رحلاتشخصيات

الإسكندر الأكبر… الإنسان الذي صار فكرة

 د. حسين عبد البصير

 حين نذكر الإسكندر الأكبر، فإننا لا نستدعي مجرد قائد عسكري مرّ عبر صفحات التاريخ، ولا نستحضر فقط فتوحات واسعة غيّرت خرائط العالم القديم، بل نستحضر قبل كل شيء ظاهرة إنسانية وفكرية نادرة، تجاوزت حدود الزمان والمكان، وتحولت من سيرة فرد إلى فكرة كونية ما زالت حية حتى اليوم. فالإسكندر لم يكن رجل حرب بالمعنى التقليدي، بل كان حامل رؤية، وصاحب حلم واسع، آمن بأن العالم يمكن أن يُفهم بوصفه وحدة ثقافية واحدة، لا ساحة صراع دائم بين الشعوب.

وُلد الإسكندر في مقدونيا، لكنه لم ينتمِ إليها وحدها، ولم يحصر ذاته في هوية ضيقة أو حدود جغرافية مغلقة. فمنذ لحظة انطلاقه نحو الشرق، بدأ مشروعًا غير مسبوق في التاريخ القديم: مشروع اللقاء بين الحضارات. مشروع لم يقم فقط على إخضاع الأراضي، بل على محاولة فهم الشعوب، واحترام تقاليدها، ودمجها في رؤية أوسع للعالم. ولهذا، لم يكن هدفه التدمير بقدر ما كان السعي إلى الاحتواء والتفاعل، وهو ما يتجلى بوضوح في علاقته بمصر، تلك الأرض التي دخلها لا كغاصب، بل كمحرِّر.

في مصر، استقبله المصريون استقبالًا استثنائيًا، ورأوا فيه امتدادًا للشرعية المقدسة، واعتبروه ابنًا لآمون، لا مجرد قائد أجنبي. هنا تتجسد عبقرية الإسكندر السياسية والروحية معًا؛ فقد أدرك أن القوة الحقيقية لا تُفرض بالسيف وحده، بل تُبنى بالاحترام العميق لعقائد الشعوب وذاكرتها الحضارية. ولم يكن ذهابه إلى واحة سيوة مجرد رحلة دينية، بل كان فعلًا رمزيًا بالغ الدلالة، جسّد التحول من قائد عسكري طامح إلى حاكم يرى نفسه جزءًا من نظام كوني أوسع، يحمل رسالة تتجاوز ذاته.

وتبقى الإسكندرية أعظم وأبقى تجليات فكر الإسكندر. فهي لم تُبنَ لتكون عاصمة سياسية أو مدينة إدارية عابرة، بل شُيّدت بوصفها مدينة حلم، وفضاءً للعلم والمعرفة والتعدد الثقافي. مدينة صُممت لتجمع الإغريقي والمصري والشرقي في نسيج واحد، وتفتح أبوابها للعقل الإنساني دون تمييز. وسرعان ما تحولت الإسكندرية إلى منارة للفلسفة والعلوم والفنون، وإلى رمز عالمي لقدرة الإنسان على إنتاج حضارة تقوم على الحوار لا على الإقصاء. لقد كانت الإسكندرية، وما زالت، التعبير الأصدق عن روح الإسكندر وفكرته الكبرى.

الإسكندر الأكبر لم يسعَ إلى محو الهويات، بل إلى تفاعلها. لم يحاول إذابة الثقافات في قالب واحد جامد، بل شجّع التزاوج بين الشعوب، واحترم النظم المحلية، وأدرك أن الحضارة الحقيقية تُبنى بالتلاقي، لا بالهيمنة، وبالاعتراف بالآخر لا بإلغائه. وربما كان هذا هو سرّ خلوده عبر العصور: أنه لم يحكم بالسلاح وحده، بل بالفكرة، ولم يترك وراءه إمبراطورية جغرافية فحسب، بل إرثًا فكريًا وإنسانيًا مفتوحًا على التأويل.

واليوم، بعد أكثر من ألفي عام، ما زال الإسكندر الأكبر حاضرًا في النقاشات الفكرية والفلسفية والفنية، وفي أعمال مبدعين كبار، مثل الفنان اليوناني الراحل ماكيس ڤارلاميس، الذي رأى في الإسكندر رمزًا إنسانيًا كونيًا، لا أسطورة مغلقة أو بطلًا متحجرًا في الماضي. في الفن كما في الفكر، يتحول الإسكندر إلى مرآة نسأل من خلالها أنفسنا: ما معنى القوة؟ وما حدود الطموح؟ وهل يمكن للإنسان أن يوحّد العالم دون أن يفقد إنسانيته؟

هكذا، يظل الإسكندر الأكبر حيًا، لا في كتب التاريخ فقط، بل في الوعي الإنساني ذاته؛ كحلم لم يكتمل، وفكرة كبرى ما زالت تبحث عن عالم يليق بها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى