف،
ستجدون هنا ما هو جديد وغير متوقّع.


كوكوشكا الصادق… والتخلي عن الجمال لصالح المشاعر

هذه الأعمال ليست لوحات فحسب، بل مشاعر ساخنة وطازجة،
اهتزازات وجدانية ضد الجمود البصري.
هي أعمال تحتاج إلى وعي إنساني عميق،
وإلى إنسان يطرح أسئلة دقيقة في مسار الإبداع… وأنا أحاول الفهم معكم.

هي لوحات عن أطفال الحروب،
عن بشر أصابهم الوجع وكسرتهم الآلام.
كوكوشكا تربّص باللحظة الإنسانية ليرسم الداخل المتحرّك الثابت،
لا الجمال الخارجي الزائف.

لم يبحث عن عيون زرقاء، ولا شفاه حمراء،
ولا “أنثى الليل”،
ولا جمال فاتن، ولا ملامح مستهلكة ومباشرة،
ولا قصة سهلة ترضي المتلقي الكسول.

وهنا أسأل القارئ، وأسأل الفنانة:
ما الفرق بين الرسم الأكاديمي أو التعبير المباشر القائم على خطة جمالية،
وبين رسم حركة طفل، أو شخص معاق،
لا يملك سوى مشاعره التي تحرّكه؟

الطفل أو المكسور إنسانيًا لا يضع خطة ليرضي أحدًا،
إنما يتحرك وفق خريطة صدقه،
بإنسانية عذبة خالصة.

أما الشخص “السليم” فيقدّم لك الملامح الجميلة طوال الوقت.
وهنا يقع كثير من الفنانين في فخ التركيز على الجمال، والملابس، والملامح المرتبة،
فينتجون لوحات تثير الإعجاب السريع،
لتُعلّق في المنازل أو في قاعات عرض من الدرجة الثالثة،
ثم تُنسى.

لكن لأصحاب التربية البصرية، وعي آخر.

سؤالي الثاني:
إذا رسمت شخصًا معاقًا، أو مريضًا، أو عائدًا من الحرب،
لا يملك جمالًا مباشرًا، ولا ملابس أنيقة،
وربما لا يستطيع الجلوس أمامك أصلًا…
فماذا ترسم؟

هنا يبدأ الجهد الحقيقي،
الذي لا يدركه العابر،
في تأمّل أعمال فنان بحجم كوكوشكا، خاصة هذه الأعمال المنشورة اليوم.

كوكوشكا يجيبنا بنفسه:
لقد قرر الاستغناء عن الظاهر المباشر
لصالح المشاعر الإنسانية،
لأنها وحدها القادرة على الخلود.

هنا يرسم الاهتزازات الداخلية،
اهتزازات لونية ناتجة عن تربّص دقيق
لاصطياد لحظات لا تُرى بالعين المجردة،
وتوازي اهتزاز الفرشاة في يد الفنان الصادق.

هذه الاهتزازات التي يراها العابر “شخبطة”،
هي نفسها موضع الالتباس عند من يدّعون النقد،
وعند بعض الممارسين للفن بلا وعي إنساني.

كوكوشكا رسم ما لا يُرى،
ورسم ما لا يرضي الذوق السطحي،
رسم شخبطات إنسانية،
اهتزازات كبرى تُعرض في المتاحف،
لا في غرف النوم والصالونات المغلقة.

لأنها ببساطة لوحات بلغة إنسانية،
لا يفهمها إلا المتعمقون… لا العابرون.

كوكوشكا رسم الوجع كما رسم الحب،
كان فنان المشاعر النقية،
إمام مدرسة الصادقين،
ونبيًّا ضمن مدرسة المجدّدين.

باريس – عبدالرازق عكاشة
القاهرة – متحف دارنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى