مصطفى القرنة يكتب: دلالات العنوان في ديوان “موتى يعدون الجنازة” لعبد الله عيسى

الشاعر عبد الله عيسى، فلسطين
يمثل العنوان في أي عمل أدبي واحدًا من أهم العناصر التي تحدد إيقاع النص وتحمل دلالات عدة تستفز خيال القارئ وتدفعه إلى الغوص في أعماق المعاني التي ينطوي عليها العمل. وفي ديوان “موتى يعدون الجنازة” للشاعر عبد الله عيسى، يحمل العنوان أكثر من مجرد إشعار بالقوة الرمزية أو التوثيقية. إنه يفتح المجال لتفسير فلسفي عميق حول الحياة والموت، الزمان والمكان، والوجود والانعدام. موتى يعدون الجنازة – من الموت إلى الحياة “موتى يعدون الجنازة” هو عنوان يوحي بتناقض جوهري بين الموت والحياة، بين الزوال والبقاء. في حين أن الجنازة هي عادة تمثل وداعًا نهائيًا للإنسان، فإن فعل “يعدون” – الذي يأتي في الزمن الحاضر – يثير سؤالًا فلسفيًا غريبًا. كيف للموتى، الذين هم في حالة من السكون والغياب، أن يقوموا بالفعل الذي يرتبط بالحياة، وهو إعداد الجنازة؟ هذا التناقض نفسه هو الذي يمنح العنوان غموضه وعمقه.
الدلالات اللغوية للفعل أعد : الإعداد والتجهيز: في السياق اللغوي المباشر، “أعدّ” يعني القيام بالتحضير أو تجهيز شيء ما. الاستعداد: الفعل يمكن أن يشير إلى مرحلة التحضير لحدث مستقبلي . التخطيط والتنظيم: قد يعني “أعدّ” أيضًا تنظيم أو ترتيب الأمور بشكل مُحكم قبل تنفيذها، كما في “أعدّ خطة عمل”، مما يعكس مفهوم التنظيم والتخطيط. موتى يعدون الجنازة.. عبد الله عيسى كتاب موتى يعدون الجنازة.. عبد الله عيسى كتاب موتى يعدون الجنازة.. عبد الله عيسى الدلالات الفلسفية: التحضير العقلي والوجداني: في الفلسفة، قد يتعدى “الإعداد” مجرد التحضير المادي إلى الإعداد النفسي والفكري.
فالفعل “أعدّ” يمكن أن يرمز إلى التهيئة العقلية لمواجهة تحديات الحياة أو استيعاب مفاهيم فلسفية عميقة. التوجيه نحو هدف معين: يمكن أن يرتبط الفعل “أعدّ” بتوجيه الطاقة والجهد نحو هدف أو غاية معينة، ما يعكس مفهوماً فلسفياً عن الاستعداد الشخصي أو الجماعي لتحقيق الغايات العليا. قد يتراوح هذا من الإعداد لتحقيق الانتصار الأخلاقي أو الوجودي إلى الإعداد لتجربة فكرية جديدة. التحضير للحرية أو المسؤولية: في بعض التوجهات الفلسفية، يرتبط “الإعداد” بتأهيل الذات لتحقيق الحرية أو المسؤولية، كما في فكر الفلاسفة الذين تناولوا مفهوم الإعداد الذاتي لأخذ قرارات مستقلة وواعية. إجمالًا، “أعدّ” هو فعل يحمل أبعادًا متعددة تتراوح بين المادية والعقلية، من التحضير الملموس للأشياء إلى الاستعداد العقلي والنفسي، مما يجعله قابلاً للتفسير في سياقات متنوعة. من الناحية الفلسفية، يمكن تفسير هذا العنوان من خلال رؤيتنا حول الحياة والموت، حيث الأخير ليس نهاية مطلقة بل عملية انتقالية بين حالتين وجوديتين. في موت الإنسان بداية لفهم أعمق للحياة، ربما يكون هذا هو نفس ما يحاول الشاعر الوصول إليه في ديوانه. ربما يكون الموت في هذا السياق رمزًا للتحرر من القيود الزمانية والمكانية التي تحبس الإنسان في دنياه، بينما يعد الموتى الجنازة كأنهم في حالة من الوعي المحايد الذي يتجاوز التمييز بين الحياة والموت.
الجنازة كرمزية للزوال والانقطاع تمثل الجنازة في الأدب والثقافة العربية والعالمية لحظة الوداع النهائي، لحظة انتفاء الوجود. والجنازة، بكونها تمثل النهاية الفيزيائية للإنسان، هي وسيلة لتمرير الوعي البشري من حالة التواجد إلى حالة العدم. إلا أن الشاعر في ديوانه يعيد تصوير هذا الفعل عبر ما يمكن أن نعتبره تحريكًا لهذا الرمزية، فالموتى في العنوان ليسوا مجرد جثث تمثل النهاية، بل هم كائنات مفكرة قادرة على أن “تعد” شيئًا. وفي السياق يشكل الموت عبئًا يحمله الإنسان طوال حياته، ويظل يشغله، لكن في لحظات متأخرة، قد يتجسد الموت في صورة مختلفة، صورة الحرية الروحية التي لا تخضع للمكان أو الزمان. في هذا السياق، يفرض العنوان تساؤلًا فلسفيًا: هل الجنازة فعل من أفعال الحياة، أم هي مؤشر على الزوال الكامل؟ قد تكون عملية الإعداد هذه تمثل محاولة الموتى التمرد على قوانين الحياة، وتحديًا لطبيعة الوجود ذاته. العنوان والتأمل في الموت والحياة إن العنوان يعكس بطريقة غير مباشرة تلك الثنائية الصارمة بين الحياة والموت، ويعكس بشكل عميق الفكرة الوجودية التي شغلت العديد من المفكرين .
ففي أعماله الأدبية ، يسعى الشاعر إلى فهم المعنى العميق لوجود الإنسان في عالم مليء بالآلام والمشقات. ومن خلال هذه المعاناة، يصل الإنسان إلى لحظة من الفهم الإيماني، حيث يصبح الموت ليس مجرد حالة من العدم، بل نقطة تحول نحو الوجود الأسمى. بالتالي، “موتى يعدون الجنازة” يظل بمثابة دعوة للتأمل في ما وراء الفكرة التقليدية للموت. فهل الموت مجرد حركة على خط مستقيم؟ أم أن هناك معنى أعمق في أن يقوم الموتى بالإعداد لما يُفترض أن يكون فعلًا متعلقًا بالأحياء؟ الشاعر هنا، في قراءته للوجود، يقدم استفسارًا عن طبيعة الوجود بعد الموت: هل هو حالة من الهدوء الأبدي، أم أن هناك شكلًا من أشكال الحياة يتناغم مع الموت في حركة مستمرة؟ ارتباط العنوان بالتقنيات الشعرية يستفيد الشاعر من تكنيك العنوان لخلق حالة من التوتر بين المعنى الظاهر والمعنى الخفي. فالموت في الأدب العربي كثيرًا ما يرتبط بالجمود والعزلة، لكن الشاعر هنا يضع الموتى في موضع الفاعل، وهم يعدون الجنازة. هذه الصورة تُظهر نشاطًا لا يتناسب مع الطبيعة المألوفة للموت. هذه التقنية تساعد في فتح أبواب جديدة لفهم الموت كعملية تفاعلية، بدلاً من مجرد حالة انقطاع. ملاحظة أخرى يمكن أن تضاف إلى العنوان هي كيفية استثمار الشاعر لمفهوم الجنازة كعنصر تقليدي محمل بالدلالات الثقافية. في حين أن الجنازة عادةً ما تُصوَّر كمناسبة حزينة، فإن حضور الموتى في العنوان يُضفي عليها بعدًا فلسفيًا عميقًا يعكس تساؤلات الوجود وحالة الإنسان.
العنوان والوجود الإنساني من منظور فلسفي أعمق، يعتبر العنوان نقطة انطلاق لتفسير الوجود الإنساني في ذاته. وفي هذا السياق، يعكس “موتى يعدون الجنازة” تساؤلًا مستمرًا حول الحدود بين الحياة والموت. إذ تُطرح فكرة “الوجود” في ثنايا العمل: هل نحن فقط كائنات حية تنتهي بموتنا، أم أن هنالك بعدًا آخرًا للوجود يستمر بعد الموت؟ أصبح مفهوم “الوجود” في الفلسفة الحديثة مشوشًا بين الوجود الواقعي والمجازي، والمادي والروحي. وعبر هذه الثنائية، يحاول الشاعر أن يربط الوجود البشري بالموت، ويخلق علاقة جديدة بين مفهوم الحياة وما بعد الحياة. في الختام، يمكن القول إن العنوان “موتى يعدون الجنازة” لعبد الله عيسى يعد مدخلا إلى نص شعري فحسب، وهو ايضا فضاء مفتوح لتأملات فلسفية عميقة. هو دعوة لفهم العلاقة بين الحياة والموت، وفتح أفق التأمل في مفهوم الوجود البشري. لقد تمكن الشاعر من استخدام العنوان كأداة لتسليط الضوء على أبعاد وجودية معقدة، وتحدي التصورات التقليدية حول الحياة والموت، ليبقى السؤال المطروح هو:
هل فعلاً “الموتى” يعدون الجنازة، أم أن الجنازة هي ما يعدنا جميعًا لما بعد الحياة؟
جدير بالذكر أن موتى يعدون الجنازة طبع في دمشق ١٩٨٥، إصدارات وزارة الثقافة السورية.. طبعة ثانية بإصدارات دار عربيات ١٩٨٧.. طبعة ثالثة بإصدارات دار الثقافة الجديدة الرباط ١٩٩٨