أحداثإعلامجاليريشخصيات

 ماكيس فارلاميس… والإسكندرية حين تستعيد دورها العالمي

 د. حسين عبد البصير

لم يكن عرض أعمال الفنان والمهندس المعماري اليوناني الراحل ماكيس ڤارلاميس في مكتبة الإسكندرية العالمية حدثًا فنيًا عابرًا أو نشاطًا ثقافيًا تقليديًا، بل جاء بوصفه فعلًا حضاريًا عميق الدلالة، يؤكد من جديد أن الإسكندرية ما زالت قادرة على استعادة موقعها التاريخي كمدينة كونية، ومركز إشعاع ثقافي، ومفترق طرق بين الشرق والغرب، بين الماضي والمستقبل، وبين الذاكرة والخيال.

فمكتبة الإسكندرية، بما تحمله من رمزية استثنائية، لا تمثل مجرد مؤسسة ثقافية حديثة، بل هي الامتداد الروحي والفكري لأعظم مشروع معرفي عرفه العالم القديم. ولهذا بدت المكان الأكثر انسجامًا مع تجربة ڤارلاميس، وهي تجربة لا تنتمي إلى الفن وحده، بل تتقاطع مع التاريخ والفلسفة والعمارة والإنسان في جوهره. داخل هذا الفضاء، لم تُعرض الأعمال لكي تُشاهد فقط، بل لكي تُقرأ، وتُتأمل، ويُعاد التفكير من خلالها في معنى الحضارة الإنسانية.

في هذا المعرض، لم تُقدَّم أعمال ماكيس ڤارلاميس بوصفها لوحات أو تكوينات بصرية منفصلة، بل كـمشروع فكري متكامل يعيد قراءة شخصية الإسكندر الأكبر خارج القوالب النمطية. فالإسكندر هنا ليس القائد الفاتح، ولا البطل الأسطوري، بل رمز إنساني عالمي، يجسد فكرة العبور بين الثقافات، والسعي إلى المعرفة، ومحاولة بناء عالم يقوم على التفاعل لا الإقصاء. وداخل فضاءات المكتبة، تداخل الفن مع الذاكرة، والعمارة مع الفلسفة، والتاريخ مع الحاضر، ليصبح الزائر طرفًا فاعلًا في تجربة تأملية مفتوحة تسأل عن معنى الهوية، وحدود الانتماء، وإمكانية التعايش الخلاق بين الشعوب.

وتزداد خصوصية هذا العرض لأنه يُقام في الإسكندرية، المدينة التي أسسها الإسكندر نفسه، لا باعتبارها مجرد عاصمة سياسية، بل بوصفها مدينة فكرة، ومدينة حلم. مدينة خُلقت لتكون ملتقى الحضارات، ومختبرًا إنسانيًا للتعدد والانفتاح. عبر القرون، تحولت الإسكندرية إلى رمز عالمي للعلم والمعرفة والفن، وإلى نموذج فريد لمدينة استطاعت أن تصوغ هويتها من التنوّع لا من الأحادية. وهنا، كما رآها ڤارلاميس وكما تحتضنها المكتبة اليوم، لا تبدو الإسكندرية مدينة الماضي فقط، بل مدينة المستقبل أيضًا، القادرة على إنتاج خطاب ثقافي عالمي يتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية واللغوية.

إن مكتبة الإسكندرية العالمية لم تكن في هذا الحدث مجرد مكان للعرض، بل شريكًا حقيقيًا في صياغة المعنى. فهي مؤسسة تؤمن بأن الثقافة والفن والمعرفة ليست ترفًا، بل أدوات أساسية للحوار الإنساني وبناء الجسور بين الشعوب. وهو الإيمان ذاته الذي شكّل جوهر مشروع ڤارلاميس الفني، القائم على فكرة أن الفن يمكن أن يكون لغة كونية، تتجاوز الاختلافات وتخاطب الإنسان في عمقه. ومن هنا جاء هذا الانسجام اللافت بين العمارة الحديثة للمكتبة، بما تحمله من شفافية وانفتاح، وبين الروح المتوسطية لأعمال ڤارلاميس، المشبعة بالحركة والتاريخ والأسئلة الكبرى.

ويحمل هذا الحدث رسالة واضحة وعميقة: أن العلاقات المصرية–اليونانية لا تُختزل في التاريخ المشترك وحده، مهما كان هذا التاريخ ثريًا وممتدًا، بل تتجدد باستمرار عبر الفن والفكر والإبداع والحوار الثقافي. كما يؤكد أن الإسكندرية، رغم كل التحولات التي شهدتها، ما زالت قادرة، عبر مؤسساتها الثقافية الكبرى، على لعب دورها الطبيعي كمنصة عالمية للحوار بين الحضارات، وكمساحة حرة لتلاقي الأفكار والرؤى الإنسانية.

هكذا، لم يكن عرض أعمال ماكيس ڤارلاميس في مكتبة الإسكندرية العالمية مجرد استعادة لاسم فنان كبير أو تكريم لتجربة إبداعية متميزة، بل كان احتفاءً بفكرة الإسكندرية نفسها: المدينة التي تنتمي إلى العالم، وتحمل ذاكرته، وتعيد صياغة مستقبلهمدينة يعود إليها العالم عبر الفن، كما عاد إليها يومًا عبر المعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى