
عنوان الكتاب: ملحمة أوراسيا
اسم المؤلف: تشاو شوي
اسم المترجم: د. أشرف أبو اليزيد
Epic of Eurasia by Cao Shui, translated to English by George Wallace
يصدر الشهر القادم في سلسلة
إبداعات طريق الحرير عن دار الناشر للنشر والتوزيع والإعلان
الشاعر تشاو شُوَي
تشاو شُوَي (بالصينية: 曹谁، بالبين يِن Cáo Shuí)، المعروف أيضًا بالاسم الإنجليزي شون كاو، وُلد في الخامس من يونيو عام 1982. هو شاعر وروائي وكاتب سيناريو ومترجم صيني، ويُعَدّ أحد أبرز وجوه الأدب الصيني المعاصر، وقائد حركة “الشعر العظيم” في الصين.
في بيان القصيدة الكبرى الذي صاغه، يسعى تشاو شُوَي إلى مزج الثقافات المقدّسة والدنيوية، ودمج الشرق مع الغرب، ووصل الماضي بالحاضر، ليعيد صياغة الأدب الصيني برؤية كونية تتجاوز الحدود.

وفي عام 2008، استقال من عمله الصحفي وانطلق في رحلة طويلة عبر التبت وشينجيانغ، وهما — في نظره — قلب أوراسيا، بل مركز العالم. وقد شكّلت تلك الرحلة منعطفًا روحيًا وفكريًا في تجربته الإبداعية.
ألّف ثلاثية “سرّ السماء” التي تستعرض تاريخ الحضارة الإنسانية منذ نشأتها، فيما تُعَدّ ملحمة أوراسيا والطاووس الملك (سلسلة تلفزيونية) من أبرز أعماله وأكثرها تأثيرًا.
في كتاباته، يستخلص تشاو شُوَي رموز الحضارات القديمة — من بابل واليهود ومصر واليونان غربًا، إلى فارس والهند والصين شرقًا — ليعيد تشكيل وطنٍ إنساني يوتوبي جديد يصفه باسم أوراسيا، أو قمة برج بابل، أو جبال كونلون (جبال السماء)، حيث تلتقي أرواح الحضارات وتتماهى.
هذه الملحمة
بدأ الأدبُ بالملحمة؛ من ملحمة جلجامش البابلية، إلى الإلياذة والأوديسة الإغريقيتين، وملحمتي المهابهارتا والرامايانا في الهند، وصولًا إلى ملاحم الشعوب كافة. غير أنّ البشرية، في هذا العصر المتسارع الذي نسمّيه العولمة، ما تزال تفتقر إلى شعرٍ تاريخيٍّ جامع، على الرغم من أنّ الحضارات الإنسانية خرجت جميعها من رحمٍ واحد: القارّة الأوراسية……
استجابةً لهذا الغياب، حاول الشاعر تشاو شُوَي أن ينسج ملحمة تتجاوز الإنسان، عبر جمع تاريخ الحضارات السبع الكبرى في نَسَقٍ واحد. فالملحمة، في جوهرها، ينبغي أن تتّسع لحكايات كبرى، وإيقاعاتٍ مبتكرة. وفي زمن الشعر الحر، يسعى الكاتب إلى بناء بنيةٍ سردية عبر التأمّل، وإلى صون الشعريّة عبر الغنائيّة، ليشيّد ملحمةً إنسانية حديثة تستند إلى عزيمته، ورؤيته، وإيمانه بضرورة أن يكون للعالم أنشودةٌ مشتركة.
شرعية وجود الملاحم الحديثة
تأمّلات غنائية في عصر الشعر الحر
“الشعر العظيم” أو “الملحمة الثالثة“
مقدمة بقلم تشاو شُوي
“بشفافيةٍ صلدة، يكشفون تحوّلاتٍ سرّية لحجارة الكون، وانبثاقاتٍ جديدة من نبض الفجر، من قلبٍ حجريّ كان يومًا مسكنًا للبرق؛ قبل أن تنبثق مياهٌ بلا شطآن تحت نورٍ عائم، لتصوغ نسيجًا من زهورٍ وحيوانات، وتبتكر وطناً.”
فرناندو رندون
الملحمةُ علامةُ الروحِ الجمعية لأيّ أمّة. أمّا اليوم، فقد انقضى زمنُ الملحمة منذ عهدٍ بعيد. العالم ـ لا الأمّة ـ صار فضاءنا الحاضر. نحن نعيش مع العلم، لا مع الحكايات الإلهية. ونكتب بالشعر الحر، لا بالعَروض الذي كان جوهرَ الغناء الملحمي.
هكذا تواجه فكرةُ «الملحمة الحديثة» أزمةَ شرعية غير مسبوقة.
كانت الملحمة في أصلها الصيغة الأولى للأدب: باطنُها سردٌ يصف نشأة شعبٍ بأكمله؛ وظاهرها إيقاعٌ يُجسّد اللغة القومية في أصفى تجلياتها. كانت تؤدي وظائف تتجاوز الفن؛ حتى ليمكن القول إنّها كانت الصيغة الفنية الوحيدة في بدايات الوعي البشري.
وكادت كل أمّة على الأرض أن تمتلك ملحمتها. فملحمةـ جلجامش في بلاد الرافدين هي أقدم ما عُثر عليه حتى الآن؛ كُتبت على اثنتي عشرة رقيمة طينية، تُقصّ سيرةَ الملك الباحث عن الخلود.
وفي العائلة الهندوأوروبية نجد الإلياذة والأوديسة، والماهابهارتا والرامايانا، ثم الملاحم الأوروبية اللاحقة مثل “بيوولف“، و“أغنية رولان“، و“نشيد السيد“.
أما ما يُسمّى “الملاحم الصينية الثلاث” فهي: ملحمة غيسار التبتية، وملحمة ماناس القيرغيزية، وملحمة جيانغَر المغولية.
أمّا الهان ـ وهم الأكثرية الصينية ـ فلا يملكون ملحمة خاصة؛ وإن وُجدت فقد تلاشت في الزمن القديم، ولم يبقَ منها إلا ما تسرّب إلى كتب السِيَر والوقائع، من “السجلات التاريخية” إلى “مسوّدة تاريخ أسرة تشينغ“. كانت تلك نصوصًا نثرية تمزج التاريخ بالأسطورة دون إيقاع شعري صريح.
وبعد أن انقضى عصر الملحمة الشفاهية، تفرّعت الفنون الأدبية إلى وظائف كانت جميعها موجودة في الملحمة: فالقصيدةُ القصيرة صارت للغناء الذاتي، والروايةُ للسرد، والمسرحُ للفعل، والأدب الوثائقي للفلسفة والتاريخ والقانون، ثم ظهرت القصائد القصصية والغنائية القصيرة… وتقلّص الشعر في النهاية إلى وظيفة “الغنائية ” لا غير.
وقد حاول الأدباء استعادة الملحمة في صيغ “ملحمة المتعلمين” مثل “الإنياذة” لفرجيل، و“الكوميديا الإلهية” لدانتي، و“الفردوس المفقود” لملتون، و“الشاهنامة” للفردوسي… إلا أنّ ذلك الامتداد لم يغيّر حقيقةَ أنَّ زمن الملحمة كان يقترب من نهايته مع اقتراب عصر الشعر الحر.
نحن الآن في حقبة أسّسها والت ويتمان، لا تستند إلى نظامٍ رمزيٍّ واسع، ولا إلى نموذجٍ كونيٍّ أسطوري، ولا حتى إلى الإيقاع الخارجي.
وغدت الملحمة مجرّد صفة تلحق بفنون أخرى: “حكاية ملحمية“، “مسرح ملحمي“، “فيلم ملحمي“… ومع ذلك، فإنّ أبناء السلالة الشعرية السرّية ما زالوا يكتبون ملاحمهم، حتى وإن اتّخذت أشكالًا جديدة، وعددها في ازدياد لا في انقراض.
لقد دخلنا عصر الملحمة الثالثة: ملحمة بلا آلهة، وبلا إيقاعٍ جمعي، وبلا نموذج كوني تقليدي. ملحمةٌ تتجلّى في هيئة “شعر عظيم” تتخلّقه التأملاتُ الغنائية.
وفي الشرق والغرب ظهرت أمثلة كثيرة: “كاثي” لإزرا باوند، و“الأرض الخراب” لإليوت، و“أنشودة الفرس الأبيض” لشيسترتون، و“الكتب السبعة للشمس” لهاي تسِه، و“نوريلانغ” ليانغ ليان، و“التوابيت المعلّقة” لأويانغ جيانغه… وكلها محاولاتٌ لتشييد ملحمةٍ بروحٍ جديدة.
وفي أحد لقاءات بكين، تحدّثت مع البروفيسور الأمريكي بول مانفريدي عن حال الشعر الغربي، فقال إنه، مثل الشعر الصيني، ينقسم إلى رفيع وشعبي، وإن القصائد الطويلة في أزمة، غير أنه لا يزال هناك من يكتبها.
أنا نفسي قرأتُ إحدى الملاحم الثلاث غير المنشورة للشاعر الصيني أبراهام لوتشونغ، المعنونة “السيرة المظلمة“؛ كما قرأتُ عن صدور الملحمة الأمريكية “الأوديسة اللازوردية” لغاريت فيرسترات.
II
فما نوع “الملحمة الثالثة” أو “الشعر العظيم” الذي يمكن أن يوجد في زمن الشعر الحر، من دون قصصٍ إلهية أو أوزانٍ عروضية مميّزة؟
في وجه العالم المعولم الذي نعيشه، ينبغي للروح الشعرية أن تتطوّر لتصبح جسرًا بين المقدّس والدنيوي، بين القديم والحديث، بين الشرق والغرب. وأرى أن ذلك لا يتحقّق إلا عبر التأمل الداخلي الذي يشكّل البنية، والغنائية التي تضمن بقاء جوهر الشعر.
لقد فقدنا القصة الإلهية، وفقدنا الإيقاع المتوارث. غير أنّ الشعر، بهذا الفقدان، قد عاد إلى ذاته ليبحث عن شرعيّته من جديد. إننا نعيد بناء العالم — أو نكشف حقيقته — عبر التأمّل؛ وندخل الإيقاع الداخلي — الخفي — عبر الغناء؛ وهذا هو الطور الجديد للملحمة التي يمكن أن يولد فيها “الشعر العظيم“.
ولأن العالم لم يعد أمميًا بل كوكبيًا، فإن الإنسان اليوم بحاجة إلى ملحمة كونية تمثّل روح العصر.
فالإنسان أصلًا واحد، والملاحم القومية لم تكن سوى تجلّيات متعدّدة لملحمة كونية واحدة. ومن هنا يصبح العمل على ملحمةٍ جديدة عملاً استعادياً للعلاقة بين الإنسان والعالم.
ليس الشعر سوى محاولةٍ لاختزال فرادة الروح بلغةٍ متاحة.
ولخلق ملحمة عالمية، نحن بحاجة إلى نظام رمزيّ مشترك، أو ما يسمّيه النقد “العلاقة الموضوعية“، بحيث تصبح الأشياءُ والرموزُ جسرًا بين روح الإنسان وجوهر العالم.
إن هذه العناصر المشتركة، حين تتآلف، تُنشئ الكون النموذجي — أو المعمار الكوني — الذي يربط بين العالم الداخلي والخارجي، في ماضيه وحاضره ومستقبله، على امتداد مسار التطوّر.
III
على امتداد النطاق المعتدل الشمالي من قارة أوراسيا، تمتدّ حضارة الإنسان، وتتوالى طبقاتها كما تتوالى طبقات الضوء فوق جبلٍ قديم. لقد كانت قارة أوراسيا يومًا ما الحلمَ الحرّ للبشرية، ولذلك فإن ملحمة الإنسان هي، في جوهرها، ملحمة هذه القارة الكبرى. وتشير الدلائل كلها إلى أنّ الحضارات لم تنشأ من نقاطٍ متعدّدة، بل تفجّرت من نبعٍ واحدٍ ثم انداحت موجاتها شرقًا وغربًا، رغم الجدل الدائر حول مكان هذا الينبوع الأول. وفق النموذج الأوراسي، انطلق الإنسان من بلاد الرافدين غربًا نحو يهودا ومصر واليونان، وشرقًا نحو فارس والهند والصين. إنّ الإله زيوس، كبير آلهة اليونان، والإمبراطور الأصفر، كبير آلهة الصين، يبدوان امتدادًا لمردوخ، إله الرافدين، جميعهم خرجوا من جوهر واحد: إله الرعد.
ويمكن تلخيص المراكز الثلاثة عشر — أو الرموز الثلاثة عشر — التي اندمجت عندها الحضارات الشرقية والغربية في: إسطنبول، وبلاد الرافدين أو الشرق الأوسط، والقدس، والهند، وروسيا، والقوقاز، وسمرقند، وهضبة پامير، والهيمالايا، ودونهوانغ، وشينجيانغ، والتبت، وجبل كونلون. وقد فصّلتُ وصف هذه المراكز في يومياتي “السير في جبال كونلون العظمى: رحلة إلى التبت وشينجيانغ“. ويمكن القول إن هذه المراكز تحتضن روح القارة الأوراسية بأكملها. فجبال كونلون في الشرق مقدّسةٌ كما الأولمب في الغرب.
أبني من عناصر محدّدة طوطمًا للقارة الأوراسية، وأستعير في ذلك ما كتبته في مقالتي “الشعرية الكبرى: اندماج السماوي والدنيوي، واندماج الشرق والغرب، واندماج القديم والحديث“:
“طوطمُنا المشترك هو الأسد على الأرض، والنسر في السماء. في الشرق يتجلّى التراث بتسعة أبناء للتنين، وفي الغرب تتجلى التسع ربات فنون. اثنا عشر برجًا غربيًا أو اثنا عشر فرعًا أرضيًا صينيًا تدور في الفضاء، وفي المركز يقبع الشكل الأكمل: مكعّب ميتاترون. إله الرعد هو وحدة السماء والإنسان. التنين يزحف على الأرض، والوحش المجنّح — الفينيق أو أبو الهول — يحلّق. من تشانغآن إلى بابل إلى روما، من شروق آسيا إلى غروب أوروبا، من ضفاف الهادئ إلى ضفاف الأطلسي، ومن پامير إلى الألب، حيث يطوى الشرق بالغرب عند القوقاز. فقدنا جنّة عدن ونجونا من الطوفان. شيدنا برج بابل معًا. تكلمنا اللغة الأوراسية الأولى، ثم تبعثرت لغة السماء بين الأمم. وعلى هضاب قلب أوراسيا كان بدوُ الخيل ينسلون بين الشعوب، ينقلون الرسائل بين بلاد الرافدين ويهودا وفارس ومصر والهند واليونان والصين. يتعاقبون كما تتعاقب موجات التاريخ: من تشيانغ في الشرق والآريين في الغرب، ومن التوخاريين إلى السكيثيين أو الساكا، ثم الهون أو الشيونغنو، فالتُرك والمغول. وكالأمواج تدخل هذه الشعوب كلَّ حضارة، حتى تتلاقى من جديد لتعيد بناء برج بابل.”
من خلال هذا التراكم من الإشارات، يتعاظم شعوري بأن للبشرية نسبًا خفيًا مشتركًا — سرًّا يغشاه الضباب، لكنه ظاهر لمن يقرأ رموز الثقافات قراءةً هولوغرافية، كما هو ظاهر في المسار الحقيقي لتطوّر الحضارات. يبدو لي أنّ الإنسان جاء من السماء، من عصرٍ “إلهي” صيرته الأمم أسطورة. ثم صار إنسانًا حين التقى بالكائنات الأولى على الأرض، وكان ذلك زمن “أنصاف الآلهة“، كما تروي الحكايات القديمة.
ولماذا نصرّ اليوم على تسمية ذلك كله “أسطورة“؟ لماذا لا نعيد النظر كما آمن به أسلافنا قرونًا طويلة دون أن يهتزّ يقينهم؟
ذاك هو “العصر الذهبي” الغامض. أما التاريخ المعترف به فيبدأ من العصر الحجري. وحين أصبح الإنسان إنسانًا، بدأ رحلته في معرفة ذاته. في تلك المرحلة، كان “قوم تشيانغ” ينتشرون انتشار الضوء: السومريون في الرافدين، قبيلة الإمبراطور يان في الصين، الدرافيديون في الهند، المصريون القدماء في وادي النيل، والبيلازجيون في اليونان. تلك الشعوب الأصلية ازدهرت ازدهارًا عظيمًا، وخلّفت لنا الكتل الحجرية الغامضة المنتشرة في العالم — إرث الحضارة الحجرية الأولى للبشر.
ثم جاءت موجة أخرى من البشر: “الآريون“، الذين امتزجوا بالسكان الأصليين في كل مركز حضاري — الأكّاديون والسومريون في الرافدين، قبيلة الإمبراطور الأصفر وقبيلة يان في الصين، الآريون والدرافيديون في الهند، الهكسوس والمصريون القدماء في مصر، الدوريّون والبيلازجيون في اليونان. وكان اختلاف درجات الامتزاج هذا هو ذاته ديناميكية القوة والضعف داخل الأمم. وقد دخل هذا الاندماج مرحلة “العصر المحوري” بعد حقبة مظلمة قصيرة، فانبثق عصر الفلاسفة في اليونان ويهودا والهند والصين. إن الثنائية العرقية التي تطبع الأمم ليست إلا امتدادًا لثنائية المادة والروح، وكلاهما يرفد الآخر في نمو الحضارة.
ويبدو أن أسلاف قوم تشيانغ هم التشبان القدماء في التبت، وأن أسلاف الآريين هم التوخاريون في شينجيانغ. ومن ثمّ فإن الدائرة الجغرافية الممتدة بين التبت وشينجيانغ تُشبه، في معناها العميق، الرمز المكاني لسفينة نوح إبان الطوفان العظيم. وقد كان الآريون موجة “العصر البرونزي“. ثم تلتهم موجة أخرى من نسلهم، وفي كل الحضارات الكبرى — من اليونان إلى فارس، ومن الهند إلى الصين — ظهر اسمهم باسم واحد: الساكا.
في تلك الأزمنة، كان أبناء الحضارات يستعلون على أسلافهم، ويصفون أقرباءهم السابقين بـ “البرابرة“. وأكثر الموجات البشرية رسوخًا في الذاكرة هي موجة العصر الحديدي؛ حيث نسمع أصوات الأقوام التي نُسبت إلى ما صار يُعرف لاحقًا بعائلة اللغات الألطائية. لقد تحدّثت شعوب المغول والتُرك والتونغوس بهذه اللغات، وكانت تعصف بمراكز الحضارة من شريط السهوب المترامي على امتداد أوراسيا — من الهون إلى المغول ثم التُرك.
ولم يبقَ لدينا عن الموجات السابقة إلا تخميناتٌ يتيمة، فقد مضت دون أن يدوّنها أحد. لكن الموجة المغولية تبقى المثال الأوضح؛ إذ كادت تقتحم كلّ مركز حضاري كبير. وما كان للترك — جنود المغول المأجورين — أن يتوسعوا لولا هذا التيار الجارف، حتى غدوا اليوم في قلب أوراسيا شعبًا واسع الانتشار.
ثم جاء عصر الكشوف الجغرافية، وشرع ورثة الحضارة اليونانية في ركوب طريق التحديث. وهناك اكتشف العالم أن مراكز الحضارات القديمة كانت — لقرون — خاضعة لشعوبٍ ألطائية خرجت من السهوب. فمدن الحزام الحضاري الوسيط في أوراسيا انضوت تحت العالم العربي، لكنها كانت، في معظمها، محكومةً بالعثمانيين التُرك. والهند خضعت للإمبراطورية المغولية التي أنشأها نسلٌ تركي آخر. أما الصين، فقد اعتلاها حكم أسرة تشينغ العظمى ذات الأصول التونغوسية. واستمر هذا الحكم حتى بدأ الضعف يتسلل إلى الشرق تحت ضربات الحضارة الغربية الصاعدة من البحر.
(وكلّ ما سبق ليس إلا شجرةً طبوغرافية لتطوّر الحضارات البشرية؛ فهكذا تحركت البشرية تاريخيًا، وبالأدلة الموثقة. وهذه الأنظمة الرمزية والحقائق التاريخية تتجلّى في الشعر لديّ في ما أسميه “ملحمة أوراسيا“، وفي الرواية في ثلاثيتي “التاريخ السري لجبال كونلون“، وفي الدراما في مسلسلي “الطاووس الملك“).
وقد هاجرت فرقةٌ من قوم تشيانغ شرقًا حتى بلغت الأمريكتين، وصارت هناك ما نعرفه اليوم باسم الهنود الحمر. ثم جاء الآريون من الغرب، فالتقت الموجتان على تلك الأرض البعيدة. وهذه المسارات يمكن للعنصريين — ممن يعجزون عن فهم الصورة الكبرى — أن يستغلوها استغلالًا منحرفًا، إذ يجهلون حقيقة التاريخ الأوسع.
أمّا اليوم، وفي خضم الموجة العارمة للعولمة التي تقودها الحضارة الغربية، فقد آن الأوان لإعادة ترتيب شجرة الحضارة أو الأنساب البشرية. عندها سندرك أن الغرب ليس إلا غصنًا في شجرة الإنسان الكبرى، وأن التاريخ ظلّ يتقدم — دومًا — بتتابع الحضارات، لا بانفراد واحدةٍ منها. واليوم، وقد أحسسنا بعودة الشرق إلى المسرح، نستطيع أن نتصوّر ميلاد عصرٍ جديد: عصر الجمهورية المثلى أو عصر التناغم العظيم.
ومن منظور التاريخ، فإنّ دول العالم اليوم ليست إلا نسخةً حديثة من عصر المدن–الدول في اليونان، أو عصر الممالك المتحاربة في الصين. أما عصر الاندماج الإنساني الأكبر، فهو يقف الآن على أعتابنا، قاب قوسين أو أدنى.
IV
في شبابي، حصلت على نسخة مصوّرة من الكتاب المقدس من أخي تشاو تشونبو، وتركت قصة برج بابل في قلبي أثرًا عميقًا. في البداية، كان البشر يتحدثون لغة واحدة، ورغبوا في بناء برج يصلهم بالسماء. لكن الله خشِي من تأثير ذلك على سلطته، فحرّك لغة البشر وشوّهها. فتوقف البشر عن بناء البرج، وتفرّقوا إلى آسيا وأوروبا وأفريقيا، ليصبحوا شعوبًا وأممًا مختلفة. كانت هذه القصة تجعلني أشعر بالضياع العميق، وكنت أحلم دائمًا بإعادة بناء برج بابل، وتحريك العالم نحو أرض الحلم الأصلية. ولاحقًا، أصبح هذا الحلم محورًا لموضوعي الأدبي، فكتبت أول رواياتي بعنوان قمة برج بابل.
هذا الموضوع ظلّ متجذرًا في حياتي؛ فقد سمت نفسي “سيد برج بابل“، وسمّيت بيتي “قمة برج بابل“، وابني تشاو يورافراسيا.
في عام 2017، وخلال أول برنامج كتابة دولي نظّمته جمعية الكتاب الصينيين، التقيت بالشاعرة التركية نوردوران دومان في تبادلاتنا مع الشعراء الأجانب. رغم أن لغتنا الإنجليزية لم تكن مثالية، إلا أن سحر التواصل جعلنا نفهم بعضنا البعض بسهولة، ونستكشف الشعر العالمي يوميًا. كما بدأت مسيرتي في الترجمة من خلال ترجمة مجموعتها الشعرية خطوات إسطنبول.
جعلتني أتواصل مع فرناندو ريندون، رئيس مهرجان ميديين الدولي للشعر والشاعر الكولومبي، فانضممت إلى حركة الشعر العالمية، التي أسسها فرناندو مع شعراء من مختلف أنحاء العالم في مهرجان ميديين عام 2011، العام الذي وقعوا فيه بيان حركة الشعر العالمية. فيما بعد، ترجمت النسخة الصينية من هذا البيان، ونشرتها في مجلة الشعر العالمي.
كما يقول البيان:”ندعوكم لتجسيد وتحقيق الحلم الذي لا يُقهَر لربيع الحياة، عبر ثورة الشعر العالمي. يجب أن نولي اهتمامًا بالغًا للجذور الرقيقة التي تغذي الجذع والأزهار والثمار لشجرة التحرير الفكري التي يشجعها الشعر. على الشعراء أداء هذه المهمة، والقيام بمهمتنا لتحرير آخر أرض بشرية. لقد فقد الإنسان طريقه الأصلي ومرض بفعل الفردانية المفرطة، والشعر هو كل العلاج الذي يحتاجه. الشعر يمكن ويجب أن يُصاغ بواسطة الجميع. عندما يُعبَّر عن الفكر الشعري على شفاهكم، على شفاه الجميع، ويصل إلى آذان العالم، سيكون ذلك ثمرة ثورة الشعر العالمي – عندها سيتغير العالم وتمنح الأرض ثمارها للجميع. صوت قوي ينبعث من احتراق روحي نشط، معبّر به ملايين البشر، يستطيع أن يوقف السقوط، ويستأنف رحلة الجنس البشري نحو حياة جديدة، جميلة، سامية، كريمة، وديمقراطية، متوافقة مع قوانين الطبيعة، في مجتمع بشري جديد.”
في إطار حركة الشعر العالمية، تعرفت على شعراء من أكثر من 100 دولة. ومن خلال الكتابة، والترجمة، والنشر، والنقاش، تشكّلت مدرسة شعرية من هذه الحركة. وقد شغلت منصب نائب محرّر النسخة الإنجليزية لمجلة الشعر العالمي، ودعوت عشرات الشعراء المؤثرين من جميع أنحاء العالم. كما جاء في بيان هدف المجلة: “لنسمح للشعر العالمي بالدخول إلى الصين، ولندع الشعر الصيني يصل إلى العالم“. مثل الأمم المتحدة للشعر، يعرف كلّ بلد تقريبًا شاعرًا أو عدة شعراء ممثلين له. ومثل مهمة تشانغ تشيان إلى المناطق الغربية أو اكتشاف كولومبوس للعالم الجديد، أسعى تدريجيًا للاندماج في دائرة الشعر العالمية من خلال التبادل مع شعراء العالم، وأيضًا لإكمال الملحمة الإنسانية: ملحمة أوراسيا.
كما أنني أشارك بفاعلية في الدائرة الشعرية الدولية. فكتاب زهور الإمبراطورية، الذي نُشر في إيطاليا، حاز على أربعة جوائز دولية: جائزة أبوللو ديونيسوس للشعر من الأكاديمية الدولية الثامنة للشعر والفنون المعاصرة في روما، والجائزة الدولية السابعة والعشرون للشعر من سكويد بون في إيطاليا، والجائزة الدولية الثامنة جيوفاني بيرتاكي في إيطاليا، والميدالية الفضية لمهرجان تورنتو الدولي للشعر والفنون 2021.
كما حازت ترجمتي لمجموعة الشعرية للشاعر الروسي فاديم تيريخين بعنوان الطائر الذهبي في الشمس على جائزة الفارس الذهبي الثانية عشرة في روسيا، وهي أعلى جائزة للترجمة في ذلك البلد.
V
في الوقت الذي أنخرط فيه في فوران الشعر العالمي، أشعر في الوقت ذاته بالقلق تجاه الشعر الصيني اليوم. فقد انعقد المهرجان الدولي الثالث للشعر في بواو منذ فترة قصيرة، وبصفتي السكرتير التنفيذي المساعد ألقيت كلمة في المنتدى بعنوان: “الخروج من الانكماش: في عصر العولمة، يجب أن يكون للشعراء الصينيين القدرة على كتابة العالم كله“.
هذا ما تعلمته من خلال الترجمة الأدبية والتبادلات الدولية. وأشارك القراء النقاط الأساسية: في عصر الإنترنت والعولمة، يتسارع ظهور الأدب العالمي الذي أشار إليه الشاعر الألماني الكبير غوته عام 1827. الشعراء في كل أنحاء العالم أصبحوا وحدة واحدة.
كما يفعلون في أدبهم المحلي، الأهم هو أن محتوى وأسلوب الأعمال الأدبية يندمج فعليًا في الدائرة الأدبية العالمية.
العالم اليوم ليس الصين في عهد أسرتي هان وتانغ. الأرض في عصر العولمة، الثقافة الصينية ليست سوى جزء من حضارة العالم الشاملة، وعلينا أن نقبل ذلك ونتعامل معه. الحضارة اليوم هي نتاج سبع حضارات كانت تمتد عبر القارة الأوراسية. وفقط من خلال تتبع هذا الجذر يمكننا الاندماج في حضارة العالم الكلية – دمج الحضارات القديمة والحديثة، دمج الحضارات الغربية والشرقية، دمج الحضارات الغامضة والدنيوية – والمشاركة في خلق حضارة عالمية جديدة وفريدة.
الحضارات الشرقية والغربية كالأرجوحة. ففي العصر الإقطاعي، قدّت الحضارة الصينية العالم يومًا ما، ولكن علينا أن نعترف أن الحضارة الغربية أصبحت اليوم المسار الرئيسي للحضارة العالمية. يجب أن يكون الشعراء الصينيون قادرين على كتابة العالم كله، حتى نستطيع أن نضغط أرجوحة الحضارة العالمية باتزان أكبر نحو الشرق مجددًا.
ورغم أن هذا يبدو تطرفًا، إلا أنني قلِق أيضًا من تكرار الانكماش الثقافي العام في الصين. إذا أردنا مواجهة صعود الحضارة الغربية، فعلينا أولاً أن نفهمها.
في الوقت الراهن، تُهيمن المركزية الغربية في أنحاء العالم، ويُحاول بعض الناس في الصين مواجهتها بـالمركزية الشرقية. لكن الواقع هو عالم متنوع. وأنا أميل إلى الكوزموبوليتانية، التي تجمع بين التعددية الشرقية والغربية.
الكثيرون الآن يدرسون الشعر الغربي المترجم ويكتبون الشعر الحديث. لكن قافية الشعر الغربي تسبب انقطاع الجمل. العديد من الشعراء يتبعون القواعد بدقة، ويعتبرون أول ما يجب مراعاته هو عدم الوضوح في الكلمات. ومن يعرف لغة غربية يدرك أن هؤلاء الشعراء هم الأكثر وضوحًا وسلاسة ضمن السياق الغربي.
وجدت أن شعر الشاعر الصيني هايزي يتجاوز هذا النوع من انقطاع الجمل، ولذلك كان لزامًا عليّ أن أجعل شعري يلتزم بأن تنتهي الجملة أو المعنى في سطر شعري واحد، ليحافظ على وحدة المعنى واللحن الداخلي للقصيدة.
VI
لقد فكرت ذات مرة في الشعر الصيني بشكل منهجي. وليس منذ زمن بعيد، شاركت في استبيان أكاديمي ضمن مشروع صندوق العلوم الاجتماعية الوطني بعنوان “بحث حول الأسلوب الشعري المبتكر في الشعر الصيني المعاصر” برعاية الناقد شنغهاي تيه وو. وهنا أشارك معكم عشرة أسئلة طرحها تشاو شوي حول الشعر الصيني:
- هل تدركون أن عالم الشعر الصيني الحديث قد غرق في مستنقع الانكماش المتكرر؟ وكيف يمكن الخروج منه؟
- هل تدركون أن تاريخ الشعر ينقسم إلى الملحمة في المرحلة الأولى، والشعر المقفى في المرحلة الثانية، والشعر الحر في المرحلة الثالثة؟ هل قرأتم الملاحم الهندية، وملحمة هوميروس، وجلجامش، وكبرى ملاحم العالم؟
- هل أنتم واعون بالانفصال بين الشعر المقفى القديم والشعر الصيني الحديث؟ وكيف يمكن دمج الثقافات القديمة والحديثة في الشعر؟
- هل تدركون الأهمية الحديثة للشعر في اللغات الغربية الكبرى؟ وكيف يمكن الجمع بين الثقافتين الغربية والشرقية في الشعر؟
- هل تعرفون لغة غربية أو شرقية كبرى؟ وهل تدركون أن الجمل المقطوعة في الترجمة ناتجة عن قافية الترجمة الحرفية للشعر الغربي؟
- هل تدركون العلاقة بين المضمون والشكل في الشعر؟ وكيف يمكن دمجهما معًا؟
- هل تدركون أن هناك، إلى جانب الحضارتين الصينية والغربية، حضارات واسعة مثل البابلية واليهودية والمصرية والهندية والفارسية؟ هل قرأتم أشعارها؟
- هل تعرفون كيف تتشكل سلطة الخطاب الشعري؟ وكيف تعتقدون أنه يمكن كسر “هيمنة الشعر” وجعل الشعر الصيني الحديث متألقًا؟
- هل تعرفون خلاف تشاو شوي ويي شا بين 2018 و2020؟ أي منهما تعتقدون أنه أكثر جدوى: الشعرية العظمى التي دعا إليها تشاو شوي أم الشعر ما بعد المحكية ليي شا؟ وهل يمكنها فتح طريق جديد للشعر الصيني الحديث في القرن الحالي؟
- هل تعتقدون أن الشعرية العظمى قادرة على إخراج الشعر الصيني الحديث من مستنقع الانكماش؟ وهل تفهمون مقترحها الأساسي: “دمج الثقافات القديمة والحديثة“، “دمج الحضارات الغربية والشرقية“، “دمج الحضارات الغامضة والدنيوية“، “دمج ثقافات الذكورة والنسوية“، “الكتابة وفق شكل الأشياء“، و“دمج الصوت والمعنى في اللغات“؟
في خطاب ألقيته مؤخرًا في مهرجان بواو الدولي للشعر، أشرت إلى أن قصة برج بابل هي استعارة، وردت في الكتاب المقدس، وهناك أساطير مشابهة في كتاب تاي بينغ غوانغ جي الصيني. أكبر إلهام تلقيته من هذه القصة هو أنه عندما تفتح الفجوة بين اللغات، سيتشكل برج بابل طبيعيًا. هذا أصبح مبدأي الإرشادي أثناء تعلم اللغة الإنجليزية.
لماذا أؤكد على ضرورة تعلم لغة أجنبية؟ لأنه بهذه الطريقة فقط يمكنك العودة إلى معنى لغتك الأم مرة أخرى. إذا استطعنا تبادل الأفكار بالإنجليزية، والصينية، والفرنسية، والروسية، والإسبانية، والعربية، يمكننا إعادة بناء برج بابل. ربما يستغرق حلم إعادة بناء البرج خمسمئة عام لتحقيقه، لكننا يمكن أن نصل إلى أسمى الأهداف التي نسعى إليها من خلال دمج الكتابة الأدبية – بما في ذلك فهم أن اليوم عصر العولمة، وأننا نعيش على كوكب هو قرية كونية. وبصفتنا شعراء صينيين، باستخدام لغة من المجرة، يجب أن نكون قادرين على كتابة العالم!
أثار هذا الخطاب صدى واسعًا في المهرجان. ولاحقًا، نُشرت النسخة الإنجليزية على الموقع الرسمي لحركة الشعر العالمية، مما أثار نقاشًا واسعًا بين الشعراء في جميع أنحاء العالم. ومن بين هؤلاء، كتب جورج والاس، الكاتب المقيم في مسقط رأس والت ويتمان وأول شاعر رسمي لمقاطعة سوفولك بنيويورك، مقالًا رد فيه بعنوان: “دمج الزهور السبع لبرج بابل الدوار: من مركزية العرق إلى التعددية الشرقية والغربية“.
واختتم مقاله قائلاً: “في عصر الإنترنت والعولمة، يتسارع مفهوم الأدب العالمي الذي طرحه الشاعر الألماني الكبير غوته عام 1827. الشعراء في كل أنحاء العالم أصبحوا وحدة واحدة. قال تشاو شوي إن متابعة هذا الهدف، سواء استغرقت خمس سنوات أو خمسمئة سنة، لن تساعد فقط على خلق حضارة عالمية عظيمة، بل ستؤكد أيضًا ثقافاتنا الوطنية وهوياتنا من خلال فهم جميع الحضارات المستقلة في العالم. إن بيان تشاو شوي المهم، المعارض للقومية الثقافية والراعي للتبادل الثقافي، موجَّه للشعراء الصينيين، لكنه قد يكون موجَّهًا أيضًا إلى شعراء كل أمة على وجه الأرض“.
VII
يظل برج بابل أحد المواضيع الرئيسة في كتاباتي، وهو المحور المركزي لملحمتي عن قارة أوراسيا. كما علقت الناقدة والكاتبة الصينية تشانغ نينغ، مديرة مركز بحوث الأدب والثقافة الصينية المعاصرة بجامعة بكين التربوية:
“غالبًا ما تظهر صورة ‘برج بابل‘ في قصائد تشاو شوي، والتي لا تعكس شعورًا مثاليًا فحسب، بل تحتوي أيضًا على طموح كتابي. إن صورة ‘برج بابل‘ تحتوي على اتجاهين: السماء والغنائية، الانهيار والسرد، وهما أيضًا القطبان اللذان يشكلان أسلوب تشاو شوي الشعري. الطبيعة والغنائية الناتجة عن حياة تشاو شوي في تشينغهاي في سنواته الأولى، والمدينة والسرد الناتجان عن حياته في بكين في السنوات الأخيرة، تتعايشان في شعره.
في مجموعة الشعر الجديدة ‘زهور الإمبراطورية‘، يمكننا رؤية المدينة الضخمة المشوهة، سماع تنهّد فتيات المترو، رؤية الشباب الطموح يسعى نحو النجاح، ومشاهدة بغايا الطبقة الراقية في المجتمع. هذه الكائنات الحديثة المتحضرة تتجمع من خلال صورة ‘برج بابل‘، التي تشكل الخلفية الأساسية لشعر تشاو شوي، وتدمج بين الغنائية والسرد، وتربط بين الماضي والحاضر. وفي الوقت نفسه، من خلال المقارنة بين الزراعة والمدينة، التقليد والحداثة، الشرق والغرب، يتضح أن اللغة الشعرية تلعب دور الوسيط والجسر كحامل للأفكار.”
هذه القصائد الطويلة أو السلاسل الغنائية المدرجة في هذا الكتاب، أي “القصيدة العظمى” أو “الملحمة الثالثة“، كُتبت بالتتابع منذ أن كتبت إعلان الشعرية العظمى عام 2007. معظم قصائدي الغنائية تتجه نحو مركز واحد، وهو فهمي لتطور الحضارة الإنسانية جمعاء. في حياتي، أنا أكتب قصيدة عظيمة واحدة فقط: الملحمة الكبرى لأوراسيا. هذه القصيدة في تطور مستمر، بما يبدو متوافقًا مع الشكل الأصلي للملحمة، كما أن المغنين في العصور الماضية كانوا يطورون أعمالهم باستمرار؛ وفي هذا السياق، يمكن اعتبار مجموعة أوراق العشب لوالت ويتمان نموذجًا جديدًا.
عالمنا هو تجسيد لروح الكون. الملحمة تصف هذا التطور من خلال اللغة؛ البنية الداخلية لهذه القصيدة هي مصغرة لتاريخ الإنسان، وكل الأشياء في العالم قد تمنحنا الإلهام. يمكننا أن نظهر ذلك النوع من الروح. لا يوجد مكان في القصيدة بلا أساس. مثل بوتقة الكيمياء، يجمع الإنسان عناصر العالم ليصقلها في نموذج كوني، ويكشف الروح الداخلية والوجود الخارجي للعالم.
الشكل الخارجي لهذه القصيدة هو غنائية الإيقاع الخفي. فقط باستخدام شكل الشعر الغنائي لعرض أو إظهار الروح الكونية، يمكننا إيصال تلك الروح بشكل صحيح، وهي أيضًا روح الشعر؛ هذا هو شكل الشعر اليوم.
تصف المقدمات الكبرى الثلاث تطور العالم، بينما تصف مقدمة آسيا: حلم بامير، ومقدمة أوروبا: حلم البحر المتوسط، عملية تطور اندماج الجغرافيا والأعراق بين آسيا وأوروبا. القوس البارد: طوبولوجيا العالم هو عملية تفكك العالم. المخطط الأزرق هو تفكك الاتحاد السوفيتي، الذي يمثل تفكك المثالية الحديثة بالنسبة لنا؛ إذ بدأ العالم يتفرق من شمال قارة أوراسيا العظيم.
“الكون غير المؤكد بين الثقوب السوداء والثقوب البيضاء: أغنية العناصر” تستخدم العناصر المستخلصة أو المعروضة في العالم لبناء العالم. كل عنصر منها يتضمن أغنيتين للين واليانغ. الين واليانغ هما أساس الفلسفة الصينية ويمتدان في كل شيء، وهو أمر يصعب فهمه في الحضارة الغربية. مقارنة بالثنائية الغربية، كل ما هو متغير، خارجي، صاعد، دافئ ومضيء ينتمي إلى اليانغ؛ أما الثابت، الدفاعي، النازل، البارد والمظلم فينتمي إلى الين، وهكذا.
هيكلنا الكوني هو التحول بين الثقوب السوداء والثقوب البيضاء. كل الدلائل تشير إلى أن الشكل الكامل لعالمنا يجب أن يكون: العالم المادي لأجسامنا (الثقب الأبيض) والعالم الروحي للروح (الثقب الأسود). هذان العالمان يغيران باستمرار حالة “اللايقين” بين النمو والانحدار، متغلغلين في جميع مستويات عالمنا وروحنا. عالم اليقظة يتوازى مع عالم الحلم، وهذا تفسير منطقي للثنائية التي لا يمكن التوفيق بينها أو لنظرية الين واليانغ. الروح والمادة لا يمكن أن تتحمل كل منهما الأخرى، ويبدو أن التأمل أو الحدس أو الحلم هو وسيلة التواصل.
“شكل قارة أوراسيا” يصف الهيكل الطوبولوجي للقارة. “الحب بين الشرق والغرب: حجرة العرسان التنانين التسع والميوزات التسعة” هو رمز لاندماج الثقافة الشرقية والغربية. هناك قول إن التنانين تلد تسعة أبناء في الشرق وأساطير تسع ميوزات في الغرب. من خلال أغاني حب محددة، نصف اندماج الشرق والغرب والعودة إلى موطننا الأصلي في آسيا وأوروبا.
“السير في مركز قارة أوراسيا” كتبته أثناء رحلتي حول التبت وشينجيانغ، مركز الين واليانغ للقارة. فهما مسقط رأس الجنس البشري: قوم تشيانغ والشعب الآري. هذا هو تواصلي المزدوج مع مركز قارة أوراسيا في المثال والممارسة.
فيما يلي مقتطف، على شكل مقدمة ذاتية للقصيدة “نار بامير“:
“الخريطة الكبرى لليين واليانغ لقارة أوراسيا: حاملةً نارًا من تشينغهاي، والتبت، وشينجيانغ إلى هضبة بامير عبر جبال كونلون“.
حول هذه الرحلة، كتبت مذكرة سفر من 200,000 كلمة بعنوان “السير في جبال كونلون الكبرى: رحلة إلى التبت وشينجيانغ“. يمكن الرجوع إليها للقراءة المرجعية.
كتبّت المدينة السرية لقارة أوراسيا أثناء معاناتي مع مأزق الحياة والموت بعد جولتي، وهي وصف محدد لقارة أوراسيا. في ذلك الوقت، كان يراودني وهمٌ دائم بأن مركز القارة هو قصر الأسد في قلعة بامير على هضبة بامير. أما “التنين الزاخر في أرض التنين الصاعد” فهو وصف محدد لمركز الأرض في أوراسيا. أؤمن بأن مصيرنا متكامل مع روح السماء، وأن كوننا هولوجرافي.
“الوصول إلى قارة أوراسيا من اتجاهين” هو وصف عقلاني لاندماج الشرق والغرب، بينما “الحب بين الشرق والغرب: حجرة العرسان للتنانين التسع والملهمات التسعة” هو وصف شعوري وتجريبي. أما “أغنية خان–باليغ أو روما” فهي مستوى من مستويات اندماج الحضارات الشرقية والغربية، فقد كانت هذه المدن يومًا ما مراكز للحضارة الشرقية والغربية.
“خطة برج بابل” هي صورة الاندماج التي أسعى إليها بين الحضارتين الشرقية والغربية، والطريقة الواقعية لدمج الحضارات الشرقية والغربية، وأحدث تفكيري حول العالم.
“الزهور السبعة لبرج بابل الدوار: العالم ليس مركزيًا غربيًا، العالم ليس مركزيًا شرقيًا، والعالم متعدد المراكز شرقًا وغربًا في قارة يورافراسيا“، ينبع من ردي على مقال جورج والاس بعنوان “دمج الزهور السبعة لبرج بابل الدوار: من المركزية الإثنية إلى تعدد المراكز الشرقية والغربية“. كما يشير العنوان، فإن المركزية الغربية والمركزية الشرقية هما رؤية أحادية الجانب.
إذا استطعنا تبادل الأفكار باللغات الإنجليزية، الصينية، الفرنسية، الروسية، الإسبانية، والعربية، فسيُعاد بناء برج بابل مرة أخرى.
VIII
اليوم، ينبغي علينا أن نؤسس تعددية المراكز بين الشرق والغرب، وهو أيضًا ما تؤكده ملحمتي التي أسعى لتحقيقها.
“مكعب ميتاترون: القصر الأبدي وقصر العدم في أعماق قارة أوراسيا“؛ ميتاترون هو ميثرا، إله النور الذي انتشر يومًا في قارة أوراسيا. في الغرب، تحول ميتاترون إلى ملاك عظيم في المسيحية، وفي الشرق يظهر في صورة مايتريا، بوذا في البوذية.
مكعب ميتاترون هو واحد من أكثر الأشكال الهندسية كمالًا. يمكن ملاحظته من خمس أجسام إيجابية فقط في عالمنا. النقاط الاثنتا عشرة المحيطة به هي مراكز قارة أوراسيا الاثنا عشر، وبالوسط هناك ثلاثة عشر نقطة بالضبط. النقاط الاثنتا عشرة أيضًا تتوافق مع الأفرع الأرضية الاثني عشر في الشرق والأبراج الفلكية الاثني عشر في الغرب.
هذا المكعب الرائع، سواء أطلقنا عليه مكعب ميتاترون أو مكعب ميثرا، يمكن استخدامه كرمز لـ“نموذج عالمنا“، ولذلك تم استخدام هذه الصورة على غلاف النسخة الصينية.
“افتتاحية العالم: الخريطة الطوبولوجية لتطور الحضارة الإنسانية” تصوّر عملية تطور حضارتنا.
منذ ولادة الإنسان في أفريقيا، توسعت الحضارة الإنسانية من بابل إلى يهودا ومصر واليونان نحو الغرب، وإلى فارس والهند والصين نحو الشرق. كما ذكرت سابقًا، فإن “الملحمة الثالثة” أو “القصيدة الكبرى” هي عملية تحسين مستمرة. في هذه المجموعة، أقدّم مقتطفًا فقط. الأعمال الأخرى مثل التاريخ السري لكونلون العظيم، قانون برج بابل، أغنية اليين واليانغ الكبرى في أوراسيا، وأغنية أوراسيا لم تُدرج بسبب طولها. سيتم نشر النسخة الكاملة في الوقت المناسب، وستُستكمل المزيد من الفصول في المستقبل.
ملحمة أوراسيا تشبه تمثالًا ضخمًا. في هذه المرحلة، هي في خطوطها العريضة الأولى. في هذه القصيدة، سيصبح جوهر عالمنا أكثر وضوحًا يومًا بعد يوم، ولن تنتهي حتى أموت.
بكين، 5 فبراير 2022
عنوان الكتاب

