
ربماكنتُ أول من قرأ العمل الروائي أبي رسام خرائط للمبدع الفذ متعدد المواهب أشرف أبو اليزيد، وأعتقد أنني آخر من كتب عنه. قد يبدوهذا العمل للبعض مخصصًا للأطفال واليافعين، لكنك بعد قراءة سريعة تجد نفسك أمام كمٍّ هائل من المعارف والمعلومات، التي قد تكون المرةالأولى التي تطّلع عليها، كما حدث معي. وأحيانًا تكتشف أن هذا العمل موجَّهٌ لكافة الأعمار، نظرًا لثرائه المعرفي، وتوثيقه، وفتح آفاق جديدةورحبة للجميع، بما في ذلك الكبار.

كنتُ سأبدأ الكتابة بعد قراءتي الأولى بعنوان النسبية الغرائبية عند أشرف أبو اليزيد، لكنني بدّلت رأيي وقررت الانطلاق من زاوية مختلفة،لأن هذا العمل يحمل عدة مستويات من الطرح، لا بد من تناول كل منها على حدة، حتى لا تضيع الفكرة في محاولة بلورة الصورة الكلية لهذاالعمل بالغ التميز والدقة. لذا، لنؤجل الحديث عن “النسبية الغرائبية” إلى مستوى آخر من القراءة والكتابة، خاصة أن هذا العمل قد يتعرضللظلم إذا قُرئ من زاوية واحدة فقط، دون التطرق إلى مستوياته الأخرى، التي تجعل منه عملًا أدبيًا استثنائيًا يحتاجه الصغار واليافعونكما يحتاجه الآباء الباحثون عن المعرفة والتوثيق.

من سمات الأسلوب الذي يتبعه أشرف أبو اليزيد في أعماله الروائية، سواء للكبار أو للصغار، دمجُ المعلومات المعرفية والتوثيقية مع إحالاتذكية إلى موضوعات تاريخية ذات صبغة اجتماعية وعلمية ترصد تطور السياق المعيش. لكن في أبي رسام خرائط نجد أن الأمر يتجاوزمستوى التوجيه الاجتماعي والأخلاقي للطفل، ليصل إلى مستوى الجدل السياسي والمجتمعي عند الكبار، حيث يحمل في طياته رصدًالتغير السياق المجتمعي في مصر بين حقبة وأخرى.
“لن يبدأ النهارُ بدون ضوء، ولن نعرفَ الطريقَ بلا خريطة، وإذا كانت الشمسُ ترسل الضوءَ للنهار، فإن خطواتِنا هي التي ترسمُ الخرائط.”
هكذا يبدأ يوم التلميذ الذكي “رشيد راشد“، ابن رسام الخرائط الأستاذ “راشد“. لكن عليك أن تقرأ ما بين السطور، وألا تظن أن الخريطةتعني المكان فقط، أو حتى “الموقع والموضع“، كما علّمنا العلامة الجليل د. جمال حمدان في كتابه شخصية مصر. فـأشرف أبو اليزيد لديهخريطة أخرى، وسياق آخر أخلاقي ومجتمعي وسياسي. فما كان للنهار أن يصبح مضيئًا دافئًا دون شمس، كما أن خطواتنا التي ترسمالخرائط لا تعني خريطة المكان فقط، بل ترسم أيضًا خريطة الأخلاق وشكل المجتمع، الذي طرأت عليه متغيرات الرأسمالية المتوحشةواقتصاد السوق، أو بالأحرى “اقتصاد السوء“.
يتعرض التلميذ الخلوق الذكي رشيد راشد لسخرية زملائه في الصف، لأن بعضهم يرى أن مهنة رسام الخرائط متواضعة وغير مهمة. ربمالأنهم ينظرون إلى جانبها المادي، حيث لا تدر دخلًا كبيرًا على صاحبها رغم مشقته. في المقابل، نجد زميله “سعيد” فخورًا بوالده طبيبالأسنان، الذي يملك عيادة مشهورة في ميدان النافورة. لاحظ “الغمزة” الذكية من المؤلف، فكلنا نعرف مدى ارتفاع دخول أطباء الأسنان،فما بالك بطبيب يملك عيادة في ميدان شهير وفخم، مما يدل على ثراء كبير. هنا، لا يعود فخر “سعيد” بجانب اجتماعي أو علمي فقط، بلبمقياس الثراء الفاحش، حيث يُقيَّم الآخرون بمقدار ما يملكون من أموال.
أما زميله “عزيز“، فهو “يتغنى” بأمه المهندسة، التي صممت مبنى البلدية ذو البرج الحديدي، في وصف يُحيل القارئ إلى علاقة والدة“عزيز” القوية بالسلطة، التي يجسدها تصميمها للبرج الحديدي، وكأنه يرمز إلى السلطة الصارمة التي تفتقر إلى المرونة والإنسانية. مرورًابزميله “ناجي“، الذي يتحدث طويلًا عن والديه، اللذين يملكان مكتبًا معروفًا للمحاماة، وكأن ذلك يرسّخ لمفهوم العدالة الاجتماعية العمياء،المتماهية مع عدالة القانون. وصولًا إلى زميله “رجائي“، الذي يجسد المتغيرات الاجتماعية والمفاهيم التي تعكس هيمنة الرأسمالية علىالمجتمع اليوم، حيث يتم تقييم الأشخاص بناءً على ثرواتهم. فنجد “ناجي” يتحدث بفخر عن سلسلة المطاعم التي ورثها والده، وعن الأفرعالجديدة التي سيفتتحها.
نلاحظ في بداية العمل حرص المؤلف على التأكيد بأن هؤلاء زملاء “رشيد“، لكنهم ليسوا أصدقاءه الحقيقيين أو أقرانه في العلم والمعرفةوالطموح.
—
ولا يمكن إغفال دلالة الأسماء في أبي رسام خرائط، وهي إحدى سمات السرد عند أشرف أبو اليزيد، التي تذكّرنا بأسلوب نجيب محفوظ. وخلال رحلتنا في الرواية، سنكتشف هذا الأمر بوضوح.
ما سبق هو مجرد قراءة أولية لعمل قد يكون من أهم الأعمال الأدبية التي كُتبت للأطفال واليافعين، ومعهم الكبار أيضًا، في هذه الحقبة. عملٌيحتاج إلى التمهل في قراءته، وفهم مفاتيحه ومداخله، وأولها إدراك قيمة الخريطة، ليس بوصفها مجرد أداة لتحديد المواقع، بل كوثيقة تُرسّخهوية الوطن، وتكشف جوهره من الفرد إلى المجتمع بأكمله.
أبي رسام خرائط، بين قيمة المعرفة والعلم وسحر الأساطير
لعل من أهم السمات الفنية لـ“أشرف أبو اليزيد“، مؤلف العمل المتميز أبي رسام خرائط، اهتمامه بالتفاصيل المعرفية، سواء كانت علمية أوتاريخية أو غير ذلك، فيجد المتلقي أو الباحث المهتم، على السواء، أكثر مما يتوقع من معلومات ومعارف، تضيف إليه متعة فوق متعة قراءةرواية ممتازة ومميزة. ومن تابع أعمال “أشرف أبو اليزيد” سيلاحظ أنه فعل ذلك مرارًا، فأدرج قدرًا لا بأس به من المعارف التاريخيةوالمعلومات عن ثورة 23 يوليو 1952 ورجالها في ثنايا سرده لروايته حديقة خلفية، أو عندما اصطحب قارئه في رحلة عبر تاريخ الاستعمارالبرتغالي لساحل “عُمان” وقلاعه التي تركها هناك شاهدة على حقبة هامة من تاريخ المنطقة، وتاريخ الاكتشافات الجغرافية، وأشكال العلاقةبين المواطن العربي الوافد للعمل في الخليج وعلاقاته المتشابكة، خاصة مع أصحاب البلاد، في روايته 31، وسنعرف أكثر عن هذا النوع منالعلاقات وخبايا العمل في الخليج، خصوصًا في المؤسسات الصحفية والإعلامية، والأشكال المعقدة للعلاقات الاجتماعية على مختلفالصعد، إذا تطرقنا لروايته الكاشفة الترجمان.
لكن في عمله الفريد أبي رسام خرائط، يبدو “أبو اليزيد” أكثر إغداقًا وكرمًا في إطلاعنا على المعنى والمبنى الحقيقي للخرائط بأنواعهاواختصاصاتها المختلفة، وفضل رساميها على البشرية كلها. إذ لكل شيء خريطة، في الجغرافيا، والديموغرافيا، والفلك، والزراعة، إلخ.. بحيث تكتشف أن العيش في الكون بلا خريطة قد يعني الضياع الحتمي. لكي تعرف حدود وطنك، لا بد لك من خريطة، وكي تعرف موقعكوموضعك، كما قال الراحل العظيم العلامة الشهيد “د/ جمال حمدان“، ولكي تعرف نوايا أعدائك، لا بد من أن تنظر في الخريطة. ترى، هلكان يقصد “أشرف أبو اليزيد” ذلك مع ظهور عمله في هذا الوقت الدقيق من تاريخ الوطنين الصغير والكبير المستهدفين؟
الرسائل المشفرة، والرموز، والعلامات
لا يشك كاتب السطور، ومن له دراية بأعمال “أشرف أبو اليزيد“، بأنه يهتم اهتمامًا خاصًا بالرسائل المشفرة والاستشراف أو التنبؤ، وهيمن سمات الأعمال الكبيرة كما عهدناها دائمًا. وهذا ما رأيناه من قبل في رواية “أبو اليزيد” شماوس التي استشرف فيها اندلاع ثورة ينايرالمصرية قبل حدوثها بسنوات، على سبيل المثال لا الحصر. واليوم، يعود لدق أجراس التحذير، منبهًا الجميع إلى أهمية الخرائط للحفاظ علىالوطن.

ومن زاوية أخرى، ينبه القارئ إلى ضرورة الإلمام بالرموز والعلامات والإشارات الدالة عليها عند رسم الخرائط أو قراءتها، لأنها بمثابة طوقالنجاة وقت الخطر وفي الملمات.
المغامرة في أبي رسام خرائط
في قراءة بسيطة لهذا العمل، الذي يناسب كافة الأعمار، نكتشف أن حديثي السن يمكنهم قراءته وتلقيه باعتباره مغامرة أو قصة بوليسيةينجو أبطالها بفضل درايتهم برسم الخرائط ورموزها وعلاماتها، وبفضل حبهم ومعرفتهم بالطيور والحيوانات الأليفة مثل الحمام الزاجلوالكلاب. وهذا مستوى معرفي وتربوي إيجابي يُحسب للمؤلف، إذ يحرص على تعليم الصغار أهميته.
التماس مع الواقعية السحرية وعالم الأساطير
وتأمل معي هذا الجزء من رواية أبي رسام خرائط كنموذج، أرجو ألا يبدو طويلًا:
*”كانت المساحةُ الخضراءُ الشاسعة تُمثّلُ حديقةً واسعة. أمعنتُ النظر في رموز الكائناتِ الموزعة بين الأركان، ولكن بعد كثير من التأمل يبدوأنني غفوتُ، فحلمتُ أنني أسبحُ كفراشةٍ بين رموز تلك الكائناتِ، أطاردُها وتطاردُني، ولأنني خفيفٌ، كنتُ أرفرفُ بجناحين، فلا تلحقُني.
لا أدري كيف كنتُ أمسكُ، وأنا أطيرُ، دفترَ الرسم الصغير، الذي أهداه لي أبي لأرسم الزهورَ والأشجارَ والحشراتِ والطيورَ، وكيفاستطعتُ أن أنقل على صفحاتِه مشاهدَ من رحلتي تحتَ سماءِ الحديقة، وفوق مياه غدرانِها، وبين غصون أشجارها.
وصلتُ إلى ركن الطيور المنقرضة في المحمية، حيث كتب أبي:
[الطيور المنقرضة في مصر]
“يبدو أنك غفوتَ يا رشيد! ماذا كنتَ ترى في أحلامك؟“
كان صوتُ أبي، الذي أنقذني من يد القردِ الأسود، وهي تمتد لتخطف مني القلم والدفتر. كانت رأسي تستندُ على المكتبِ. انتبهتُ. وبدأتُأحكي لأبي ما دار في المدرسة هذا الصباح.”*
في هذا الموضع من الرواية، الذي يحدثنا فيه المؤلف عن المحميات الطبيعية في مصر، ستجد ثراءً متدفقًا، تختلط فيه المعلومات بالرموزبالأحلام في تمازج بديع، لا تشعر معه بأي تضاد أو تنافر بينها. إنه تأكيد على البعد الإنساني النبيل للدور الأبوي الذي يمثل المنقذ فيالحقيقة والخيال، فصوت الأب هنا يمثل يد الأب “القوية الحانية” في آنٍ واحد، تمتد حتى في عالم الأحلام لتنقذ الابن من القرد الأسود. وصدق من قال إن الأب هو من يسند ظهر الأبناء، وفقدانه بمثابة كسر للظهر. فأي معنى إنساني نبيل حرص “أشرف أبو اليزيد” علىسريانه وتدفقه بين جنبات روايته الاستثنائية، دون أن يبدو هذا المعنى مخلًا أو خارجًا عن السياق.
“خرائط الأرض والسماء.. من الإدريسي إلى جوجل“
ضمن أحداث الرواية، نجد هذا العنوان لمؤلف من تصنيف “رشيد مسافر“، والد بطل الرواية. ومجددًا، نلفت نظر القارئ إلى دلالة الأسماءفي أعمال “أشرف أبو اليزيد“.
من خلال هذا العنوان الجذاب، الذي يمثل رواية داخل الرواية، يتجلى الجهد الجبار الذي بذله المؤلف للبحث في تاريخ رسم الخرائط وعالمهامنذ أقدم العصور. فنجد سيلًا متدفقًا من المعلومات الدقيقة، والمتخيلة، والأسطورية، طبقًا لتطور تقنية رسم الخرائط عبر العصور. وستجدأسماءً لأعلام رسامي الخرائط خلال الحقب التاريخية، كما ستتماس الأحداث مع الواقعية السحرية والأسطورة، لنصادف خرائط ألواحالطين في “بابل“، ونبوءات “فيثاغورث” عن استدارة العالم التي أيدها “أرسطو“، وخرائط اليوناني “كراتيس“، وصولًا إلى خرائط الألماني“مارتن بهايم” في القرن الخامس عشر، والخريطة المرسومة على بيضة النعامة المنسوبة إلى “ليوناردو دافنشي“، والتي تذكر مواضع“التنانين” والكائنات الأسطورية في المحيطات، ثم نصل إلى ثعابين البحر والوحوش المخيفة في جزيرة “آيسلندا“، و“الماموث” في خرائط“إبراهام أورتيليوس“.

كم هائل من المعارف والمعلومات، تتماس فيه الواقعية السحرية والأسطورة مع الحقائق الجغرافية، لنصل مع المؤلف والمؤَلَّف إلى عصرالشبكة العنكبوتية وخرائط “جوجل“.
إنه عمل جدير بتقدير رفيع وعرفان كبير، لدوره البالغ الأهمية في إثراء المكتبة العربية، كعمل لا بد أن يقتنيه كل من يسعى إلى العلم والمعرفة.